نزل يوان أولًا من العربة ثم التفت نحو سيريت. عند رؤية وجه سيريت الشاحب تجعّد حاجباه قليلًا. حالة سيريت لم تكن جيدة طوال الطريق.
“هل تشعرين بتوعك شديد؟”
“لا. أنا بخير.”
هزّت سيريت رأسها قليلًا وكأنها تحاول استعادة وعيها، ثم أمسكت بيد يوان ونزلت من العربة.
ما إن نزلت من العربة حتى وقع نظرها على قصر فريكتويستر المهيب.
القصر المحاط بالبحيرة كان لا يقل هيبة عن القصر الإمبراطوري.
الأعمدة الأربعة الحجرية للمبنى كانت أبراجًا عالية تعلوها قباب، وعلى كل برج تمثال نسر يمثل شعار عائلة فريكتويستر.
وخلف المبنى امتدّت حديقة واسعة بلا نهاية، تضم نافورة ضخمة ودفيئة كبيرة.
انعكس الخوف في عيني سيريت وهي تنظر إلى قصر فريكتويستر. عاد إليها ذكرى لحظة موتها فاختنق نفسها. انتشر الخوف في كامل جسدها فأمسكت بطرف فستانها بقوة.
في تلك اللحظة، وضع يوان فجأة كفه على جبين سيريت. عند تصرف يوان، التفتت نحوه.
“لا يوجد حمى. من الأفضل أن ترتاحي.”
أمسك يوان بيد سيريت بوجه يحمل القلق ووضعها على ذراعه.
ومع خطوات حذرة، أخذها يوان وعبر بها الجسر الذي يمر فوق البحيرة متجهًا نحو البوابة الرئيسية.
ما إن تجاوزا البوابة المفتوحة حتى انحنى خدم قصر فريكتويستر الذين كانوا ينتظرون في الساحة الأمامية الواسعة بتحية رسمية لكليهما.
وفقًا للأعراف كان عليهما تبادل التحية ثم دخول المبنى، لكن يوان أجّل التحية الصحيحة بحجة أن صحة سيريت ليست جيدة.
خلف يوان وسيريت دوّى صوت همس الخدم، يتحدثون بقلق عن أن السيدة الجديدة ضعيفة الجسد على ما يبدو.
حين دخل يوان إلى داخل القصر، أخذ سيريت إلى غرفة الدوقة.
أشار إلى الباب المغلق بإحكام ثم فتح فمه قائلًا.
“هذه غرفة زوجتي. وغرفتي في نهاية ذاك الممر.”
وجّه يوان نظره إلى الغرفة الواقعة في نهاية الممر. في قصر العاصمة كانت غرفة الزوجين متصلة، لكن في قصر الإقليم كانت بعيدة تمامًا، وهذا ما لم يعجبه.
“نعم.”
ارتجف صوت سيريت وهي تجيب.
في هذه الغرفة انتهت حياتها السابقة. شعرت أنه بمجرد فتح الباب ستكون هناك شاي مخلوط بالسم مُعدّ لها، لذلك كانت تخشى أن تدخل.
دون أن يعرف شيئًا عن مشاعر سيريت هذه، فتح يوان الباب. فتح الباب على مصراعيه، وفاحت رائحة زهور الستوك بقوة.
الستوك هو الزهرة التي يستخدمها خدم قصر الإقليم غالبًا في تنسيق الزهور. لذلك كانت رائحة الستوك تعبق كثيرًا في غرفة سيريت.
مع اقتراب رائحة الستوك من أنفها، عضّت سيريت شفتها. استنشاق تلك الرائحة جعلها تشعر وكأنها عادت للحياة السابقة في تلك اللحظة.
سارت سيريت بخطوات مرتجفة ودخلت غرفة الدوقة.
كل شيء داخل الغرفة كان كما هو. ستائر المخمل البنفسجية على النوافذ لصدّ البرد، السرير الكبير ذو القبة، والأثاث والزخارف العتيقة.
ثم الطاولة التي متّ عليها.
