هبّت ريح باردة. ريح شديدة البرودة تكفي لاقتلاع حتى قلب تياريس. فكّرت للحظة، هل يمكنها الهرب متسللة عبر هذه الرياح متجنبة أعين الفرسان؟ لكن النتيجة كانت واضحة: مستحيل.
فرسان إيسدانتي كانوا ماهرين، وكان “هالبرت” يحرس باب غرفتها بنفسه. لا يمكنها الخروج خفية من دون أن تُرصد من عيونهم اليقظة. نظرت تياريس من النافذة وسحبت الرداء المنزلق عن كتفها.
“الريح باردة.”
وكذلك قلبها كان يؤلمها. انتظرت الطفل بشوقٍ كبير، لكنها لم تستطع حمايته، وتركته يرحل بهذه البساطة.
“حتى الطبيب أوصاني بالحذر…”
وفجأة، حين خطرت ببالها صورة “لاغوس”، اتسعت عينا تياريس. لقد قال لها إن عليها أن تكون حذرة بسبب ضعف جسدها.
لم يكن شيئًا مميزًا آنذاك، فلماذا بات يؤرّقها الآن؟
“جسدك ضعيف، عليك أن تكوني حذرة، من الأفضل أن تتوقفي عن التمارين…”
بدأت تياريس تساورها الشكوك. هل كان لاغوس يُخفي عنها شيئًا؟ تحسّن جسدها بالفعل، فلماذا طلب منها التوقف عن التمارين؟
“هل هناك أحد بالخارج؟”
“نعم، سيدتي الدوقة!”
شعرت بنظرة خاطفة من هالبرت نحوها، لكنها لم تلتفت نحوه. عندها، دخلت “سوليت” بعد أن سمعت مناداتها.
“اذهبي وأحضري الطبيب.”
“السيد لاغوس؟”
“نعم.”
رمقتها سوليتي بنظرة مليئة بالتساؤل، لكنها لم ترد عليها. بقيت تياريس تنظر من النافذة.
صفعة الريح الباردة على وجنتيها جعلتها أكثر حزمًا. فلم يتبقَ لها شيء سوى لقب الدوقة الفارغ. تذكّرت الكلمات التي قالها لها إيسدانتي.
“قلت إنك لا تستحقين.”
مهما فعل، كان من الصعب أن تلومه. فكل ما تملكه اليوم، كان بالأصل ملكًا له.
“هل فقدت الطفل بسببي، أم بسبب…”
قطعت أفكارها عند هذا الحد. لا جدوى من لوم إيسدانتي الآن. في الحقيقة، لم يكن هو السبب الأساسي.
كان سييرهان هو من استدعاها، وتعرّضت لصدمات كثيرة داخل القصر. التوتر المستمر والضغوط أنهكتها.
صحيح أن كلمات إيسدانتي كانت القشة الأخيرة، لكنها لم تكن متأكدة إن كان يجب أن تلقي اللوم عليه.
أغمضت تياريس عينيها بإحكام. المنظر من النافذة لم يكن جميلاً. كان فرسان إيسدانتي يحيطون بالمكان، وكانت تعلم أنهم هناك ليمنعوها من الفرار.
“سيدتي الدوقة، الطقس بارد.”
“هل أُمِرتم بمراقبة النافذة أيضًا؟”
“ليس كذلك.”
جاء صوت هالبرت من خلفها. كان صوته يحمل القلق، لكنها شعرت بمرارة تغمرها. لم تستطع تهدئة اضطراب قلبها.
لم تكن تأكل جيدًا رغم بقائها في غرفتها، مما جعل حالتها الجسدية لا تتحسن.
“أنا فقط…”
كان بإمكانها تخمين ما كان على وشك أن يقوله، لكنها لم ترِد أن تسمعه. ففكرة أن رجلًا من رجال إيسدانتي يحاول مواساتها، بدت لها وكأنها سخرية.
“لقد تأخر.”
