إنــــني مظلوم
عاد صخب دوقية نـابارانت بعد فترة من الهدوء. فقد قام فرسان إيسدانتي بإلقاء القبض على الطبيب الشخصي الهارب، لاغوس،
وسلموه إلى هالبات، الذي بدوره توجّه مباشرة إلى تـياريـس. أما إيسدانتي فكان يتنقّل بنفسه في أرجاء العاصمة لتنفيذ أوامر سيڤيرهان.
لم يكن من السهل معرفة الجهة التي كانت تقف خلف إدخال كلوي إلى دوقية نابارانت. لذا،
لم يكن أمام هالبات خيار سوى أن يصطحب لاغوس لمقابلة تياريس.
أثناء سيره في الممرات، تلقّى لاغوس نظرات حادة من الخدم، وسمع من حين لآخر شتائم يتمتمون بها.
كان من الصعب عليه أن يتحمّل رؤية أولئك الذين كانوا معه سابقًا يشيرون إليه ويشتمونه.
(ليس ذنبي. لقد فعلت فقط ما أمرني به الدوق السابق).
ظل لاغوس يردد هذا الكلام في داخله مرارًا. عندما علم أن طفل تياريس قد أصابه مكروه، حزم حقائبه وفرّ هاربًا.
فقد كان من الواضح أنه، بصفته الطبيب الشخصي، سيتحمّل المسؤولية.
لكنه اعتُقل من قبل فرسان إيسدانتي قبل أن يتمكن من عبور الحدود، ولم يكن أمامه سوى المصير المحتوم:
الموت. لقد مات نسل من عائلة تحمل دمًا مقدسًا دون أن يرى النور، وكل ذلك لأنه أخفى الحقيقة.
فكيف له أن يغسل هذه الخطيئة؟
“سيدتي الدوقة، أنا هالبرت. لقد قبضت على الطبيب لاغوس.”
“… أدخله.”
عندما فُتح باب مكتبها، ظهرت تياريس بوجهٍ خالٍ من التعابير، بينما اتّسعت عينا شيشين دهشةً.
خطيئة لاغوس لا يمكن التكفير عنها حتى بالموت. نهضت تياريس من مكانها.
“أخيرًا دخلت إلى هذه الدوقية.”
رنّ صوت تياريس المنخفض في المكتب. وركع لاغوس أمامها، وجسده مكبّل بالحبال. حاول جاهدًا التملص منها،
لكن الحبال التي ربطها هالبرت بنفسه لم تتحرك قيد أنملة.
“لدي سؤال لك، يا لاغوس.”
كان صوتها خافتًا، لكن البرودة التي انطوت عليه لم تكن خافية. وعندما وجّهت تياريس نظرتها الحادة نحوه، ارتجفت كتفا لاغوس
ثم أمرت هالبرت وشيشين بالخروج من الغرفة. حتى إدوين، امتثل لحركتها وأُجبر على الخروج.
لم تكترث لتحذيراتهم، بل اقتربت منه ببطء حتى وقفت أمامه.
“لقد أخطأت، سيدتي الدوقة! أرجوكِ، فقط سامحيني هذه المرة!”
“هذا ليس ما أريد سماعه.”
قالت تياريس وهي تطلّ عليه من علٍ، ثم أخرجت خنجرًا من صدرها. ومع صوت السحب “سِرِنج”،
ارتعد لاغوس ونظر إلى أعلى. كان نصل الخنجر يلمع بلون أزرق بارد.
“ما أريد معرفته هو: كيف تجرأت على إخفاء أمر الطفل عني؟ لا يمكن أنك خططت لذلك بمفردك، أليس كذلك؟”
كانت تياريس قد حسمت أمرها بالفعل. لم يكن من الممكن أن يكون لاغوس قد دبّر هذا وحده.
ذلك الجبان الذي يرتجف من أتفه الأمور، كيف له أن يخفي أمراً بهذه الضخامة؟ لا بد أن شخصًا ما كان وراءه،
وغالب الظن أنه كان جيرمـان.
“أكان أبي هو من أمرك؟”
“ك… كيف عرفتِ ذلك…!”
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه لاغوس المصدوم. أما تياريس، التي تبيّن لها أن شكوكها صحيحة،
فعضّت شفتها. لم يكن بإمكانها أن تظهر ضعفًا أو تتزعزع في هذا الموقف.
فقد كان إخفاء أمر حملها بنسل من عائلة نابارانت أمرًا لا يُغتفر مهما حدث.
“تعرف ما الذي أدى إليه هذا القرار، صحيح؟”
“لقد كان تنفيذًا لأوامر الدوق السابق! أنتِ تعلمين أنني، كطبيب بسيط، لا يمكنني رفض أوامره!”
