عندما رأى يوان سيريت وهي تتوسّل إليه ألّا يأخذ طفلها، تفاجأ للحظة.
يبدو أن سيريت تتذكّر حياتها السابقة. لا بدّ أن ما حدث في تلك الحياة السابقة قد غُرِس في قلبها بعمق، إلى درجة أنّها ما إن رأته حتى توسّلت إليه ألّا ينتزع طفلها منها.
شعر يوان وكأنّ قلبه يُطعَن بنصلٍ حادّ.
“آه…”
في تلك اللحظة، أمسكت سيريت بطنها وسقطت جاثية على الأرض.
“سيريت!”
أسرع يوان ليحيط كتفيها بذراعيه. وجثت هانا على ركبتيها في فزع، تتفحّص وجه سيريت.
“سيدتي، هل أنتِ بخير؟… يبدو أنّكِ ستلدين.”
لقد كانت تشكو من ألم في بطنها منذ قليل. شعرت هانا أنّ هذا أسوأ توقيت ممكن حقًا. أن يبدأ المخاض في اللحظة التي يظهر فيها الدوق.
“بطني…”
كانت سيريت، التي سبق أن خاضت هذه التجربة في حياتها السابقة، متيقّنة أن لحظة الولادة أصبحت وشيكة. وأخذت ترتجف وهي تزفر أنفاسًا متقطّعة.
“فلندخل أولًا.”
قال يوان ذلك وهو ينظر إلى هانا، ثم حمل سيريت مباشرة بين ذراعيه.
“آه… لا تأخذ طفلي. لقد أخطأت يا يوان سامحني. هذه المرة… أريد أن أحتضنه بين ذراعيّ.”
ورغم الألم العنيف الذي كان يعتصرها، تشبّثت سيريت بطرف ثيابه وتوسّلت إليه. هذه المرة، لم تكن تريد أن يُنتزع منها طفلها بأي ثمن.
“هذه المرة، سأضعه حقًا بين ذراعيك، هنري الصغير خاصتنا.”
حمل يوان سيريت واتجه بها نحو داخل المنزل. صعد الدرج بخطوات سريعة ودخل إلى غرفة سيريت حيث كانت ملابس الطفل موضوعة.
وبعد أن مدّد سيريت على السرير، التفت يوان إلى هانا. وبملامح متوتّرة، أصدر أوامره.
“استدعي القابلة أولًا.”
“نعم، سموّ الدوق.”
اندفعت هانا مسرعة وخرجت من الغرفة بارتباك.
“آه!”
اشتدّ المخاض بسيريت، فتلوّى جسدها وهي تطلق صرخة ألم. وفي لحظة قصيرة، غطّى العرق وجهها بالكامل.
أسرع يوان وأمسك بيد سيريت، وراح يمسح على شعرها المبلّل بالعرق.
“سيريت.”
قبّل يوان يدها بوجه يملؤه القلق. كان من الصعب عليه أن يرى معاناتها.
“إنه طفلي. يوان، إنه طفلي.”
قالت سيريت ذلك بوجه متوسّل وهي تنظر إلى يوان الذي يمسك بيدها.
كان خوفها من أن يُنتزع طفلها منها على يد يوان أشدّ من ألم المخاض نفسه.
“نعم، إنه طفلك.”
طفلك. طفلنا.
أومأ يوان برأسه وهو يشدّ قبضته على يدها.
ارتسمت على وجه سيريت ابتسامة ارتياح، لكنها ما لبثت أن اختفت، إذ داهمها ألم لا يُحتمل فأطلقت صرخة أخرى.
كان يوان يرتبك في كل مرة تصرخ فيها سيريت من شدّة الألم. لم يكن بوسعه أن يفعل شيئًا سوى أن يربّت على رأسها ويقبّلها.
حتى بعد وصول القابلة، استمرّت آلام المخاض لدى سيريت. وعلى الرغم من اضطراب وعيها، واصلت التوسّل إلى يوان راجيةً منه ألّا ينتزع طفلها منها.
