إمــــكانية كافية
لم تستطع “تياريس” أن تنام مؤخرًا بسبب انشغال بالها بـ”إيسدانتي”.
رغم مرور عدة أيام، لم تتحسن حالته النفسية. بل إن حديثه مع “إدوين” بدا وكأنه زاد من سوء حاله.
بدا وكأنه نادم، نادم على طلبه منها أن تجد “ماما”.
«لابد أنها مجرد مصادفة…»
أغمضت تياريس عينيها بإحكام ثم فتحتهما، وأدارت نظرها نحو المكتب الفارغ في غرفة العمل.
منذ ذلك اليوم، لم يطأ إيسدانتي المكتب. كان يتحجج بأن عليه إجراء بعض التحريات، لكنها كانت تعلم الحقيقة.
كان يتجنبها. لم يكن يُظهر مشاعره، لكن تلك النظرة المزعجة لم تغب عنها. فقد قضت وقتًا طويلًا مع “جيرمان” الذي كان يكرهها،
لذا لم يكن صعبًا عليها أن تميز هذه النظرة.
“هل يكرهني؟”
تفاجأت هي نفسها بالكلمات التي خرجت من فمها.
حتى حديثها العالي نسبيًا مع نفسها لم يثر أي رد فعل من إدوين.
ولحسن الحظ، كانت “سيشين” قد خرجت للبحث عن بعض الوثائق.
كلما أغمضت عينيها، تذكرت وجه إيسدانتي المتألم. لم تستطع التخلص من تلك الصورة.
لأول مرة ترى ذلك الشخص الواثق دومًا، يظهر مثل ذلك التعبير.
كانت ترغب في احتوائه.
فهو، الذي فقد شخصًا كأمه، لا بد وأنه كان يشعر بنفس الألم الذي شعرت به هي.
كانت تظن أنه من النوع الذي يستطيع النهوض بمفرده دون الحاجة إلى عزاء أحد،
لكن ها هو إيسدانتي لا يستطيع تجاوز مشاعره بسهولة.
وسط هذه القطيعة الباردة بينهما، شعرت تياريس بشيء من الارتياح، بشكل ساخر.
فعلى الأقل،
كان هناك شيء يمكن وصفه بأنه عزيز على إيسدانتي.
ونشأت بداخلها أمنية… ربما، في المستقبل، يمكن أن تكون هي ذلك الشيء.
أرادت أن تستغل هذه الحادثة لتقترب منه.
«لو حدث ذلك… ربما أكون بالنسبة له مثل ماما.»
ما الشعور الذي يراود من يصبح شخصًا عزيزًا لدى أحدهم؟
هذا ما كانت تياريس تتوق إلى معرفته.
فهي لم يعد لها شخص عزيز في هذا العالم.
وكانت تتخيل لو أن الشخص القادم في حياتها كان “إيسدانتي”.
كان “روبيرت”، الصديق المقرب لإيسدانتي، يزورها أحيانًا ويتبادل الحديث معها،
لكن حتى تعبيراته لم تكن جيدة.
“سيدتي الدوقة، السيد روبيرت يطلب مقابلتكم.”
الغريب أن إيسدانتي لم يكن يمانع زيارة روبيرت اليومية.
فهو الذي رفض “إنفرينتي” بشكل واضح، لم يتصرف بنفس الطريقة مع روبيرت.
وهذا ما جعل تياريس تشعر براحة أكبر عند لقائه.
“أدخلوه.”
“هل أنتم بخير، سيدتي الدوقة؟”
“يبدو أنك أنت من لست بخير.”
“إيسدانتي هو من يعاني أكثر مني.”
كان هناك حزن واضح في وجه روبيرت الذي رفع كتفيه بلا حول.
فبما أن حالة صديقه العزيز ليست جيدة، لا بد أن القلق يملأ قلبه أيضًا.
“هل تحسنت حالته؟”
“ألم يأتِ إلى هنا اليوم أيضًا؟”
“نعم، لم يفعل.”
“إنه شخص سيئ.”
أعجبها ذلك.
روبيرت كان يذم إيسدانتي بلا تردد، ويستمع لكلامها بهدوء.
ربما لهذا كان من السهل عليها الحديث معه.
منذ بداية علاقتهما، كان يتحدث عن عيوب إيسدانتي،
وهذا جعل تياريس تشعر بالراحة.
فهي لا تستطيع التحدث بسوء عن “إيسدانتي”، سيد هذا البيت الحقيقي،
وخدم القصر كانوا يتحاشون الحديث عنه أمامها.
أما رجاله الخاصون، فكانوا بالطبع أكثر تحفظًا.
“وماذا عن ماما؟”
“لقد وُضعت في مكان جيد ولائق.”
