الشــــك الذي بدأ يتسلل
دموع إيسدانتي بلّلت ثياب تياريس. لم تستطع ترك هذا الرجل المسكين وحيدًا. تبعته وهي تبكي،
تهمس له مرارًا وتكرارًا بأن كل شيء سيكون على ما يرام. بأنه ليس خطأه.
وبينما كانت تمسح على ظهره، تمنت ألا يشعر إيسدانتي بذات الذنب الذي شعرت به يوم وفاة والدتها.
بدأت رجفة كتفيه تهدأ تدريجيًا. وعندما ابتعد عنها دون أن ينبس ببنت شفة، رأت تياريس وجهه المبلل بالدموع.
كيف يمكنها التعامل مع عينيه الحمراوين المليئتين بالحزن والشفقة؟ وهي تنظر إلى عينيه،
طبعت شفتيها على دموعه المتساقطة أسفل عينيه. مشاعرها التي لم تستطع كبحها لامست شفتيها.
ثم ارتفعت شفتيها إلى جبهته، ثم إلى خديه. رغم حركتها المرتبكة ومحاولتها غير المتقنة لتقديم العزاء،
اهتز قلب إيسدانتي بالألم. كان ألمًا مختلفًا عن فقدان “ماما”، وأيضًا رجفة مختلفة.
أراد أن يبتلع شفتي تياريس التي لامست شفتيه دفعة واحدة، لكنه كبح جماح مشاعره العنيفة.
كان هناك أمر يتوجب عليه فعله أولًا.
“أريد التحدث مع إدوين.”
“إذا كنت ترغب، في أي وقت تشاء.”
منذ اللحظة التي طلب فيها إيسدانتي من تياريس أن تجد “ماما”، ثم ظهرت فجأة، لم يستطع إيسدانتي كبح شكوكه.
وبينما كان يبكي بين ذراعيها، برزت تلك الفكرة في ذهنه، فأخمدت مشاعره. تبخر الحزن ولم يتبقَ سوى الشك.
“هل خدعتني بتلك العينين البريئتين؟”
لم يستطع تجاهل تلك الفكرة التي سيطرت على رأسه. شخص لم يترك له أثرًا طوال الوقت، يظهر فجأة بأمر من تياريس؟
“وفي وقت يسبق فيه الموت؟”
ربما، لأنه لم يعد قادرًا على إنهاء الأمور بنفسه، أرسلها بدلاً منه. كانت هذه أول مرة يطلب فيها شيئًا من تياريس.
ربما أراد من خلال هذا الطلب قتل عصفورين بحجر واحد:
تنفيذ طلبه، والتخلص من “ماما”، فأمر إدوين أن يصحبها إلى قصر الدوق.
تدافعت آلاف الأفكار في رأسه. في عيني إيسدانتي التي بدأت تغرق أكثر فأكثر، اشتعلت نيران قرمزية داكنة.
كانت قوة “الروح الإلهية” تهتز حسب مشاعره، لكنه لم يكن يعلم ذلك.
كان إدوين يقف حارسًا أمام الغرفة التي دخلها كل من تياريس وإيسدانتي.
“هل ما فعلته صواب؟”
لا بد أنه كذلك. المرأة التي كان يبحث عنها دوق نابرانت، هي نفسها من قتلت من كانت بمثابة منقذ لإدوين.
لذا سواء أكانت مذنبة أم لا، كان من الأفضل قتلها. بهذه الطريقة فقط يمكن إيذاء قلب تياريس،
دوقة نابرانت. وتحققت توقعاته بالفعل.
كان قلبه ضعيفًا، فلم يستطع أن ينهي الأمر في ساحة الصيد. كان يمكن أن يسبب لها إصابة خطيرة على الأقل،
لكنه تردد. كان يتوقع إصابة خفيفة إن لم تمت، لكنها عادت سليمة تمامًا.
“لقد ترددت قليلاً.”
وجه الدوقة كان يشبه كثيرًا ذلك الشخص، فلم يستطع إيذاءها كما ينبغي. ولكن الآن الوضع مختلف.
“ماما” كانت الشخص الذي يبحث عنه زوج الدوقة، إيسدانتي، لذا كان من الأفضل قتلها. لكي يزرع الشقاق بينهما.
لهذا السبب، وضع السم في جسد “ماما”، وكان سمًا عديم اللون والرائحة، لا يؤثر إلا على النساء.