وفي كل مرة، كان يوان يعدها بأنه لن ينتزع الطفل منها، لكنها على ما يبدو لم تكن تسمع جيدًا، فكانت تكرر أنه طفلها.
“ألم يحن الوقت بعد؟”
كان يوان على أعصابه. فقد مرّت خمس ساعات كاملة منذ بدأ المخاض، دون أن تبدو أي بادرة على خروج الطفل.
هل سيكمل الأمر عشر ساعات كما في الحياة السابقة؟
مسح يوان وجه سيريت المتألم بقلق.
في حياته السابقة، لم يكن إلى جانبها أثناء ولادتها، ولذلك لم يراها تمر بهذا القدر من الألم.
وعندما رآها من قرب الآن، شعر أن ما يحدث أمر لا يُطاق فعلًا. بل كاد أن يكره حتى الطفل الذي كان يسبب لها هذا العذاب.
وبعد مرور ساعات أخرى، وُلد الطفل أخيرًا.
سُمِع صوت بكاء خافت.
مسح يوان خدّ سيريت وقد بدا الارتياح على وجهه، ثم وجّه نظره نحو الطفل.
لم تكن حالة الطفل مختلفة عمّا كانت عليه في الحياة السابقة. وجه داكن كالحجر، صوت بكاء ضعيف، ومظهر يشبه دمية محطّمة، كما هو تمامًا.
في تلك اللحظة، جمعت سيريت ما تبقّى لديها من قوة وأمسكت بذراع يوان. فحوّل يوان نظره نحوها.
“لا تأخذوا طفلي….”
لم تُكمل سيريت جملتها حتى فقدت وعيها وسقطت مغشيًّا عليها.
بوجهٍ يفيض بالآسى، قبّل يوان جبين سيريت وربّت على رأسها.
في ذلك الحين، سمع يوان صوت هانا المرتجف بالبكاء.
“سمو الدوق، الطفل ليس بخير.”
نهض يوان من مكانه واقترب من الطفل. مدّ يده طالبًا أن تعطيه إياه، لكن هانا هزّت رأسها بعناد، ثم جثت على ركبتيها وبدأت تتوسّل.
“سيّدتي ستموت إن لم يكن الطفل معها. أرجوك، دعها تربيه بيديها.”
كانت سيريت قد أخبرت هانا أنها هربت من قصر الدوق لأنها كانت تخشى أن يوان وليديا قد ينتزعان طفلها منها.
لم تخبرها سيريت بسبب هذا الاعتقاد، لكن هانا ظنّت أن من المؤكد أن سيريت رأت شيئًا في دفيئة القصر جعلها تفكّر هكذا.
سيدتي فاقدة للوعي الآن، ولم يعد هناك من يحمي هذا الطفل سواي. يجب أن أحميه لكي لا تحزن سيدتي.
شدّت هانا الطفل بقوة إلى صدرها وضمّته.
“هذا ما سيحدث.”
قال يوان وهو ينظر إلى هانا من الأعلى.
سيريت إن لم يكن لديها طفلهم ستموت، أما هو فإن لم تكن لديه زوجته فسيموت.
لذلك كان عليه أن يمنحها طفلًا سليمًا بين ذراعيها.
“…لقد وعدت يا سمو الدوق.”
قالتها هانا بتردد، ثم شهقت نائحة ونهضت من مكانها. كان القلق لا يزال ظاهرًا على وجهها، لكنها سلّمت الطفل ببطء من حضنها إلى يوان.
أمسك يوان بالطفل، وتنهد بصوت منخفض عند رؤية هيئة هنري.
كان وجهه داكنًا بلا لون، وهو يتنفس بصعوبة. حتى صوت بكائه الخافت انقطع، فبدا الطفل وكأنه ميت.
‘هنري، لقد التقينا مجددًا. لن يستغرق الأمر وقتًا طويلًا هذه المرة.’
قبّل يوان جبهة هنري بحذر، ثم ناوله إلى هانا. بعد ذلك، اتجه نحو ديريك الذي كان ينتظر في الممر.