وقعت نظرات سيريت على الطاولة التي جلست أمام ليديا فيها آخر مرة وشربتا الشاي.
شعرت أن السم ينتشر في عروقها ويجتاح جسدها، فتمايل جسدها. أصبح التنفس صعبًا عليها. وكأن أحدًا كان يمسك بعنقها.
في تلك اللحظة جاء صوت يوان من خلفها.
“هل أطلب إشعال المدفأة؟”
استدارت سيريت ببطء إلى الخلف. رأت يوان متكئًا على إطار الباب واقفًا بكتفه على نحو مائل.
عند رؤية يوان اختلط على سيريت إن كانت الآن في حياتها السابقة أم في الحياة الجديدة التي مُنحت لها.
هل هذا الرجل هو من قتلها، أم هو من قال إنه يحبها؟ تشوّش رأسها حتى امتلأت بالارتباك.
“سيريت؟”
كان منظر سيريت وهي تكتفي بتحريك نظراتها هنا وهناك دون أن تجيب غريبًا، فاقترب يوان بوجه مستغرب.
وعندما وضع يده على كتفها، ارتجفت سيريت مذعورة وضربت يد يوان بعيدًا. عندها عقد يوان حاجبيه قليلًا، ثم أمسك كتفها من جديد.
“ما الأمر؟ إذا كانت حالتك الجسدية سيئة جدًا فسأطلب الطبيب.”
“يا سمو الدوق، لا أحب هذه الغرفة. لا أريد استخدامها.”
لم تكن سيريت في كامل وعيها. لم يكن لديها القدرة على قضاء أيامها في غرفة ماتت فيها، تنام وتستيقظ كل يوم داخلها.
ستعود إليها ذكريات الموت كل يوم لتخنقها. وكانت سيريت تعرف جيدًا أنها لن تتحمّل ذلك.
دفعت سيريت يوان وركضت إلى الخارج. شعرت وكأن ظل الموت يمسك بكاحلها ويجرّها نحو قدر لا يمكن الهرب منه، فأرادت الفرار.
ما إن خرجت إلى الممر حتى أمسكها يوان بسرعة. أمسك يوان كتفيها بلطف وأدارها نحوه ونظر إليها بعينين قلقتين.
“إذا لم تعجبك هذه الغرفة، فاستعملي الغرفة التي تريدينها.”
“…نعم.”
“سأطلب من كبيرة الخدم أن ترشدك إلى الغرف، فاختاري الغرفة التي تروق لك.”
“لا، أنا…”
نظرت سيريت إلى الغرفة المقابلة. ثم مشت ببطء نحوها.
سار يوان خلفها بصمت.
توقفت سيريت أمام الباب. كانت تلك الغرفة هي الغرفة التي كانت قد زُيّنت لتكون غرفة الطفل.
عندما وُلد الطفل، أخفاه يوان فورًا، ولم يوجد الطفل في هذا المكان قط، لكن بالنسبة لسيريت كان هذا المكان يحمل فقط ذكريات دافئة. لقد كانت سعيدة جدًا عندما قامت بتجهيز هذه الغرفة.
فتحت سيريت الباب ودخلت.
كانت الغرفة فارغة تمامًا بلا قطعة أثاث واحدة، لا يوجد أي أثر للطفل ولا حتى دفء المكان. ومع ذلك شعرت سيريت بأن قلبها ينتفخ.
في حياتها السابقة، اشترت سرير الطفل، واستبدلت الستائر السوداء الكئيبة بستائر صفراء، وفرشت بساطًا مُطرّزًا عليه دمى الدببة، وكانت تنتظر طفلها الذي سيولد.
في هذا المكان فقط، عندما كانت تقضي وقتها هنا، كانت تستطيع أن تكون سعيدة وهي لا تفكر إلا في الطفل. مهما فعل يوان وليديا داخل القصر.
“أنا أحب هذه الغرفة. سأقيم في هذه الغرفة.”
نظرت سيريت إلى يوان. بما أنها المكان الوحيد داخل القصر الذي استطاعت أن تكون فيه سعيدة، أرادت أن تعيش هنا.