“ورغم معرفتك أن الأمر غير سليم، اتّبعت أوامره؟”
“كنت أشك في الأمر، لكن لم يكن أمامي خيار آخر. الدوق السابق كان…”
“كم مرة يجب أن أكرر أنني أنا دوقة نابارانت الآن حتى تفهم؟”
عند هذه الكلمات التي خرجت منها كتنهد، تجمّد لاغوس في مكانه. كان يعلم جيدًا ما الذي جرى للخدم الذين كانوا يتبعون جيرمان،
وكيف اختفوا أولئك الذين عارضوها. لذا لم يجرؤ على النطق بكلمة أخرى.
“هل كنت تأمل أن تنجو رغم أنك أخفيت الحقيقة عن أمن الدوقة؟”
كان صوت تياريس المنخفض كالرعد في أذني لاگوس. ارتجف جسده وهي تواصل كلامها.
“بسببك، اختفى نسل عائلة نابارانت. كيف ستتحمّل هذه المسؤولية؟”
“سأ… سأعمل بجد أكثر في المستقبل! وستنجبين طفلًا آخر، سيدتي، لذا…”
“انتظر.”
رفعت تياريس يدها وقطعت كلامه.
“هل كان أيضًا كذبًا أن جسدي ضعيف؟”
إن كان جيرمـان قد تدخل في أمره، فلا بد أن ما أُخفي ليس شيئًا واحدًا فقط. تذكرت تياريس كيف ظل لاغوس
بصفته طبيبها الشخصي، يقول لها إنها لا تصلح لتعلم المبارزة وأن جسدها ضعيف.
تلك الأكاذيب التي جعلت منها شخصًا عاجزًا بينما كانت في الأصل بصحة جيدة.
كما قال، لم تكن تمارس التمارين الرياضية، ولم تستمتع بركوب الخيل. أما المبارزة؟ فقد كانت تمسك بالسيف الخشبي وتلعب به في صغرها،
لكن منذ أن أصبح لاغوس طبيبها عندما كانت في السابعة، سُلِبت منها كل تلك الحريات،
بحجة الحفاظ على صحتها.
“هـ… هذا…”
“إن قلت الحقيقة، سأُبقيك حيًا.”
تألقت عينا لاغوس ببصيص أمل. لم يكن إيسدانتي المخيف موجودًا، وهذه هي الفرصة الذهبية. تياريس الآن تُظهر بعض التساهل.
“هل، هل ستعفين عني حقًا؟”
“دوقة نابارانت لا تعد بشيء زائف.”
عند هذه الكلمة المهيبة من تياريس، تنفّس لاغوس الصعداء، وبدأ بالكلام ببطء. كانت علامات التردد لا تزال ظاهرة عليه،
وعيناه تهتزّان، لكن عزيمته على النجاة بدت واضحة. كان عازمًا على النجاة مهما كلّف الأمر.
“عندما أصبحتُ الطبيب الشخصي لسيدتي الدوقة في سن السابعة، أوصاني الدوق السابق بما يلي
…”
“وما هو؟”
“قال لي: (إنها طفلة مهمة يجب أن تقود دوقية نابارانت، لذا لا تدعها تتعلّم المبارزة أبدًا).
كما طلب مني أيضًا أن أوليها اهتمامًا خاصًا لأنها (طفلة ضعيفة).”
“لقد رأيتني، لا بد أنك لاحظت أنني لم أكن بذلك الضعف.”
“قلت له ذلك بالفعل، لكن الدوق السابق أمرني بإخبارك دومًا أنك ضعيفة، مهما كانت الحقيقة.”
عند هذا التصريح الصادم من لاغوس، صمتت تياريس للحظة. لم يكن هذا مختلفًا عن تقييد حريتها منذ طفولتها.
وكان من فعل هذا ليس أحدًا غريبًا، بل جيرمان، الذي ادّعى أنه والدها. رمشت تياريس،
غير قادرة على استيعاب هذه الحقيقة القاسية. ثم لمعت فكرة في رأسها.
“هل يُعقل… أنه عرف أنني لست من نسل عائلة نابارانت؟”
كانت شائعات تقول إن نسل تارمينون يملك قدرة على تحييد الآثار الجانبية لقوة “الكنوز المقدسة”.
فإذا لمس جيرمان تياريس يومًا ما بعد استخدامه لتلك القوة، ثم لاحظ أن الآثار الجانبية اختفت بسببها…
فهل عرف حينها أنها ليست من نسل نابارانت؟
“وإن كان قد عاملني بهذه الطريقة بسبب ذلك…؟”
كل شيء انطبق كما لو كان مخططًا له.