طلب يوان من ديريك قلمًا وورقة، ثم شرع بسرعة يكتب شيئًا ما. كان ذلك طريقة تصنيع الدواء الذي عالج به هنري.
ذلك الدواء الذي لم يكن له وجود في العالم بعد، كان يوان يعرفه أكثر من أي شخص آخر. مادته الأساسية، ونِسَب الخلط، وكل ما يتعلق بذلك الدواء كان محفوظًا في ذهنه بالكامل.
ما إن انتهى من الكتابة حتى ناول الورقة إلى ديريك.
“اذهب مع بزوغ الفجر إلى مستشفى العاصمة، وصنّع الدواء كما هو مكتوب هنا ثم أحضره.”
“نعم، سمو الدوق.”
نظر ديريك إلى يوان بوجه يملؤه الاستغراب للحظة، لكنه سرعان ما تقبّل الأوامر.
عاد يوان إلى غرفة سيريت. وأخبر هانا أنه سيبقى بجانب سيريت، وأن تأخذ الطفل معها وتغادر.
خرجت هانا من الغرفة وهي تحمل الطفل بوجه حزين.
حتى القابلة غادرت، وبقي يوان وسيريت وحدهما في غرفة النوم. جلس يوان على طرف السرير، وربّت على شعر سيريت التي نامت من شدة الإرهاق.
“هنري سيكون بخير. لذلك اطمئني ونامي بعمق.”
ثم طبع يوان قبلة على جبين سيريت.
***
استدار يوان وهو يحمل الطفل بين ذراعيه بوجه خالٍ من التعبير. وعلى مسافة غير بعيدة كانت ليديا تلوّح له بيدها وهي تبتسم.
حدّقت سيريت في ظهر يوان المبتعد بذهول. أرادت أن تقول إن الطفل طفلها، وأن تطالبه بإعادته، لكن صوتها لم يخرج.
“طفلي… طفلي هنري.”
تمتمت سيريت بذلك واستيقظت من نومها. وما إن فتحت عينيها حتى كانت أول فكرة خطرت في بالها هي الطفل.
وحين حاولت سيريت أن تجلس بصعوبة، أسرع يوان ليساندها ويساعدها على الجلوس.
“سيريت.”
وقعت نظرة يوان المفعمة بالحنان على سيريت.
لكن، وعلى عكسه، كانت نظرة سيريت وهي تنظر إليه مشحونة بالعتب.
“يوان، أين طفلي؟ أين هنري!”
رفعت سيريت صوتها.
كانت تخشى أن يكون يوان قد أخفى طفلها مرة أخرى. شعرت بالغضب وبالظلم معًا، فانهمرت الدموع من عيني سيريت.
ذابت تمامًا مشاعر شوقها له، ولم يبقَ في قلبها سوى العتب المتراكم.
“سيريت، اهدئي.”
أمسك يوان بكتفي سيريت محاولًا تهدئتها، لكنها صفعت يده بقسوة.
“أعد طفلي لي!”
“هنري بخير. سأطلب إحضاره.”
قال يوان ذلك بلطف محاولًا تهدئتها.
وعندما سمعت أنه سيعيد الطفل، نظرت إليه سيريت بوجه بدا أكثر هدوءًا قليلًا وقالت:
“هنري طفلي. لا أحد يستطيع أن يأخذه مني.”
انهمرت الدموع من عيني سيريت بغزارة.
تألم قلب يوان لرؤية دموعها، فاحتضنها بهدوء.
ندم على الحياة السابقة. لم يكن يعلم أن حرمانه سيريت من رؤية طفلها سيترك جرحًا عميقًا إلى حد أن يدفعها لإنهاء حياتها بنفسها.
“أنا آسف. كل هذا خطئي.”
عندها فقط فهم تصرّفات سيريت التي كانت ترفضه وتُشهر أنيابها في وجهه. بما أنها تحمل ذكريات حياتها السابقة، فلا بد أنها كانت تكرهه وتعاتبه.
