يقولون إن السعر هو ما تطلبه فقط

 

 

فكّرت تياريس للحظة في كيفية الخروج من هذا الوضع. نظرات إيسدانتي الحادة لم تكن تدع لها مجالًا للتهرب بسهولة.

 

“أنا نفسي لا أعرف، فماذا يُفترض أن أقول؟”

 

لم تكن تعرف حقًا. ولهذا السبب لم تستطع أن تجيب.

 

رغم النظرات اللائمة الموجهة نحوها، لم تفتح تياريس فمها حتى النهاية.

 

ورغم أنها كانت مستندة إليه، إلا أن الصمت ظل سيد الموقف. لم تكن تياريس وحدها من لزم الصمت،

 

بل حتى إيسدانتي لم ينطق بكلمة. كان واضحًا أن إيسدانتي لن يتراجع ما لم يسمع جوابًا منها.

 

كروووووه!

 

لو لم يُسمع صوت شيء يهاجمهم فجأة، لربما استمر ذلك التوتر بينهما.

 

كان ذلك وحشًا يُصنّف ضمن فئة “الوحوش”، يُدعى إلّين الأيل الناري. وكما يدل اسمه، كان أيلاً يمكنه نفث النيران، 

 

ولهذا كان يُصنف كوحش خطير يستوجب الحذر.

 

رفع إيسدانتي تياريس عن الأرض بسهولة ووضعها جانبًا.

 

وقبل أن ينطق بكلمة، كانت تياريس قد أدارت جسدها وتراجعت للخلف.

 

لو لم تُبعد نفسها، لكانت ستعيق حركته.

قفز إيسدانتي من على جواده واستل سيفه.

 

“قالوا إنه لا يوجد شيء غير عادي…!”

 

لو علموا بوجود وحش من هذا النوع داخل ساحة الصيد، لاتُخذت الإجراءات فورًا.

 

يبدو أن القائمين على الساحة لم يكونوا على دراية بوجود إلّين الأيل الناري.

 

فحجمه، الذي يُشبه حجم دب، وقدرته على الوقوف على قدمين، قد يجعل المرء يخلطه بالدببة.

 

أصاب إيسدانتي جسد الوحش بسيفه، فاندفع الأخير غاضبًا ونفث النيران من فمه.

 

مرّت نيران الوحش فوق رأس إيسدانتي بعد أن تفاداه السيف المغلف بهالة حمراء.

 

كان تحرك الأيل سريعًا بشكل غير متوقع، حتى إيسدانتي أُصيب بالارتباك وتراجع خطوة إلى الوراء.

 

في تلك اللحظة، سُمعت صرخة ألم من الأيل.

 

كوااااااه!

 

كانت خنجر تياريس مغروسًا في عين الوحش.

 

وبسبب عجزه عن الرؤية، بدأ يضرب بقرونه بعشوائية

 

إيسدانتي لم يفوّت اللحظة، وانقض بسيفه نحو القرون المشتعلة.

 

وحين شق السيف جسده، اندفعت الدماء من موضع الجرح، ليطعن إيسدانتي مباشرة في قلب الوحش.

 

اتجهت نظراته الحادة، التي ما زالت مشبعة بالرغبة في القتال، نحو تياريس.

 

لكن تياريس لم تُدر وجهها، بل واجهته مباشرة.

 

وحين رأى في عينيها الهادئتين استقرارًا، بدأت نظراته تَهْدأ تدريجيًا.

 

وعندما أعاد فتح عينيه، اختفى منها تمامًا أثر التوحش.

 

“يبدو أنني اصطدتُ فريسة عن غير قصد.”

 

“لكنه وحش، فلن يمكننا الاحتفال بها في وليمة، أليس كذلك؟”

 

“لكن يُقال إن بعض أجزاء الأيل الناري جيدة جدًا… للرجولة.”

 

“ماذا؟!”

 

“هل أُكررها لكِ؟”

 

“لا! كفى!”

 

رفعت تياريس يديها بسرعة وغطّت وجنتيها. أصبح وجهها أحمر تمامًا، بل اقترب لونه من لون شعر إيسدانتي.

 

“يجب أن أستدعي الناس. لا يمكننا حمله وحدنا.”

 

سمعا صوت حوافر يقترب من بعيد.

كان ذلك صوت حصان تياريس، الذي هرب من الصدمة، وهو يعود.

 

فرحت تياريس بذلك، لكن إيسدانتي قال:

 

“اذهبي أولًا واطلبي المساعدة.”

 

“لن تأتي معي؟”

 

“قد يطمع أحدهم في غنيمتي.”

 

رغم أنه من غير المرجّح أن يدخل أحد إلى ساحة صيد تابعة لدوقية نابارانـت، إلا أن تياريس وافقته.

 

فلو بقيت معه، قد يستأنف سؤاله عن سقوطها، وكان الأفضل لها أن تنسحب من الموقف.

 

“سأذهب إذن

 

“انتظري لحظة.”

