بعد أن عرف أن سيريت لم تكن على أي علاقة مع جاك كلارك، بدأ يُوان يشك في الرسائل التي أُرسلت باسمها.
كان هناك شخص ما يتعمّد أن يجعله يسيء الفهم، وبصراحة لم يخطر بباله سوى ليديا.
أراد أن يتحقق من الأمر عبر ساعي البريد في قصر الدوق، لكن كل ما عاد إليه من كبير الخدم هو أن ساعي البريد ترك العمل واختفت آثاره.
بدافع الاحتمال، طلب يُوان من ديريك أن يُجري فحصًا على وصيّة صوفيا ورسائل سيريت المزيفة.
“نعم، هنا أيضًا النتائج التفصيلية للفحص.”
قال ديريك وهو يشير إلى الأوراق.
تحقق يُوان من تقرير الفحص وقطّب وجهه. لقد ظن أنها مجرد فرضية.
إذا كانت الرسائل التي أرسلتها سيريت إلى جاك كلارك ووصية صوفيا قد كتبها الشخص نفسه، فالإجابة واضحة.
“ماذا أفعل؟ هل أبلغ الشرطة؟”
سأل ديريك بحذر.
كون الخطّ متطابقًا يعني أن وصيّة صوفيا كانت مُزوّرة. وإن كان الأمر كذلك، فكما قالت سيريت فاحتمال أنها لم تنتحر بل قُتلت كان مرتفعًا.
ثم الجاني هو…
“لا. ليس بعد.”
هزّ يُوان رأسه ونهض من مكانه واتجه إلى درج حفظ الرسائل.
راح يُوان يفتش الدرج ثم عاد إلى المكتب وهو يحمل الرسائل التي تلقّاها من ليديا. انتقى من بينها الرسائل التي تلقّاها خلال السنة إلى السنتين الماضيتين وناولها لديريك.
“اطلب فحص هذه الرسائل أيضًا. لترَ إن كانت مرتبطة بهذا.”
قال يُوان وهو يطرق على تقرير فحص الخط بمفاصل أصابعه.
“نعم، يا سمو الدوق.”
أومأ ديريك وهو يضع الرسائل التي سلّمه إياها يُوان بعناية داخل حقيبته.
وبينما كان ديريك يقوم بذلك، أصدر يُوان تعليماته الثانية.
“اطلب من السيد تاونسند أن يتحقق من قضية لوفي برونك بالتفصيل. وإن كان بالإمكان الحصول على وصيّته، فاحصل عليها وافحصوا الخط أيضًا.”
“نعم، فهمت.”
أجاب ديريك فورًا وكأنه فهم سبب إعطاء يُوان مثل هذه التعليمات.
بعد أن سلّم ديريك الأوراق المتعلقة بالأعمال والتي كان عليه مراجعتها وغادر المكتب، أطلق يُوان تنهيدة عميقة. ما إن تراكم الشك حتى صار خارج السيطرة.
كان ما ارتكبته ليديا شبه مؤكَّد. وجّه يُوان بصره نحو رسالة هندرسون التي ما زالت على المكتب.
قرأ يُوان رسالة هندرسون مرة أخرى. من بين السطور الطويلة، استوقفته فقرة واحدة.
“ليديا منغلقة في المنزل. لو جُنّت هكذا فلن يكون لديّ ما أتمناه أكثر. فسنزجّ بها في مصح عقلي ونأخذ إمرات، وهذا كل شيء.”
ربما كان ما تمناه هندرسون قد حدث بالفعل. استحضر يُوان صورة ليديا في طفولتها وارتسمت على وجهه ابتسامة مُرّة.
***
عاد يُوان متجهًا إلى العاصمة بعد ثلاثة أشهر من وصوله إلى الإقليم.
كان من المؤسِف جدًا أن يترك سيريت خلفه، حتى إنه لمح في الصباح أن ترافقه إلى العاصمة، لكنها رفضت قاطعًا.
بما أن الدوق غير موجود، فلا بد أن تقوم الدوقة بحماية إقليم الدوقية. كلمات منطقية جدًا لدرجة أنه لم يستطع الإلحاح أكثر.
وقفت سيريت التي خرجت لتوديعه بوجهٍ خالٍ من التعبير وحيّت يُوان.
“اذهب بسلام.”
صعد يُوان إلى العربة وهو يتلقى توديع سيريت. كان خلوّ وجهها من التعبير يثير شيئًا من الخيبة، لكن صوتها وهي تتمنى عودته بسلام جعل قلبه يلين حتى أنه كاد يأخذها معه إلى العربة.
“سأعود.”
مدّ يُوان يده إلى خارج العربة وقبّل ظهر يد سيريت. وفي النهاية عضّ طرف أصابعها بطريقة مازحة.
نظرت إليه سيريت وضحكت كأن الأمر لا يُصدق.
“سأعود سريعًا. كوني بخير.”
“نعم.”
أجابت سيريت مبتسمة وتراجعت خطوة للخلف.