أومأ يوان وكأنه فهم.
“سأجعلهم يجهزونها. ولكن سيستغرق الأمر عدة أيام…”
“سأقيم في غرفة الضيوف.”
“ما رأيك أن يكون لديك بعض الإدراك بأنك سيّدة هذا المنزل؟”
ابتسم يوان بخفة وأمسك بيد سيريت.
قادها نحو غرفة النوم، وارتسم ضوء رضا على وجهه.
كانت الغرفة بعيدة وهذا لم يعجبه، لكن الآن وُجد عذر جيد ليستعملا غرفة نوم واحدة معًا.
وربما يكون من الجيد أن يستعملا الغرفة نفسها منذ الآن.
“هذه غرفة دوق القصر، أليس كذلك؟”
عندما دخلت سيريت غرفة نوم يوان، نظرت حولها. حتى هنا، لم يتغير شيء وبقي كما كان.
في الحقيقة، غرفة نوم يوان لم تكن مكانًا مريحًا بالنسبة لها أيضًا.
ففي إحدى الليالي التي لم تستطع النوم فيها، رأت ليديا وهي تدخل غرفة نوم يوان.
خطرت على بالها ذكرى من حياتها السابقة، وهي تعانق بطنها المنتفخ وتبكي بحزن، فابتسمت سيريت ابتسامة مُرة.
“إنها غرفتي.”
“كنت سأبقى في غرفة الضيوف…”
“فقط استعمليها لبضعة أيام لا أكثر. ما الأمر الكبير في أن تستخدمي غرفة زوجك.”
“الأمر ليس كبيرًا… حسنًا، سأفعل.”
أجابت سيريت بابتسامة خفيفة على هيئة قبول، بعدما رأت مظهر يوان وكأنه يتذمر.
كان يوان وهو يتذمّر يبدو لطيفًا على غير عادته، فخرجت منها ضحكة خافتة.
حسنًا… غرفة كان يلهو فيها الزوج مع عشيقته ليست أمرًا عظيمًا، مقارنةً بأن يتم تسميمي حتى الموت. على الأقل لم أُسمّم في هذه الغرفة.
عند إجابة سيريت، ارتفعت ابتسامة لطيفة على شفتي يوان أخيرًا. كان متحمسًا وسعيدًا بمجرد التفكير أنه سيستخدم الغرفة مع زوجته.
“استريحي. يجب أن أنزل لأتلقى تقرير مدير الاقليم.”
طبع يوان قبلة على خد سيريت، وبوجهٍ سعيد خرج من غرفة النوم.
غير مدرك أن وجه سيريت خلفه كان ممتلئًا بالحزن.
***
كانت سيريت تتناول طبق المحار حين شعرت بنظراتٍ عليها، فرفعت رأسها. التقت عيناها بعيني يوان الجالس في المقابل.
كانا على مائدة العشاء. جميع الأطباق المقدّمة كانت ممتازة، وبفضل ذلك كانت سيريت تستمتع بالمذاق. لو فكرت في الأمر، حتى في حياتها السابقة كان طعام الدوقية دائمًا رائعًا.
“لماذا تنظر هكذا؟ هل لديك ما تقوله؟”
“يبدو من الجميل رؤيتك تأكلين جيدًا.”
أخذ يوان جرعة من النبيذ ثم وضع الكأس.
لهجته كانت بلا مبالاة ووجهه بلا تعبير، لذلك لم تستطع سيريت أن تفهم هل يقصد ذلك حقًا أم يقوله من باب المجاملة فقط.
“أطباق قصر الإقليم لذيذة.”
“حتى في طفولتك، كنتِ تأكلين جيدًا.”
ابتسم يوان وهو يستحضر الطفلة التي كان يراها كل شتاء خلال بطولة الصيد.
في كل مرة يصادفها فيها بين حين وآخر، كانت الفتاة دائمًا تمسك شيئًا لتأكله في يدها. حتى في الغداء أو العشاء، كانت الفتاة تأكل الطعام بمتعة وبشكل جيد جدًا.
