هــل فهمت؟
لم تستطع تياريس أن تُبعد عينيها عن إيسدانتي حتى خرج تمامًا من المكتب. وعندما اختفى من مجال رؤيتها تمامًا،
أطلقت زفرة كانت تحبسها.
“سيدتي؟”
ضحكت بسخرية عند تغير اللقب من “السيد الدوق” إلى “السيدة”. فقد أصبحت الآن في وضع لم تعد قادرة فيه على الإنكار،
حتى وإن أرادت. لم تكن فكرة الزواج غائبة عن ذهنها، لكنها لم تتخيل أبدًا أن يحدث بهذه السرعة، ومن شخص لم يكن في حسبانها مطلقًا.
كان ما حل بها مفاجئًا وثقيلاً. أولئك الذين كانوا في يوم ما سندًا لها لم يعودوا قادرين على مساعدتها.
ألم يقل صديقها القديم نفسه إنه لا يستطيع رفض أمر الإمبراطور؟
«زواجٌ، إذن.»
بصفتها حاملة للقب الدوق، كان الزواج أمرًا لا مفر منه. إنجاب وريث في بيت الدوق الذي يحمل قوى “الشيء المقدس” كان واجبًا.
كان هذا بالنسبة لها أكثر أهمية من أي شيء آخر، حتى من استعادة مجد بيت الدوق.
«لم يخطر ببالي أبدًا أن لا يكون لي أي رأي في شريكي في الزواج.»
من المسؤول عن وصول الأمور إلى هذا الحد؟ هل هو جيرمان، الذي دمّر بيت دوق نابرَانت؟ أم أنها هي نفسها المسؤولة،
لأنها ورثت البيت رغم أنها لا تسمع حتى صوت “الشيء المقدس”؟
رغم أن الليل قد أرخى سدوله، إلا أن تياريس لم تستطع النوم. ولم تبرح مكتبها قيد أنملة، حتى جاء كبير الخدم باحثًا عنها،
بعد أن لاحظ أنها لم تظهر أي نية للتوجه إلى غرفة نومها.
بعد عدة أيام، بدأ إيسدانتي يومه صباحًا بهدوء في قصر بيت دوق نابرَانت، الذي أصبح يقيم فيه بشكل دائم.
كان قد مر وقت طويل منذ أن استيقظ في مكان يسوده السلام، بعد أن اعتاد التنقل بين ساحات القتال.
وكان أمامه الآن “شيشين”، مساعد تياريس، الذي جاء يبحث عنه.
كان إيسدانتي غاضبًا من تصرفات شيشين الوقحة، خاصةً أنه جاء في وقت مبكر من الصباح.
لكنه لم يُظهر غضبه، لأنه لو فعل، فسيكون ذلك بمثابة اعتراف منه بأن شيشين يهمّه.
فبحسب ما اكتشفه من خلال تحقيقه،
فإن تياريس نابرَانت كانت شخصًا انتقائيًا للغاية في تعاملاتها مع الناس.
كانت مشهورة بتجنبها وجود الآخرين بجانبها، ولم يكن يخطر بباله أن مساعدها قد يكن لها مشاعر.
«لا شك أنه لم يكن قادرًا على إظهار مشاعره أيضًا.»
تياريس التي رآها كانت تتحرك دائمًا بدافع حماية بيتها. لم تكن من النوع الذي يدخل في علاقات عاطفية أو يتزوج بمساعد لا فائدة منه للبيت.
تساءل إيسدانتي: أي حياة عاشتها لتصبح على هذا النحو؟ بدا له أن حياتها لم تكن سهلة، تمامًا مثل حياته.
ومع ذلك، لم يكن بمقدوره أن يسامحها على ذلك؛ فحياته كانت جافة وخالية من الدفء إلى درجة لا تسمح له بمنح الغفران بسهولة.
نعم، لقد كان يحمل كراهية شديدة تجاه تياريس.
“على أية حال، تقول الدوقة إنها ترغب في تناول الغداء معك…”
“فهمت، اخرج الآن.”
قاطع إيسدانتي كلام شيشين. لم يكن مرتاحًا لطريقته المتكلفة في نقل رسالة تياريس.
فشيشين كان يستخدم لغة النبلاء العليا، معتقدًا على ما يبدو أن إيسدانتي لن يفهم ما يُقال له إلا بتلك الطريقة الملتوية.
رغم أن تصرفه بدا تافهًا، لم يغضب إيسدانتي. فقد اعتاد على مثل هذه الألاعيب منذ أن كان مجرد مرتزق، ثم أصبح قائدًا عامًا.