“هل يمكنني معرفة مكان دفنها؟”
“لم يخبرني إيسدانتي، لذلك لا يمكنني إخبارك.لكن إن سألتِه بنفسك، ربما يخبرك.”
“تظن ذلك؟”
“نعم.”
بكلمات روبيرت المليئة بالثقة، بدأ شعور الأمل يتسلل إلى قلب تياريس.
فكرت أنه إن استطاعت لقاء إيسدانتي والتحدث معه، فربما تسير الأمور نحو الأفضل.
ولم يخطر في بالها مطلقًا أن شيئًا سيئًا قد يحدث.
“في الواقع، جئت اليوم لأطرح عليك سؤالًا خاصًا.”
“خاص؟”
“نعم، دون وجود حُرّاس.”
وحين طلب روبيرت إخراج “إدوين”، أشارت تياريس بيدها،
فخرج الأخير بهدوء،
وراقب روبيرت خروجه للحظة، قبل أن يلتفت نحوها.
“سمعت أنك تحدثتِ مع ماما في لحظاتها الأخيرة.”
“لقد أخبرت إيسدانتي بكل شيء.”
“أعلم. لكني لا أسأل عن ذلك الآن، بل عن أمر آخر.”
“…….”
جف حلق تياريس أمام تعبير روبيرت الجاد.
لم تستطع حتى توقع ما الذي ينوي قوله،
لكن الجو كان يوحي أنه سيقول شيئًا مهمًا.
“هل شعرتِ بشيء غريب في وجه ماما؟”
“غريب؟ ماذا تقصد…؟”
“كأن تكون في حالة صحية جيدة رغم كونها أسيرة، أو أن تبدو متعبة جدًا، أو أي شيء تتذكرينه.”
“أي تفصيل بسيط سيفيدني.”
لم تستطع تياريس أن تجيب بالنفي أمام وجه روبيرت المليء بالرجاء.
أخذت تفكر بعمق.
ذلك اليوم، يوم موت ماما، كان يومًا صادمًا لها أيضًا.
لم تشهد كثيرًا مشاهد موت من قبل.
رأت “هيليان” تموت وهي تنزف،
ورأت “ماما” تفارق الحياة بهدوء.
كلاهما مات أمام عينيها.
حتى إيسدانتي حينها قطع عنق أحد الفرسان أمامها.
“آه!”
“هل تذكرتِ شيئًا؟”
“شفتيها… كانتا حمراوين للغاية.”
“متى؟”
“عندما واجهتني أول مرة. ظننت أنني أتوهم، فأمعنت النظر مجددًا، لكن حينها كانتا شاحبتين.”
تدفقت الذكرى التي خطرت ببالها فجأة بوضوح مذهل.
“ماما”، التي أحضرها “إدوين”، كانت تبدو بصحة جيدة.
لدرجة أنه كان من الصعب تصديق أنها سقطت فجأة وماتت في لحظة.
ومع كلمات “تياريس”، أصبحت ملامح “روبيرت” تزداد جدية شيئًا فشيئًا.
“شفتيها كانتا حمراوين…”
وقفت “تياريس” بصمت، لا تريد مقاطعة “روبيرت” المستغرق في التفكير.
نظرت حولها، ثم صوبت نظرها إلى المكان الذي كان “إدوين” واقفًا يحرسه.
كانت تدرك أيضًا أن “إدوين”، الذي تم ضمه كحارس شخصي لها بسبب هذه الحادثة، قد يُشتبه به.
«هل أصدرت أمرًا بلا فائدة وأرهقت الجميع؟»
اجتاحها الندم كموجة عاتية.
تساءلت “تياريس” إن كان خطأها عندما أمرت “أومبريه” بالعثور على “ماما”.
لكن، من دون مساعدة “أومبريه”، ما كانت لتجدها.
رغم أن مجريات الأمور باتت معقدة، رأت “تياريس” أن لا مفر مما حدث.
“آه!”
فجأة، نهض “روبيرت”، الذي كان جالسًا في مقعد “إيسدانتي”، واقفًا وكأن شيئًا ما خطر بباله،
ثم بدأ يتكلم معها بكلام غير مترابط:
“أعني، كان هناك شيء أحتاج للبحث عنه… لا، ليس هذا… يجب أن أذهب إلى “إيسدانتي”… لا، لا…”
“اذهب فورًا.”
“شكرًا جزيلاً!”
رغم أنها شعرت بالذهول من تصرف “روبيرت” الذي هرول خارجًا على عجل،
نهضت “تياريس” أيضًا من مكانها.
كانت تخطط أن تذهب إلى “إيسدانتي” بعد قليل، فهي الآن يمكنها أن تتريث قليلاً بعد أن سبقه “روبيرت”.