وعندما وضع السم، لم يكن في الغرفة سوى “ماما” وإدوين، لذا لم يصب بأذى. ولو دفنها كما هي، فلن يُكشف أمره أبدًا.
ضميره بشأن قتل بريئة اختفى منذ زمن. لقد ندم يوم طُردت من كانت تعتني به من العائلة، لأنه لم يتبعها.
كان يبلغ من العمر ست سنوات فقط، لكنه كان عليه أن يلحق بها.
“عندما يولد هذا الطفل، هل ستعتني به يا إدوين؟”
وعد بذلك. لكنها ماتت، وانقطعت أخبار الطفل داخل نابرانت. آخر رسالة وصلته من هيليان كانت أن الأم أنجبت الطفل ثم ماتت.
بعدها، ربما بسبب التشديد في الرقابة، لم تصل أي رسائل أخرى.
لكن إدوين ظل يؤمن بأن ذلك الطفل ما زال حيًا في مكان ما. كان عليه أن يؤمن بذلك ليستمر في الحياة.
الابن الوحيد لعائلة تارمينون، وطفل يوجين. دخول إدوين إلى قصر دوق نابرانت كحارس كان صدفة،
لكن بعد أن أصبحت الأمور كما هي الآن، كان عليه أن يجد ذلك الطفل. فرق العمر بينهما يقارب الست سنوات
لذا عليه أن يبحث بين الخدم في هذا العمر تقريبًا.
بعد أن عُيّن كحارس لدوق نابرانت، سأل يوجين ذات مرة:
“هل يمكنني قتل دوق نابرانت، وأموت معه؟”
ولم ينسَ إدوين جواب يوجين أبدًا:
“ألن يكون ذلك سهلاً جدًا؟”
“لقد عانينا لأكثر من عشرين عامًا، فمجرد قتله سيكون موتًا مسالمًا جدًا، لا يليق به. أريد أن أجعله يتعذب حتى تجف دماؤه، حتى يختار الموت بيده.”
كان هذا جواب يوجين، ووافقه إدوين عليه.
“علينا أن نحاصره ببطء، حتى لا يثق بأحد من حوله.”
وهذه الحادثة ستجعل حتى قلب زوج الدوقة، القائد إيسدانتي، يتغير. كانت عينا إدوين غارقتين، بلا بريق.
شعر بقدوم أحدهم فاستدار. كان إيسدانتي.
“رجل محظوظ.”
مجرد رجل من عامة الشعب وصل لما هو عليه لأنه التقى بالمرأة المناسبة.
شخص يعيش معتمدًا على عائلة نابرانت لا يمكن أن يراه إدوين بعين الاحترام. على الأقل، بالنسبة له هو.
“سمعت أنك من أحضرت ‘ماما’.”
“نعم، هذا صحيح.”
كان يضمر الكراهية لكنه اختار كلماته بحذر. كانت هذه أولى خطوات خطته لجعل دوقة نابرانت تتألم أكثر،
ولزرع الشقاق بين الاثنين، ثم هدم بيت دوق نابرانت بالكامل.
ارتسمت على وجه إدوين ملامح اللامبالاة. كان يعلم أن إيسدانتي الذي لا يثق به لن يُصدّق أي شائعات يقولها عن الدوقة.
لذلك، عليه أن يتسلل إلى قلبه بدهاء شديد.
“من أين وجدتَها؟”
“أثناء البحث، وجدتها تتعثر في أحد الأزقة الخلفية فأحضرتها.”
“أزقة خلفية…؟ تقول إنها كانت تتجول هناك؟”
“نعم، صحيح.”
انعكست نظرات إيسدانتي الحادة تجاهه.
“وكيف علمتَ أنها اختفت في الأزقة الخلفية؟”
“هذا النوع من المعلومات يُعد من الأساسيات. فالقائد، أنتم، من تلك المنطقة، أليس كذلك؟”
“حتى وإن كنتَ من عائلة الدوق، هل هذا عذر؟”
“مكان عريق، على أية حال.”
ابتسم إيسدانتي بسخرية عندما أدرك نبرة السخرية في صوت إدوين.
“وقح.”
“هذه هي جاذبيتي، كما تعلم.”
“من الأفضل أن تسيطر على نفسك. أنا… لستُ في مزاج للعب الآن.”
“ولا أنا كذلك، في الواقع.”