لم تصدّق تياريس ما حدث. حتى وإن كان الإنسان من سلالة قاسية،
فقد كانت هناك سنواتٌ ربّت فيها ذلك الشخص كابنتها.
“ولكن، ماذا لو كان كل ذلك مخططًا له منذ البداية؟”
كان على إيسدانتي، حامل قوة “الكنز المقدّس”، أن يأتي إلى دوقية نابارانت بأي ثمن.
فقد قال بنفسه إن صوته كان يدوي في رأسه، يجعله مضطربًا لا يستطيع تحمّله.
والمصادفة أن الشخص الوحيد الذي يستطيع تخفيف الآثار الجانبية الناتجة عن استخدام قوة الكنز المقدّس كانت هي،
تياريس، التي تحمل دم تارمينون في عروقها.
“هل منحوني منصب الدوقة فقط ليقيّدوني هنا، في دوقية نابارانت؟”
هذه الحقيقة الهائلة زلزلت كيانها. كانت أقوى من أن تستوعبها، جعلتها تشعر كأنها لا تستطيع التقاط أنفاسها.
وإن أرادت أن تعرف إن كانت شكوكها صحيحة أم لا، لم يكن أمامها إلا أن تواجه جيرمان،
ذلك الذي كان يُدعى يومًا والدها. كان لا بد أن تسرّع اللقاء الذي طالما أجلته.
“وإذا كان ذلك هو الحقيقة… فماذا عساي أفعل؟”
ازدادت أفكار تياريس عمقًا وتعقيدًا، بينما كان لاغوس ينظر إليها بقلق يتزايد مع كل لحظة صمت.
وبينما كانت تغوص في بحر شكوكها، تمكّنت أخيرًا من ترتيب أفكارها، ووجّهت نظرها إلى لاغوس.
“هل أخبرت والدي عن وجود الطفل؟”
“أبدًا! مستحيل تمامًا!”
نفى لاغوس بكل ما أوتي من قوة. ورغم أنه كان مقيّدًا بالحبال، إلا أن رأسه تحرّك بعنف يمينًا ويسارًا.
“مستحيل. أنا أيضًا شخص نال خير دوقية نابارانت. لهذا حذّرتكِ سابقًا يا سيدتي، وقلتُ لكِ أن تنتبهي.
لو أنك لم تصغي لكلامي واستمررتِ في التدرّب على فنون السيف، لكان الطفل قد…”
“لكن، حتى حين أوقفت ذلك، الطفل اختفى.”
“لقد استُدعيتِ من قبل جلالة الإمبراطور. ماذا كنتُ أستطيع أن أفعل؟ أنتِ تعلمين هذا جيدًا.”
لم تعد تياريس قادرة على تحمّل دفاعات لاغوس المستميتة. أدارت وجهها عنه وجلست إلى مكتبها في صمت
. كانت بحاجة إلى وقت لترتيب أفكارها. ثم صرخت باتجاه الخارج:
“ألا يوجد أحد هناك؟”
“كنتُ بانتظار ندائكِ، سيدتي الدوقة.”
دخل هالبرت فور انتهاء كلماتها، دون تردد. وما إن رآه لاغوس حتى بدأ يرتجف بعنف، لكن تياريس، دون أن تُعيره اهتمامًا، أصدرت أمرًا بهدوء:
“ضع لاغوس في سجن الدوقية. وعندما يصل إيسدانتي، فليتولى هو معاقبته.”
“عندما يأتي القائد، هل نعاقبه حسب ما يراه مناسبًا؟”
“مثل هذا الأمر، من الأفضل أن يتولاه هو لا أنا.”
أومأ هالبرت برأسه موافقًا، متفهمًا لكلماتها الحاسمة. ففرق كبير بين أن تُصدر تياريس، بصفتها دوقة عليا،
أمرًا مباشرًا بالقتل، وبين أن يطبّق القائد إيسدانتي العقوبة بنفسه. صحيح أن في الأمر نوعًا من التملّص،
لكن رعايا الإمبراطورية سيُفسّرونه بشكل مختلف.
صرخ لاغ
وس، الذي أصبح شاحب الوجه:
“أنا مظلوم، سيدتي الدوقة! لقد كنتُ فقط أنفذ أوامر الدوق السابق…!”
“أسكت فمه أولًا.”
“كما تأمرين.”
أغلق هالبرت فم لاغوس وسحبه إلى الخارج وهو يجرّه أرضًا. أما تياريس، فظلت تنظر إليه حتى اللحظة الأخيرة،
ثم أسندت جسدها إلى ظهر المقعد بتعب ظاهر. دخل شيشين الغرفة، لكن عينيها بقيتا مغلقتين، ولم تفتحا.
التعليقات لهذا الفصل " 87"