صحيح أن تياريس لم تكن تحضر الحفلات الملكية، فلم تسنح له فرصة لقائها سابقًا، لكن إيسدانتي لم يكن مثلها.
لقد التقى بكبار النبلاء عشرات المرات، ومن بينهم أصدقاء قدامى لتياريس.
كانت سخيفة تلك الطريقة التي كان يُظهر بها البعض الحذر منه، لكنه لم يكن يرد عليهم.
كان يعلم أنهم سيتصيدون له أي ردٍّ لاستخدامه كذريعة لاتهامه بعدم الالتزام بالآداب.
“هل فهمت؟”
لم يكن مُلزَمًا بالرد بلطف على شيشين، الذي قال كلمته الأخيرة بتعجرف، لذا قالها على طبيعته:
“ليس من شأن مجرد مساعد أن يخاطب زوج الدوقة المستقبلية بهذه الطريقة.”
حتى مساعده الذي كان واقفًا بجانبه بدا عليه التغير من شدة التوتر، لكن شيشين ظل هادئًا، واكتفى بالإيماء والانحناء.
“أعتذر إن أزعجتك. وإذا لم تكن قد فهمت، فالدوقة قادرة على الانتظار.”
“حتى لو كانت ستنتظر، فهي تنتظر خطيبها، وليس من شأنك كمساعد أن تقلق حيال الأمر.”
رسم إيسدانتي خطًا واضحًا بينه وبين شيشين. وبرغم التجاعيد التي ظهرت بين حاجبي شيشين،
لم يكترث إيسدانتي.
ما كان يهمه هو قرار تياريس، لا رأي مساعدها.
وبما أنه قد اتفق معها بالأمس، فلم يعد لشيشين أي مكان ليتدخل فيه.
حتى وإن كان مساعدًا معترفًا بكفاءته، فإن تياريس، بمجرد أن رأت أن قرارهما يعود بالنفع على بيت نابرَانت،
لن تغير رأيها وهي بطبيعة الحال، لم تكن تعلم أن إيسدانتي قد وجّه الأمور لتصل إلى تلك النتيجة،
فلم يكن أمامها خيار سوى قبول عرضه.
“……أعتذر عن الإزعاج.”
“يمكنك الانصراف. وبلّغ الدوقة أنني سأحضر الغداء.”
“نعم.”
انحنى شيشين وغادر. أراد مساعد إيسدانتي أن يتحدث بعدما رأى ملامح سيده المتجهمة، لكن إيسدانتي أشار إليه بيده ليسكت،
فاكتفى المساعد بالتكشير دون أن ينبس بكلمة.
وبعد أن تأكد من خروج الجميع، ركز إيسدانتي على الصوت الذي كان يسمعه منذ الليلة الماضية.
ذلك الصوت كان يعلو حينًا ويخفت حينًا آخر، ثم بدأ ينساب كالموسيقى. شعر إيسدانتي بالسكينة عند سماعه.
كان ينبغي أن يتحرك ليتحقق من مصدر هذا النداء الذي يخاطبه،
لكنه لم يكن يملك بعد الحق في التجول بحرية داخل قصر بيت نابرَانت، لأنه لم يتزوج من تياريس رسميًا بعد.
رغم كل ما حدث، فإن تفكيره لم يكن في شيشين المتعجرف، بل في تياريس.
ذلك الشعر البني المائل إلى الذهبي، والذي لا يشبه شعر الدوق السابق، كان ساحرًا بحق.
“هل هذا هو السبب في أن طباعهما متضادة تمامًا؟”
لو كانن مثل جيرمان، متغطرسًا ولا يعبأ بأحد، لما كان هناك داعٍ لإيسدانتي أن يتصرف بهذه الطريقة المتحفظة.
تياريس كانت مختلفة عن الدوق السابق، ولهذا السبب تحديدًا، تردد إيسدانتي.
لم يستطع أن يحدد إن كانت قد انتزعت حقوقه عمدًا أم لا.
وكأن مشاعره المعقدة انعكست على الجو، فقد كان الطقس سيئًا.
الرياح الدافئة بدأت تحمل معها رطوبة، واختلطت برائحة المطر القادمة.
لو كان في ساحة المعركة، لكان عليه أن يتأكد من أن درعه لن يتبلل.
لكنه شعر بالامتنان لأنه ليس في ساحة معركة، بل في قصر دوقية نابرَانت.
