بعد أن أنهت الاستحمام، كانت سيريت تحدق بشرود في المدفأة التي أشعلتها الخادمة وغادرت. في تلك اللحظة، حطَّ شال على كتفيها.
عندما التفتت خلفها، كان يوان قد وضع الشال حول كتفيها.
“ستُصَابين بالبرد. الأمر يختلف عن موشيلي.”
“صحيح، إنه مختلف.”
قالت سيريت بابتسامة خافتة وتجاوزت يوان متجهة نحو السرير.
ربما بسبب ركوب القطار مدة طويلة، أو بسبب عودتها نفسيًا إلى المكان الذي ماتت فيه في حياتها السابقة، كانت متعبة وتشعر بالخمول.
“هل أنتِ مرهقة؟”
“نعم، أظن أنني سأخلد للنوم.”
أجابت سيريت يوان واستلقت على السرير.
الغطاء الذي قام الخدم بتدفئته دافئًا ومريحًا.
“تصبحين على خير.”
كان يوان ينظر إلى سيريت الغارقة في السرير. لم يبرز خارج اللحاف سوى وجهها الصغير، فبدت كأنها حيوان صغير. مثل أرنب أو سنجاب مغطّى باللحاف، فارتفع طرف فم يوان.
سيريت أومأت برأسها فقط من دون أن تجيب وهي مغمضة العينين. ذلك المشهد كان لطيفًا أيضًا، فلم تنزل زاوية فم يوان.
أمسك يوان بمقبض الباب ليغادر غرفة النوم، ثم استدار وعاد إلى السرير من جديد. انحنى وقبّل جبين سيريت.
ارتجفت سيريت وفتحت عينيها. التقت نظراتها بنظرات يوان المليئة بالمودّة. ابتسامته الناعمة كانت حانية بلا حدود، وكادت هذه الإبتسامة جعل سيريت تبكي.
سلوك يوان الذي كان مختلفًا تمامًا عن حياتها السابقة جعلها تشعر بلا سبب بالحزن.
“إنها قبلة قبل النوم.”
حتى عند سماع تلك الكلمات، لم تقل سيريت شيئًا، بل اكتفت بهزّ رأسها. لو تحدثت، شعرت أن الدموع ستنهمر معها ولم تستطع فتح فمها.
انحنى يوان مرة أخرى وقبّل خدّ سيريت ثم همس في أذنها.
“اتمنى أن تحلمي أحلامًا جيدة.”
بعد أن أنهى تحيّته الحنونة، غادر يوان غرفة النوم.
سيريت التي تُركت وحيدة غطّت نفسها باللحاف حتى أعلى رأسها وبكت بصمت. عندما جاءت إلى الإقليم حيث لاقت حتفها في حياتها السابقة، أصبحت في كل لحظة تخلط بين ما إذا كان هذا هو الماضي أم الحاضر.
يوان كان شديد اللطف بخلاف حياته السابقة، لكن سيريت لم تكن متأكدة إن كان يمكنها الوثوق بتلك اللطافة.
هل سيخدعني بكلمات الحب وبالتصرّفات اللطيفة ثم يغرس السكين من جديد في قلبي؟ ماذا لو كان كل هذا مسرحية قاسية لخداعي؟
بينما كانت تبكي على تلك الأفكار، غفت سيريت من غير أن تشعر.
***
عاد يوان إلى غرفة النوم بعد إنهاء عمله، وصعد إلى السرير حيث كانت سيريت نائمة. يوان تمدد بجوارها بحذر كي لا يوقظها، وأخذ يتأملها.
كانت سيريت تتنفس بهدوء شديد،
غمره شعور بالمودة نحوها، فانحنى وقبّل رأسها.
رائحة سيريت الحلوة لامست طرف أنفه.
“هاا”.
استلقى يوان على ظهره وحدّق في السقف وهو يتنهد. لم يكن يعرف حتى الآن ما نوع العذاب الذي عليه تحمّله لينام في سرير واحد مع سيريت.
أن تكون زوجته بجواره، تتنفس بانتظام وهي نائمة، دون أن يستطيع لمسها بطرف إصبعه، كان أشبه بالتعذيب.
بإختصار، هذه الليلة لن يذوق طعم النوم.
رفع يوان ذراعه إلى جبهته وضحك بخفة. بما أنه عذاب اختاره بنفسه فليس أمامه إلا تحمله، لكن ليالي الشتاء في الإقليم كانت طويلة على نحو استثنائي.
حاول يوان ألا يفكر في سيريت الممددة بجانبه بقدر ما أمكنه، وقد نجح ذلك إلى حد ما وبدأ ينعس، إلا أن مشكلة أخرى ظهرت.
كانت سيريت تنكمش من الهواء البارد حتى اندست في حضن يوان. تجمد جسد يوان. غير معتاد على ذلك، توتر للحظة ثم احتضن سيريت التي لجأت إلى دفئه.
جسد صغير ولين.
عندما دخلت سيريت الدافئة والطرية إلى حضنه، شعر يوان بأن خيط عقله يصبح أرق بسرعة.
“ها.”