«لأذهب إلى الحديقة وأتأمل السماء.»
منذ أن بدأت تلتقي بـ”إيسدانتي”، أصبحت تنظر إلى السماء أكثر فأكثر.
كانت تحب اللون الأزرق الذي يشبه لون عينيها.
لم تكن تدرك من قبل أن السماء بهذا الجمال،
لكن كلما نظرت إليها، ازدادت سحرًا في عينيها.
خرجت “تياريس” من المبنى الرئيسي، وسمعت خطوات “إدوين” تتبعها.
«حتى الشخص الذي أرسل لي لحمايتي قد يكون له نوايا أخرى…»
كان هذا احتمالاً لم يخطر ببالها لولا “روبيرت”.
رغم أن “أومبريه” خادم تابع لـ”تياريس”،
إلا أن سيده السابق كان “جيرمان”.
وكان من الممكن أن يكون “جيرمان” متورطًا في هذه القضية.
«لا، هذا الاحتمال وارد جدًا.»
فـ”كارلوس”، زعيم “أومبريه”، كان على علاقة وثيقة بـ”جيرمان”،
وقد يعطي الأولوية لأوامر “جيرمان” على أوامرها.
وحتى لو لم يكن كذلك، فهو لا يزال محسوبًا على “جيرمان”،
وبالتالي قد يتبع أوامره في أي وقت.والأشخاص التابعون له لا بد أن يكونوا على نفس النهج.
جلست على مقعد في الحديقة، وأسندت ظهرها إلى المسند،
وبينما كانت تنظر إلى السماء بشرود، أغمضت عينيها.
أخذت تفكر فيما ينبغي أن تفعله تجاه “جيرمان”.
كان والد “إيسدانتي”، ووالدها أيضًا.
لا يمكنها طرده من دوقية “ناڤارانت”.
رغم أنها نشأت على سماع الكلمات الجارحة منه،
إلا أنها لا تستطيع إنكار حقيقة أنه من ربّاها.
وإن كانت لا تعرف إن كان يعلم أنها ليست من دمه أم لا،
فهو، رغم كراهيته لها، كان يملك من المودة ما جعله يورثها منصب الدوق.
كيف يمكنها أن تتخلى عن شخص كهذا؟
«هذا لا يفعله البشر.»
زفرت تنهدًا خفيفًا.
حتى لو كان “جيرمان” متورطًا في موت “ماما”،
فهي لا تستطيع أن تفعل شيئًا حياله.
وفاة “ماما” كانت مأساوية،
لكن إن كان “جيرمان” هو من تسبب بها،
فهي لا تستطيع معاقبته.
لم تكن تملك هذا الحق.
أما “إيسدانتي”…
«إن علم بالأمر، ربما يتحرك بنفسه.»
قيل إن بقاء “جيرمان” في المبنى الجانبي في عزلة
كان بأمر من “إيسدانتي”.
وحين حاول “جيرمان” الخروج، منعه فرسانه،
حسبما أخبرتها “سوليت”.
كانت “سوليت”، بأمر من “تياريس”،
قد وزعت الخادمات في أنحاء دوقية “ناڤارانت”،
وأحكمت السيطرة،
وحصلت على ثناء من فرسان “إيسدانتي” كذلك.
لذا فإن ما قالته لا شك فيه.
كلما فكرت في “جيرمان”، ازداد اضطراب ذهنها.
كان من الأفضل ألا تعتقد أنه متورط،
لكن الحقيقة أن الشك بدأ يتسلل إلى أعماقها.
فهو يكره “إيسدانتي”، مما يجعل الأمر ممكنًا.
«لا، مستحيل. مهما كرهه، لا يمكن أن يكون قد خطف “ماما” وسجنها وقتلها.»
كانت “ماما” شخصًا لا علاقة له بها.
لماذا يسجنها ويقتلها؟
فالنبلاء، بطبيعتهم، يتحتم عليهم أن يتحلوا بروح “النُبْل تُوجب الالتزام”ولا يجوز لهم أن يُلحقوا الأذى بمواطنين صال
حين في الإمبراطورية.
حين أغمضت “تياريس” عينيها، ألقت ظلًا أسودًا فوقها.
وعندما فتحت عينيها، ظهر وجه “إيسدانتي” وهو ينظر إليها من الأعلى.
“ماذا تفعلين هنا؟”
لم تستطع الرد على سؤاله، الذي جاء مصحوبًا بابتسامة باهتة.
ففي عينيه الحمراوين، المنعكستين تحت أشعة الشمس،
كانت تتراقص نيران وكأنها تشتعل.
التعليقات لهذا الفصل " 83"