على عكس الحدود،
التي كانت دائمًا تفوح منها رائحة الدم، كان هذا المكان ينعم بالهدوء.
وفي بعض الأحيان، كانت نية القتل تتسلل إلى قلبه عند تعامله مع الناس هنا، الذين لا يعرفون شيئًا عن بشاعة الحرب،
لكنه سرعان ما كان يستعيد رباطة جأشه.
إيسدانتي أدرك أنه إذا استمر على هذا النحو، فسوف ينهار.
كان عليه أن يُعيد الأمور إلى نصابها قبل أن يصل إلى ذلك الحد.
ولأجل ذلك، دخل قصر نابرَانت، وما إن يتزوج من تياريس، سيبدأ تنفيذ خطته.
وما يجري الآن لم يكن إلا مرحلة تحضيرية لتلك الخطة.
“إلى أي مدى تستطيعين إدراك خطتي؟”
همس إيسدانتي بكلمات لن يسمعها أحد. لكنه لم يهتم، فقد اعتاد على الحديث مع نفسه.
لقد أمضى وقتًا في زنزانة انفرادية، أو في أزقة الحارات الخلفية، يصارع من أجل البقاء.
وفي تلك الأوقات، كان يتحدث مع نفسه كي لا يفقد صوابه.
ولم يكن أحد يحميه آنذاك سوى نفسه.
وعلى الرغم من أن أي شخص قد يستمع إليه سيظن أنه عاش طفولة بائسة،
إلا أن أحدًا باستثناء مساعده المقرب لم يكن يعرف شيئًا عن ماضيه.حتى أعضاء النقابة لم يكونوا يعلمون شيئًا عن ماضي إيسدانتي.
وحين علمت النقابة بأنه يخطط للزواج من دوقة نابرَانت، لاعترضوا بشدة.
فبما أن بيت نابرَانت هو أحد بيوت الدوق التي تمتلك “الشيء المقدس”، فقد كانوا يعتقدون أن دخوله هناك يعني تقييد حريته.
لكن رغم معارضة أعضاء النقابة الشديدة، دخل إيسدانتي قصر نابرَانت.وقد قدّم الكثير من التنازلات للإمبراطور في سبيل ذلك، لكنه لم يشعر بالندم.
لأن بيت دوق نابرَانت كان بالنسبة له مكانًا في غاية الأهمية.
“الآن بدأ الأمر.”
تمتم بها بهدوء وهو يقدّر الوقت. لقد اقترب موعد الغداء دون أن يشعر.
نهض من مكانه وغادر، ولحق به مساعده.
إيسدانتي لم يُلقِ عليه نظرة واحدة، بل واصل السير مباشرة.
“الفرسان يسألون إن كان بإمكانهم أن يُظهروا قوتهم.”
“قل لهم أن لا يُبالغوا.”
على ما يبدو، انتشرت كلمات شيشين بين جنود إيسدانتي المخلصين.وكان يعلم أن مصدر تلك الشائعة هو مساعده نفسه.
ومع ذلك، تغاضى إيسدانتي عن تصرفات مساعده المبالغ فيها.
فبما أنه يستقر في مكان جديد، فإن الصراعات الداخلية أمر لا مفر منه.
صحيح أن الاصطدام المباشر ليس جيدًا، لكن الطرف الآخر هو من قدّم الذريعة.
لذا، لم يكن من السيئ إظهار فارق القوة هذه المرة.
كان إيسدانتي يعلم تمامًا مدى أهمية ترتيب القوى بين الفرسان.ورغم أنه وافق على كلام مساعده، فإنه أضاف تحذيرًا:
“في النهاية، يجب أن يصبحوا جميعًا تحت قيادتي، لذا كن حذرًا كي لا تزرع العداء في قلوبهم.”
“سأضع ذلك في الحسبان.”
“وبالأخص، بلّغ هالبَرت، أن كسر العظام لا بأس به، لكن القطع ممنوع.”
هالبَرت هو أكثر الفرسان ولاءً لإيسدانتي، وكان مستعدًا لأن يلقي بنفسه في النار إن أمر
ه بذلك.
لكنه لم يكن يعرف معنى “الاعتدال”.
وكان من الممكن أن يفقد أحدهم ذراعًا أو ساقًا في هذا الصدام، ولهذا كان إيسدانتي حريصًا على التنبيه.
فهم مساعده مقصده، وانحنى بإجلال قائلًا:
“سأبلغه بالتأكيد.”
التعليقات لهذا الفصل " 9"