ومهما أخبرها أنه يحبها، كانت تشكّ في ذلك ولا تقبله. ولهذا بالضبط هربت منه خوفًا من أن يُنتزع منها طفلها.
“أريد رؤية هنري. أرني هنري.”
انهارت سيريت باكية في أحضان يوان. كانت تشتاق إلى طفلها كثيرًا. أرادت أن تضمه إلى صدرها وتقول له إنها أمه.
أبعد يوان سيريت عن صدره ومسح دموعها.
“سأحضره.”
نهض يوان من مكانه وخرج من غرفة النوم.
ورغم أن الوقت الذي استغرقه يوان حتى عاد وهو يحمل الطفل كان قصيرًا جدًا، فإن سيريت شعرت وكأن دهرًا كاملًا قد مضى.
“هنري!”
نادَت سيريت اسم طفلها وهي تتبع بعينيها الطفل الذي يحمله يوان.
طفلي الذي اشتقت إليه كثيرًا، في الحياة السابقة وفي هذه الحياة أيضًا.
ناول يوان الطفل إلى سيريت بحذر. وحين احتضنت سيريت طفلها، فاض قلبها بالمشاعر. لقد كان الطفل الذي انتظرته بشوقٍ موجع.
طفلي. هنري خاصتي.
لكن عينا سيريت اتسعت وهي تتفحّصه. كان وجه الطفل مزرقًّا بالكامل، كأنه غير حي.
“لماذا حالُ الطفل هكذا؟ لماذا هنري على هذه الحال؟”
كانت الدموع تتساقط من عيني سيريت بلا توقف. رفعت نظرها إلى يوان وقد ارتعبت من هيئة الطفل.
جلس يوان على حافة السرير وأمسك بكتفي سيريت. وعندما رأى عينيها المرتجفتين بلا استقرار، انقبض قلبه.
“اسمعيني جيدًا، سيريت. طفلنا مريض قليلًا.”
“مريض؟”
كيف لطفل صغير كهذا، لم تمضِ على ولادته إلا مدة قصيرة، أن يكون مريضًا؟
شعرت سيريت وكأن قلبها يتمزق.
“لكنّه سيتحسّن. أنا سأجعل ذلك يحدث.”
قال يوان ذلك بصوت حازم.
اتجهت نظرة سيريت إلى الطفل بين ذراعيها.
كان وجهه الأزرق لا يبدو كوجه كائن حي على الإطلاق، فساورها الخوف، ولذلك لم تستطع أن تصدّق كلمات يوان بأنه سيتحسّن.
في تلك اللحظة تذكّرت سيريت كلمات السيدة غيلميما.
‘أو قد يولد الطفل بصحة غير جيدة.’**
عندما ذهبت لتسأل جارة إيف من قبيلة الهِلد، السيدة غيلميما عن الدواء الذي كانت ليديا قد أعطته لها، كانت قد سمعت تلك الكلمات بوضوح.
وحين تذكّرت ذلك، بدأ جسد سيريت يرتجف تحت وطأة الشعور بالذنب. بعد أن قضت ليلتها مع يوان، كانت قد تناولت دواء منع الحمل التي أعطتها لها صوفيا. يبدو أن الطفل وُلد هكذا بسبب ذلك.
“بسببي… كل هذا بسببي.”
بدأت سيريت بالبكاء وهي تضم الطفل إلى صدرها. كانت تشعر بالذنب تجاه هنري لدرجة أنها لم تعد تعرف ماذا تفعل.
ربّت يوان على كتف سيريت وواساها بصوتٍ لطيف.
“هنري سيكون بخير. اهدئي.”
“كيف تعرف ذلك يا سموّ الدوق؟ كيف تعرف؟!”
صرخت سيريت وهي تنظر إلى يوان. لم يكن أيّ كلامٍ مواسٍ قادرًا على تهدئتها.
نظر يوان إلى سيريت مباشرة وقال بصوتٍ حازم.
“لأنه كان كذلك في حياتي السابقة أيضًا. لكنني أنقذته. لقد أنقذت هنري خاصتنا.”
التعليقات لهذا الفصل " 132"