كان إدوين يطيل في الكلام لأنه لم يرغب في التعاون مع إيسدانتي بسهولة. فالحاجة كانت عند إيسدانتي، لا عنده.
وبينما كان يهم بقول شيء آخر، خرجت تياريس من الغرفة.
“إدوين.”
“نعم، سيدتي الدوقة.”
“أجب بصدق.”
“إن كانت تلك أوامر الدوقة، فبالطبع سأنفذها.”
أجاب إدوين مباشرة، متقمصًا دور الفارس المخلص لأوامر سيدته أمام الجميع.
“تلقيت معلومات من فرسان الدوق، فتوجهت إلى الأزقة الخلفية. هناك، وجدت امرأة مطابقة تمامًا للأوصاف، فأحضرتها فقط.”
“وكيف كان شكلها حين رأيتها لأول مرة؟”
“كانت تعرج قليلًا، ويبدو أن بصرها لم يكن جيدًا.”
“بصرها… لم يكن جيدًا؟”
“نعم، كانت تسير متلمّسة الجدران.”
أعطى إدوين شرحًا مفصلًا إلى حدٍّ ما. سُمع صوت طحن أسنان إيسدانتي، لكنه لم يبدِ أي ردة فعل.
“أحضرتها إلى قصر الدوق، وقدّمتها للدوقة، هذا كل ما في الأمر.”
“لم تقل شيئًا مميزًا، لكن…”
ترددت تياريس. فتقدم منها إيسدانتي خطوة.
“ما الأمر؟”
“قالت… قالت لي: لماذا أمسكتِ بي ثم أطلقتِ سراحي؟”
أمالت تياريس رأسها كأنها تشير إلى غرابة الموقف. عندها ارتفعت زاوية فم إدوين بخفة وهو مطأطئ الرأس.
ولسوء حظه، كان إيسدانتي يراقبه بدقة فلم تغب عنه تلك اللحظة العابرة من التغيير في ملامحه.
لكن شعر إدوين الطويل أخفى تعابير وجهه، فلم يستطع إيسدانتي التأكد من ابتسامته.
“قالت (ماما) هذا حقًا؟”
“نعم.”
أومأت تياريس رأسها، مجيبة سؤال إيسدانتي. شعر إدوين بأن المصيدة قد أُغلقت أخيرًا.
فإيسدانتي لن يستطيع أن يثق بكلمات تياريس ثقةً تامة بعد الآن. حتى لو بقي يثق بها كشخص،
فلن يثق بعائلة الدوق ككل.
شعر بالرضا لأنه أحدث شقًا صغيرًا. شقٌّ قد يتوسع يومًا بعد يوم حتى يصبح فجوة لا تُردم.
وعندما لم يرفع إدوين رأسه، سأله إيسدانتي:
“هل تتذكر ما قالته لك عندما التقيتها أول مرة؟”
“لم تكن تحبني.”
“حقًا؟”
“أتذكر أنها قطّبت جبينها عندما رأت شعار الفروسية على درعي.”
لم يكن ذلك قد حدث فعليًا، لكن إدوين اخترع هذه الكذبة. فزيّه يحمل شعار عائلة نابرانت،
وكان يقصد بذلك الإيحاء بأن (ماما) كانت أسيرة عند شخص من هذه العائلة وأُطلق سراحها.
“حقًا إذن…”
تغيرت ملامح وجه إيسدانتي بشكل واضح، وكأنه بدأ يتساءل إن كان قد نال منصبه كقائد بسهولة غير مبررة.
ثم رمق تياريس بنظرة حادة. أما إدوين، فبقي مطأطئ الرأس وكأنه لم يرَ شيئًا.
منذ دخوله إلى قصر دوق نابرانت، لم يكن هناك يوم أسعد من هذا.
لم يكن هناك لحظة يشعر فيها بهذا القدر من النشوة بعد أن تلقّى دوق نابرانت تلك الضربة. كان يرغب في أن يخبر يوجين بهذا فورًا.
رفع رأ
سه ببطء واصطنع تعبيرًا موثوقًا على وجهه.
كانت نظرات تياريس تتفحص إيسدانتي الذي أصبح صامتًا، ثم انتقلت عيناها إلى إدوين. أما إيسدانتي،
فثبّت عينيه على تياريس، وإدوين كان يراقب تلاقي نظرات الاثنين.
كانت تلك لحظة ولادة بذرة الشك.
التعليقات لهذا الفصل " 82"