“هل تتذكر شكلي في طفولتي؟”
قالت سيريت وهي تضع الشوكة جانبًا، وقد وجدت الأمر غير متوقع.
كانت بطولة الصيد ذات حجم كبير. كثير من العائلات كانت تحضر، وكان عدد الأطفال كبيرًا أيضًا.
لذلك اعتقدت سيريت أن يوان لن يتذكرها في طفولتها.
وكانت في تلك اللحظة تفكر أنه ربما حتى ليلة الثلج التي التقيا فيها لن يتذكرها، لذا كان كلام يوان مفاجئًا لها.
“أليس هذا أمرًا بديهيًا؟”
نظر يوان إلى سيريت التي اتسعت عيناها مثل الأرنب، وضحك ضحكة خفيفة.
كانت فتاة ذات عينين زرقاوين جميلتين جدًا.
كانت فتاة تأكل جيدًا،
وكانت أيضًا فتاة غريبة خرجت في ليلة مثلجة بثياب النوم دون خوف.
كان صوت ضحكها المرفرف يشبه رنين الأجراس وكان ذلك عجيبًا.
وكان من المضحك أنها كانت تتحرك كالـسنجاب، بقدمين صغيرتين سريعة هنا وهناك.
“كنت أظن أنك لن تتذكر. ففي الطفولة لم نتبادل حديثًا خاصًا.”
“إذًا كنتِ تظنين أنني شخص مجنون يطلب الزواج من امرأة لا يعرفها إطلاقًا؟”
بسبب رد فعل سيريـت شعر يوان بقليل من الاستياء.
عندما خرجت كلمة الزواج من ليديا من فم الإمبراطور، كان أول من خطر في بال يوان هي سيريـت إينوهاتير.
كون ليديا عقيمة والزواج منها يعني عدم الحصول على وريث، ولكن تلك المشكلة القاتلة لم تكن تهمه حقًا.
الشيء الوحيد الذي احتل رأسه في تلك اللحظة كان أنه إذا تزوج من ليديا فلن يكون قادرًا على التفكير بأن عيني سيريـت جميلتان بعد الآن.
بمجرد أن خطرت له تلك الفكرة شعر بالضيق والقلق. لذلك قال فورًا للإمبراطور.
أنه يجب أن يتزوج ابنة أسرة تابعة أنقذت حياة دوق فريكتويستر السابق. وأن عليه سداد الدين.
ولم يدرك إلا الآن أن كل ذلك كان عذرًا. كل ما كان يريده هو أن يعيش وهو يواصل التفكير بأن تلك العينين الزرقاوين جميلة. كان يوان يحدق بهدوء في عيني سيريـت الزرقاوين.
“حسنًا، قليلًا؟”
رفعت سيريـت كتفيها.
ضحك يوان بصوت مسموع. حتى لو عومل كمجنون، كان شعوره جيدًا هكذا لأن زوجته ما تزال جميلة حد الاختناق.
تجعد أنف سيريـت قليلًا. ما زالت لم تعتد على رؤية يوان وهو يضحك بصوت مسموع. كان صوته المنخفض في الضحك جميلًا نوعًا ما.
“كلي كثيرًا. من الغد سنكون مشغولين.”
“نعم.”
أومأت سيريـت برأسها على كلام يوان.
بسبب مرض هانا نزلا إلى الإقليم متأخرين عن الموعد المقرر. ولهذا ابتداءً من الغد سيبدو أن عليهما التحرك بانشغال بسبب التحضير لمهرجان الصيد.
رفعت سيريـت الشوكة من جديد. ولم تغادر الابتسامة وجه يوان وهو يرى سيريـت تأكل جيدًا.
يتبع^^
ترجمة نينا @justninaae
لاحظت زادوا القراء بس مافي تعليقات كثير):
اكتبوا ارائكم وتوقعاتكم عن الرواية عشان اتحمس انزل^^
التعليقات لهذا الفصل " 100"
😍😍😍
متحمسة لردة فعل يوان حين يعرف انهاعادت للحياة
❤️🔥❤️🔥
رواية جميلة بجد تسلم ايدك ❤️