أطلق يوان تنهيدة عميقة.
هذا حقا…
أدرك يوان لأول مرة أن الغريزة والعقل يمكن أن يتصارعا بهذا العنف.
أفضل طريقة في هذا الوضع هي أن ينزل من السرير ويغادر الغرفة لكنه لم يستطع ترك سيريت التي اندست في حضنه بسبب البرد.
ما يستطيع يوان فعله الآن هو فقط قمع غريزته بقوة العقل وأن يكون مدفأة دافئة لزوجته.
“لا خيار لدي، يجب أن أتحمل.”
تمتم كأنه يتنهد وضم سيريت بقوة أكبر.
مرت ليلة العذاب ببطء.
***
شعرت بأصابع تلامس شعرها بخفّة، ففتحت سيريت عينيها ببطء. كان ضوء الشمس الداخل من النافذة ساطعًا بما يكفي لتدرك بشكل غريزي أنه وقت الظهيرة.
“هل نمتِ جيدًا؟”
وصلها صوت يوان. في صوته شيء ما يدل على التعب.
جلست سيريت رافعةً جسدها. كان وجه يوان، المتكئ على رأس السرير، يبدو متعبًا بقدر ما بدا في صوته.
“هل كنت تعمل حتى وقت متأخر؟”
سألت سيريت وهي تنظر لوجه يوان المتعب. ضحك يوان ضحكة قصيرة وأومأ برأسه.
“يمكنكِ قول ذلك.”
لم ينام يوان الذي لعب دور المدفأة ازوجته إلا مع طلوع الفجر. لم يكن نومًا عميقًا، فكان يستيقظ فور تحرك سيريت حركة صغيرة.
بعدها ظل يتأمل سيريت النائمة ويلمس شعرها ووجهها كما يشاء.
“تبدو متعبًا.”
“أنا متعب.”
“إذن نم قليلًا.”
“بعد الإفطار عليّ أن أتفقد موقع الصيد والإقليم، سيكون لدي أعمال لفعلها.”
عند إجابته ألقت سيريت عليه نظرة مشفقة. كان دائمًا كثير الانشغال سواء في العاصمة أو في إقليم الدوقية.
لاحظ يوان نظرات الأسف التي ظهرت في عيني سيريت، فضمّها إلى صدره.
دفنت سيريت نفسها في حضن زوجها وقطّبت أنفها باستياء.
“ما الذي تفعله؟”
كانت سيريت تحاول أن تخرج من بين ذراعي يوان، لكنه شدّ عليها أكثر وأخذ يطبع القبلات مرارًا على رأسها. بما أنه عانى طوال الليل كمدفأة، فربما يحق له أن يطلب هذا القدر من الدلال.
“قلت لك ما الذي تفعله؟”
“فجأة أشعر بالظلم.”
“ظلم؟ ماذا تقصد؟”
سيريت، التي لم تكن تعلم شيئًا عن أحداث الليلة الماضية، ابتعدت قليلًا ونظرت إليه وكأنها لا تفهم ما يقول.
“عذّبتِني طوال الليل ثم تنظرين إليّ الآن بعيون لا تعلم شيئًا.”
“أنا عذّبتك يا دوق؟”
“بفضلك لم أنم لحظة واحدة. ليس بسبب العمل، بل بسببك أنت.”
“هاه؟”
ارتجفت سيريت عند سماع كلمات يوان.
حين علمت أنه لم ينم بسببها، راودتها كل أنواع الأفكار. هل هذَت أثناء النوم؟ هل شخّرت أو صرّت أسنانها؟ أنا؟
حرّكت سيريت عينيها بارتباك. احمرّ وجهها فوراً من شدّة الإحراج.
“لقد كانت الليلة الماضية رائعة.”
“ماذا فعلتُ بالضبط؟”
سألت سيريت بصوت مرتبك، غير مدركة أنه يمازحها.
وعند رؤية ارتباكها الواضح لم يستطع يوان التوقف عن اللعب، فضمّها إلى صدره وتمدد على السرير.
“يوان!”
شهقت سيريت وحاولت الإفلات من ذراعيه.
لكنّه أحكم قبضته عليها ولم يتركها. واحتضنها كما في الليلة السابقة.
“سأريك بجسدي ما الذي فعلتهِ بي ليلة أمس.”
“هل تقول إنني احتضنتك يا سمو الدوق؟”
احتجّت سيريت وهي تتخبط بين ذراعيه، مقتنعة بأنها لم تفعل شيئاً كهذا.
فأحاطها يوان بذراعيه، وأسند يديه إلى جانبي رأسها وهو ينظر إليها من أعلى.
“طوال الليل كنتِ تغوصين في حضني.”
“أنا؟”
“نعم، أنتِ.”
لمعت نظرة يوان الماكرة نحو سيريت.
تغيّرت ملامح وجهها لكن يوان كان واثقاً لأنه لم يقل شيئاً غير الحقيقة.
“هذا غير ممكن.”
“ولكنه حدث بالفعل.”