كانت سيريت التي تودع يُوان تلوح له بيدها بوجه يحمل ملامح الأسى.
ومع الأسى، بدأ قلبها يشعر بالقلق. ألن يلتقي بليديا بمجرد وصوله إلى العاصمة؟ كان الأجدر بها أن تقول إنها سترافقه.
امتلأ قلبها بالندم، لكنها تظاهر باللامبالاة وهي تنظر إلى باب العربة يُغلق.
ما إن أُغلق باب العربة حتى ابتلع يُوان بصعوبة مشاعر الأسى، ونظر إلى المستندات التي كان يحملها.
التقط المستندات بيده، إلا أن ذهنه كان ممتلئًا بأفكار عن سيريت، فتبعثر تركيزه.
لم تعد سيريت مرئية أمامه، لكن يُوان ظل يرمق النافذة بنظرات جانبية بين الحين والآخر.
عندها فتح ديريك، الجالس مقابله، فمه بالكلام.
“هل أنتم مستاء إلى هذه الدرجة؟”
“على ماذا؟”
انتزع يُوان نظره من النافذة وسأل.
“يبدو أن علاقة سموك والدوقة قد أصبحت أفضل بكثير.”
ابتسم يُوان بخفة عند كلمات ديريك. إذا كان ديريك، الذي نادرًا ما يتحدث في الأمور الشخصية، قد ادلى ملاحظته عن الأمر فهذا يعني أن تحسّن العلاقة بات ظاهرًا حتى لغيرهما.
بعد مسابقة الصيد أصبح الأمر أشبه بعلاقة زوجين حقيقيين تمامًا.
مع أنه كان يفكر بين حين وآخر… بالرجل الذي زعمت سيريت أنها أحبّته.
“هذا مريح.”
“انه كذلك.”
ردّ يُوان على كلمات ديريك ثم أنزل نظره مجددًا إلى المستندات.
لم يعتقد أن قلب سيريت متجه بالكامل نحوه.
في تعابيرها العابرة كان يشعر بمسافة ما. وفي كل مرة يحدث ذلك كان يتساءل إن كانت تفكر في ذلك الرجل، فيحترق قلبه.
ومع ذلك، إذا استمرا على هذا النحو، فسيأتي وقت ما تُعطيه فيه قلبها. كان يُوان ينتظر ذلك اليوم.
***
لم يصل يوان إلى قصر العاصمة إلا في وقتٍ متأخر من بعد الظهر، فأرسل على الفور رسالة إلى هندرسون يخبره بأنه سيزوره غدًا، ثم أنجز بعض العمل وتوجّه إلى غرفة النوم أبكر من المعتاد.
بسبب رحلةٍ طويلة كان يظن أنه سيغفو بسرعة، لكن النوم لم يأتِ كما توقّع. تقلب يوان بجسده. لكون سيريت غير موجودة بجانبه كان يشعر بفراغٍ شديد.
“كان عليّ أن أحضرها بالفعل.”
ندم يوان بشدة على أنه لم يأخذ زوجته معه.
ماذا تفعل الآن؟ هل نامت؟ ماذا تناولت في العشاء؟ أي عطرٍ وضعت قبل أن تستلقي على السرير اليوم؟
الأفكار المتعلقة بسيريت تتابعت واحدة تلو الأخرى، ولم يغلق يوان عينيه إلا قُبيل الفجر.
***
التقى يوان بهندرسون في مكتب الإمبراطور وليس في قاعة الاستقبال.
أطلق الإمبراطور مزحةً قائلاً ان علاقتهم ليست رسمية لدرجة لقائهم في قاعة الاستقبال، لكنه لم يستطع إخفاء القلق الذي ارتسم على وجهه.
“لماذا بالضبط كان يجب أن يُكتشف حقل نفط في إمرات.”
تفوه هندرسون بالكلام بوجهٍ منزعج ثم أخرج تنهيدةً طويلة.
شرب يوان رشفة من الشاي ووضع الكأس بصوتٍ هادئ، بينما كان هندرسون يعبس ويواصل إفراغ تذمره.
“هل كان والدي يعرف ومنحها لي وهو على علم بذلك؟”
“لو كان يعلم لإنهى مشروع استخراج النفط قبل وفاته.”
“هذا صحيح.”
أومأ هندرسون برأسه على كلام يوان.
“هل ما زلت لا تنوي إبلاغ الآنسة إليوت…أقصد السيدة إليوت؟”
استخدم يوان لقب السيدة بدل لقب الآنسة الذي اعتاد نطقه.
في إمبراطورية ايلون، إن مات الزوج دون أن يترك أطفالًا، تعود المرأة قانونًا لاستخدام اسم عائلتها قبل الزواج. لذلك لم تُدعَ ليديا بـ السيدة برونك، بل بالسيدة إليوت.
“لا ينبغي إخبارها. لو علمت بذلك، هل تظن أن ليديا تلك ستتنازل عن امرات بسهولة؟“
“يجب ألّا تعرف أبدًا. أبدًا.”