 

وقبل أن تعتلي حصانها العائد، أمسكها إيسدانتي.

 

“اركبي حصاني. حصانكِ لا يزال مذعورًا، وقد لا يكون قد هدأ بعد. أعتقد أن هذا أكثر أمانًا.”

 

كان اقتراحًا، لكنه كان أشبه بأمر لا يُرفض.

 

“لا داعي لذلك…”

 

“انظري. اللجام مقطوع. إنه خطر.”

 

أومأت تياريس برأسها واعتلت حصان إيسدانتي.

 

نظرت إليه للحظة قبل أن تبتعد راكبة.

 

بعد أن بقي إيسدانتي وحده، بدأ يتفقد معدات الحصان.

 

“أحدهم قطعها بسكين.”

 

كان هناك أثر واضح لشقوق السكين على السرج واللجام.

 

أما حصانه هو فكان بحالة جيدة.

هذا يعني أن المستهدف كان تياريس.

 

أول شخص خطر في باله كان إدوين، الذي أحضر حصانها.

 

“لكن الطريقة سطحية جدًا ليكون هو.”

 

لو كان الفاعل إدوين، لما اكتفى بقطع اللجام فقط، بل لربما أمعن في قطع السرج.

 

ربما جعلها تنطلق بسرعة، ثم تسقط فور محاولتها التوقف.

 

“من يمكن أن يكون؟”

 

يبدو أن هناك شخصًا داخل هذا القصر يستهدف تياريس.

 

“وفوق ذلك، هناك قوى خارجية تترصّدها أيضًا…”

 

الشكوك التي بدأت حينما حدث أمر كلوي، أصبحت الآن يقينًا بعد هذه الحادثة.

 

تأمل إيسدانتي الأيل الناري الميت بنظرات ثقيلة.

 

وحوش كهذه لا تدخل ساحة الصيد من تلقاء نفسها.

 

“أحدهم أدخله عمدًا.”

 

لقد رتّب كل شيء، حتى إذا دخلت تياريس يومًا ما ساحة الصيد، تلتقي بهذا الوحش وتُقتل.

 

كان فخًا مزدوجًا: العبث بالسرج واللجام، وإطلاق الوحش في المكان مسبقًا.

 

“لا أعلم من يكون، لكن من الواضح أنه شخص جريء… كيف يجرؤ على مد يده إلى هذا المكان؟”

 

وجود إيسدانتي في دوقية نابارانـت كان أمرًا يعلمه جميع نبلاء الإمبراطورية.

 

وأن يتجرأ أحدهم على تدبير مكيدة داخل الدوقية التي يحميها القائد العام للإمبراطورية،

 

فهذا يعني أنه لا يمانع في جعله عدواً له.

 

من يدري ما الذي يكون قد فعله أيضًا داخل الدوقية.

 

قرر إيسدانتي أنه عند عودته، سيفتش الدوقية من جديد، ويشدد الحراسة.

 

“سيدي القائد!”

 

ظهر هالبَرت وفرسانه.

 

“إنه الأيل الناري. عالِجوه بما ترونه مناسباً.”

 

“هاه! نيرڤين سيسعد بذلك. أليس هذا النوع من الوحوش يُباع بثمن؟”

 

“فلتقيموا حفلة مع أهل الدوقية بذلك المال.”

 

“أوه، فكرة ممتازة.”

 

“هكذا أرادها دوق نابارانـت.”

 

أمر هالبَرت الفرسان بالتحرك.

وقبل أن يبدأوا بنقل الوحش المُنهار على أكتافهم، همس إليهم إيسدانتي:

 

“أحضروا لي حجر المانا السحري.”

 

“أمرك.”

 

فوحش بنفَس ناري بهذه القوة لا بد أن يحمل حجر مانا عالي النقاء

 

اتجه الفرسان نحو قصر الدوقية، بينما بقي هالبَرت واقفًا ينتظر إشارة من إيسدانتي للرحيل.

 

وحين اقترب منه من الخلف، ناداه إيسدانتي:

 

“هالبَرت.”

 

“نعم، سيدي القائد.”

 

“أين روبرت؟”

 

“روبرت؟ أليس هو الطبيب المتخصص في علاج الصدمات بعد الحروب؟”

 

“أحضره.”

 

“حاضر.”

 

“إلى القصر الرئيسي.”

 

“مفهوم.”

 

ركب إيسدانتي حصان تياريس استعدادًا للرحيل، وقبض على لجام الحصان وشَعره في آنٍ واحد.

 

لكن حين لمس عُرف الحصان، تذكّر المشهد الذي وقع منذ لحظات، فتراخى قبضة يده فجأة.

 

خفق قلبه، وكأن شيئًا سقط داخله بثقل.

 

رغم أنها بدت بخير، إلا أن تياريس لم تكن كذلك.

 

عليه أن يتأكد من حالتها النفسية.

ملامحه أصبحت أكثر جديّة، حتى إن هالبَرت لزم الصمت تأثرًا به.