“لأنني فعلت ذلك… لم تقم بفعلٍ غريب، صحيح؟”
لم تكن مخمورة، ولو أنه فعل شيئًا غريبًا لكانت علمت فورًا، لكن سيريت ضيّقت عينيها ونظرت إلى يوان تحسبًا.
“شيء غريب… مثلًا…”
انحنى يوان والتهم شفتيها. رشفهما برفق، ثم رفع رأسه وأكمل.
“كهذا؟”
كان صوته المنتشر برقة مثقلاً بالإغراء، فابتلعت سيريت ريقها بتوتر دون أن تشعر.
“…هل فعلت هذا؟”
“من يدري. لا أتذكر جيداً..”
وقع بصر يوان على شفتي سيريت المتوهجتَين. تساءل في نفسه متى سيستطيع امتلاك هذه الشفاه الجميلة.
اقترب يوان مرة أخرى ببطء من سيريت حتى كادت شفاههما أن تتلامس.
قبضت سيريت على شرشف السرير. كان قلبها يخفق بسرعة، وتحركت حدقتاها بتوتر. كان عليها أن تدفعه بعيدًا، لكن جسدها تيبس فلم تستطع التحرك.
لامس يوان شفتيها بخفة ثم رفع جسده. إن رفضته، فلن يستطيع التوقف.
نزل يوان من السرير وحدّق في سيريت بوجهٍ بلا تعبير، لكن داخله كان يغلي بغريزة مشتعلة. جسده كذلك.
تظاهر يوان وكأنه غير متأثر، واستدار متجهًا نحو الحمّام.
كان قلقًا من إن كان سيستطيع أن يكون مدفئة دافئة وآمنة لزوجته هذه الليلة أيضًا.
ظلت سيريت تحدّق بهدوء في ظهر يوان وهو يتجه إلى الحمّام، ثم رفعت جسدها وجلسَت. تدفقَت الحرارة إلى وجهها.
رفعت سيريت يدها إلى خدّها وأطلقت تنهيدة عميقة.
***
استمرت الأيام المزدحمة بسبب التحضير لمسابقة الصيد الشتوية.
كان يجب كتابة الدعوات، وتجهيز المستلزمات اللازمة لمسابقة الصيد، كما كان يجب التحضير للوليمة وحفل الرقص الذي سيقام بعد المسابقة، فكان الأمر مرهقًا للغاية.
كان يوان يغادر القصر كثيرًا في النهار لتفقد الإقليم، وفي الغالب كان يناقش مع سيريت ليلًا مختلف الأمور المتعلقة بمسابقة الصيد.
أما الغرفة التي قالت سيريت إنها ستستخدمها فقد استغرق تجهيزها وقتًا طويلًا، لأن دهان الجدران وتصليح الأرضية كانا يُعادان من جديد.
رفضت سيريت ذلك قائلة إنه لا ضرورة له، لكن يوان أصرّ على وجوب القيام به ولم يستمع إلى كلامها.
وبفضل ذلك، استخدمت سيريت السرير نفسه مع يوان لفترة أطول مما توقعت. ومع أنه كان يعاني دائمًا من نقص النوم بسبب كونه المدفأة الدافئة لزوجته، لكنه كان راضيًا جدًا بذلك.
طاااق!
شقّ صوت إطلاق النار الهواء. خفضت سيريت البندقية متفاجئة ثم رمشت بعينيها.
هناك في البعيد، اهتزّ كتلة الخشب الموضوعة فوق الطاولة قليلًا ثم استقرّت في مكانها.
“سيدتي، يبدو أنكِ أخطأتِ الهدف.”
“إنه أمر مؤسف حقًا.”
اقترب كلًا من هانا وإيف بحسرة كبيرة.
كانت سيريت تتدرّب على الرماية في الفناء الخلفي.
كان من التقاليد القديمة أن تطلق الدوقة النار على تمثال ثعلب خشبي للإعلان عن بدء مسابقة الصيد.
وفي حياتها السابقة حاولت خمس مرات لكنها لم تصب تمثال الثعلب الخشبي. وفي النهاية أصابه يوان بدلًا عنها لتبدأ مسابقة الصيد.
شعرت سيريت بعناد بلا سبب، وكانت مصممة هذه المرة على النجاح مهما حصل. كان قائد حرس القصر يدربها على الرماية بين حين وآخر، وكانت مهارتها تتحسن تدريجيًا.
“صحيح، كنت سأصيب الهدف.”
كانت سيريت تشعر ببالغ الأسف لأن كتلة الخشب لم تصب. لو أنها ركزت قليلًا أكثر لكانت أصابت الهدف.
“سأجرب مرة أخرى.”
قبضت سيريت يدها بحزم. تراجعت إيف وهانا خطوة إلى الخلف، ثم أعادت سيريت وضعيتها وضغطت على الزناد.
اخترقت الرصاصة الهواء بسرعة لكنها لم تجعل كتلة الخشب تتحرك هذه المرة.
“لم يلمسه حتى.”
أنزلت سيريت البندقية، وتراجع شعورها بالثقة بشكل حاد. وبينما كانت تشعر بالإحباط، جاءها صوت يوان من خلفها.
التعليقات لهذا الفصل " 101"