“من الأفضل أن تشرحوا الوضع للسيدة إيليوت، وأن تقسّموا الأرباح الناتجة…”
“ولِمَ أفعل ذلك! لن أعطي تلك الفتاة فلسًا واحدًا. أنت أيضًا تعرف جيدًا كم كنت أعارض توريث دوقية إمرات إلى ليديا.”
هندرسون تفوّه بالكلام ووجهه مفعم بالانفعال.
وعلى عكس هندرسون المنفعل، أعاد يوان السؤال بوجه هادئ.
“فما الذي تعتزم فعله إذًا؟”
“لتقم أنت بحلّها.”
“أنا؟”
يوان قطّب جبينه قليلًا.
كان يرى أن من الواجب على هندرسون أن يمنح لليديا حقها من المال بشكل عادل.
“تلك التي كانت تصرخ وتجنّ بأنها لن تتزوج أبدًا من لوفي برونك، تزوّجته فورًا فقط لأنك قلت لها أن تتزوج.”
“جلالتك، ذلك كان…”
“ليديا لا تصغي إلا لك. لو قلت لها أن تعيد امرات إلى البلاط الإمبراطوري فستفعل ذلك.”
“لقد كانت امرات آخر ما تركه لها جلالة الإمبراطور الراحل، لن تتخلى عنها بهذه السهولة.”
“ولهذا حاول كسبها خطوةً خطوة. اصطحبها إلى الدوقية وأقنعها جيدًا.”
“……”
“بالطبع يجب أن تتولى عائلة فريكتويستر استخراج النفط. إذا أقنعتَ ليديا جيدًا فسيكون الأمر كافيًا.”
حين لم يرد يوان، أسرع هندرسون بإضافة كلامه بوجه يحمل القلق.
بالطبع كان استخراج النفط مشروعًا مُغريًا. في المستقبل سيُستخدم النفط في مجالات أكثر، لذا كان من الأفضل الاستحواذ عليه قدر الإمكان.
لكن يوان لم يستطع أن يجيب مباشرة بأنه سيقوم بذلك.
إذا فكر من زاوية الأعمال، فالإجابة فورًا هنا بأنّه سيقوم بذلك ستكون الخيار الصحيح، لكن بسبب كون الأمر متعلقًا بليديا كان متردد.
هل سيكون من الجيد حقًا أن يرتبط بليديا بهذه الطريقة؟ ليديا التي كانت شخصًا أخطر بكثير مما توقع.
قد تكون ليديا متورطة بعمق في موت صوفيا ولوفي برونك. بالإضافة إلى ذلك، كانت مشاعر ليديا العمياء تجاهه عبئًا عليه.
مهما كانت الأرباح التجارية، لم يكن يريد أن يرتبط بليديا قدر الإمكان.
“سأفكر في الأمر قليلًا.”
“وأنا لا أرغب بأن ألطخ يدي بالدماء. ومع ذلك، فهي طفلة تحمل دم والدي، فلا حاجة لإنهاء حياتها بطريقة بائسة”
بعد سماع التلميح الخفي من هندرسون إلى احتمال قتل ليديا، شدّ يوان قبضته حول فنجان الشاي.
***
غادر يوان، وقضت سيريت أيامًا هادئة. كانت أيامًا هادئة ومريحة، لكنها قليلًا ما كانت تشعر بالفراغ وبشيء من الوحدة.
كانت سيريت تغرق في التفكير بينما تقوم بالتطريز. لقد مضى وقت طويل منذ أن عاشت في مقر الدوقية. الشتاء يزداد عمقًا، وعلاقتها مع يوان أصبحت أكثر عمقًا.
في الآونة الأخيرة، كانت علاقتها مع يوان في غاية الجمال. بدأ يراودها شعور بأنه ربما، على خلاف حياتها السابقة، لن تُقتل بالسم، بل ستعيش حياة زوجية سعيدة إلى جانب يوان.
أهو أملٌ زائف؟‘
تمتمت سيريت في شرود، وإذا بها وخزت إصبعها بالإبرة.
“آه.”
أطلقت سيريت أنينًا خافتًا ووضعت الإصبع الذي تجمع فيه الدم في فمها. في تلك اللحظة، انتشرت رائحة الدم داخل فمها بقوة، مما جعل معدتها تنقلب.
كانت رائحة الدم مقززة إلى حد لا يُحتمل، فوضعت سيريت يدها على فمها وركضت نحو الحمام.
حين رأت هانا سيريت تركض في الممر ويدها تغطي فمها، اتسعت عيناها.
“سيدتي!”
دخلت هانا بخطوات مسرعة إلى الحمام خلف سيريت، وراحت تربّت على ظهرها وهي تتقيأ.
وحين هدأت معدتها المتقلبة قليلًا، مضمضت سيريت فمها بالماء. لم تكن تتوقع أن رائحة الدم يمكن أن تحك معدتها بهذا الشكل.
التعليقات لهذا الفصل " 110"