 

ولم تغادر تلك التعابير الجادة وجه إيسدانتي حتى غادر ساحة الصيد.

 

أصابت الدهشة وجوه خدم الدوقية عند رؤيتهم الأيل الناري الذي اصطاده إيسدانتي.

فخدم العاصمة في إمبراطورية هيفيروس لم يسبق لهم أن رأوا وحشًا من قبل،

 

بل لم يشاهد بعضهم حتى دبًا حقيقيًا.

 

“ما هذا الشيء؟”

 

“قالوا اسمه… إيل… إيل شيء ما؟”

 

“إنه الأيل الناري، هكذا قالوا.”

 

“آه، الأيل الناري؟ أعرفه. لكن، كيف ظهر في ساحة الصيد؟”

 

أشار أحدهم إلى غرابة الأمر، وساد الصمت.

حقًا، كان شيئًا غير طبيعي.

 

وحوش كهذه لا تظهر إلا على الحدود، فكيف ظهر هذا في غابة قريبة من العاصمة؟

 

كان الأمر خطيرًا ويستوجب إخطار القصر الإمبراطوري.

 

“هيه، لا بأس! زوج السيدة الدوقة قوي بما فيه الكفاية ليقضي على أمثال هذا الوحش، ودوقيتنا أصبحت في أمان!”

 

“صحيح!”

 

“بالإضافة إلى أنه قال إننا سنقيم حفلة من ثمن بيع هذا الوحش!”

 

قالت إحدى الخادمات ذلك، مؤكدة أنها سمعت الأمر بشكل عابر.

 

وبدأ الجميع يمتدح إيسدانتي وتياريس بكلمات مبعثرة.

 

رغم أن دوقية نابارانـت كانت تُعرف برواتبها السخية مقارنة بباقي النبلاء، إلا أن إقامة حفلات كانت نادرة.

 

وكانت هذه أول حفلة منذ أن أصبحت تياريس دوقة.

 

“كم هم رؤوفان! لم ينسونا حتى نحن!”

 

“نعم، السيد الدوق السابق كان طيبًا، لكن الدوقة الحالية أكرم!”

 

بعد أن تولّت تياريس منصب الدوق، لم تتردد في تخصيص ميزانية كريمة للخدم.

رغم أن ذلك أثر على الميزانية العامة،

 

إلا أن ولاء الخدم  باستثناء دائرة الخدم المقربين من كبير الخدم ازداد أكثر.

 

بعضهم انحاز إلى جانب إيسدانتي بسبب المال، لكن هؤلاء لم يكونوا ليتحركوا إن لم يكن زوج تياريس تحديدًا.

 

ولم يطلب إيسدانتي معلومات عن تياريس، بل طالب بمراقبة جيرمان.

 

وبعد التخلص من كبير الخدم الذي كان يعمل لصالح جيرمان، بدأ الخدم يساعدون من تلقاء أنفسهم.

 

فهم يعلمون جيدًا كم كان جيرمان يسيء معاملة تياريس.

 

لكنهم التزموا الصمت خوفًا من أن تتسرب أسرار الدوقية إلى الخارج.

 

“بالمناسبة، سمعت أن قرون هذا الأيل الناري تُطحن ويشرب منها، وتُقال إنها مفيدة للرجولة!”

 

“سمعت نفس الشيء. ويقال إن ثمنها يحدده البائع، بلا حدود!”

 

وبينما كانوا يثرثرون هكذا، ظهر نيرڤين برفقة أحد أفراد قافلة تجارية، وهو ينوي شراء الوحش.

 

“حتى رئيس القافلة أتى بنفسه. يبدو أنه أمر مهم.”

 

“بالطبع، إنه أيل ناري، كيف لا آتي بنفسي؟”

 

ابتسم يوجين، رئيس قافلة سيلون، وهو يضحك بمرح.

 

عيناه الزرقاوان لمع فيهما بريق حاد، لكن نيرڤين لم يلحظه.

 

“لم أكن أظن أن قافلة سيلون مهتمة بهذا النوع.”

 

“أنتم من اتصل بي أولًا متجاوزين القوافل الأخرى، فكيف لا آتي؟ سأدفع لكم بسخاء.”

 

ج

“إن كان الأمر كذلك، فلا داعي للتواصل مع أطراف أخرى.”

 

تضايق يوجين قليلًا من أسلوب نيرڤين، لكنه ابتسم بعيونه ضيقة.

 

في الحقيقة، كان قد جاء ليتفقد أجواء دوقية نابارانـت

بنفسه.

 

فالرجل الذي أرسله إلى الداخل لم يعُد منه أي خبر حتى الآن.

 

كانت قافلة سيلون قد شهدت نموًا هائلًا خلال الـ25 سنة الماضية.

 

فقد زودت فرقة إيسدانتي العسكرية بالمؤن، وعرضت أيضًا الاستثمار في دوقية نابارانـت.

 

دعوة يوجين شخصيًا كانت خطوة ذكية.

 

لكن ذلك إن كان بالفعل ودودًا تجاه الدوقية.