مر وقت طويل منذ ذهاب سوليت لإحضار لاغوس، لكنه لم يظهر. تسلّلت إلى قلبها مشاعر القلق.
حسب شخصية لاغوس، لو علم أنها استدعته، لأتى مسرعًا. هذا التأخير لا يُنذر بخير.
“لا يكون…”
بينما غرقت في خواطرها القلقة، سمعت ضجة في الخارج. صوت أكّد شكوكها وأشعل قلقها.
“سيدتي الدوقة! السيد لاغوس… لقد اختفى!”
“هل فرّ، أم حدث له أمر آخر؟”
كان رد تياريس هادئًا على نحو غريب، مما جعل كتفي سوليت يرتجفان. ملامح تياريس الباردة وهي تتحدث عن اختفاء طبيبها الخاص لم تكن كما كانت في السابق.
كانت تياريس دومًا تهتم بخدم القصر وتعاملهم بعطف، ولهذا نالت احترامهم بصفتها دوقة.
لم يكن يهم إن كانت من دم نافارانت، فقد كسبت قلوبهم بطبيعتها الإنسانية.
“سيدتي…”
راقبتها سوليت بصمت، ثم عضّت على شفتيها. منذ أن فقدت تياريس طفلها، بدأت ملامح الحياة تختفي من وجهها شيئًا فشيئًا.
وكأن ظلًا كثيفًا بدأ يغمر وجهها أكثر فأكثر. وسوليت، التي رأت العديد من الأشخاص في دوقية نافارانت، رأت وجهًا مشابهًا من قبل.
كان ذلك وجه الدوقة السابقة لدوقية نافارانت.
عندما علمت بأن جيرمان كان لديه امرأة أخرى، وأن تلك المرأة أنجبت طفلًا، عاشت ببقايا روح… بنفس ملامح تياريس اليوم.
“ثم توفيت لاحقًا.”
ظهرت في وجه “سوليت” نظرة عزيمة حازمة. لقد عقدت العزم على أن تُعيد تياريس كما كانت، مهما كلفها الأمر.
لم تستطع تكرار نفس الخطأ الذي ارتكبته حين تركت دوقة نافارانت السابقة تُواجه مصيرها وحدها.
“لا يمكنني تكرار خطئي.”
لو أنها فقط أولت اهتمامًا أكثر، لربما استطاعت أن تمنع وفاة الدوقة السابقة. ولو أنها فقط أخبرت تياريس بالحقيقة وقتها…
لكن تياريس في ذلك الوقت كانت لا تزال صغيرة، وكانت تخضع لتدريبات مكثفة استعدادًا لتولي منصب الدوقة.
وخلال تلك الفترة، حتى ولو كانت دوقة، لم يكن أحد يجرؤ على التحدث معها بحرية. هكذا كانت تقاليد دوقية نافارانت العريقة.
رغم أن تلك التدريبات تهدف إلى إعداد من سيتولّى اللقب بشكل صارم،
فإن سوليت كانت تعلم أنها ليست إلا وسيلة لنزع الإنسانية من ورثة النبلاء رفيعي الشأن.
ولا تزال تتذكر تياريس وهي تبكي بحرقة وهي ممسكة بجسد الدوقة الراحلة.
كانت تعلم أنها ليست كفؤًا كافيًا لتولي منصب رئيسة الخادمات، لكنها لم ترفضه لأن تياريس بدت هشة جدًا من دون “هيليان”، رئيسة الخدم السابقة.
“لست متأكدة.”
كادت تغرق في أفكارها حتى نسيت أن تياريس، بصفتها دوقة، قد سألتها. لكنها تداركت نفسها بسرعة وأجابت.
إلا أن ردها لم يكن ما كانت تياريس تتوقعه، فسألت من جديد:
“هل إيسدانتي يعلم بذلك أيضًا؟”
“زوجكِ لا يعلم بعد، يا سيدتي.”
“إذن اذهبي وأخبريه.”
“ماذا؟”
“قلتُ: اذهبي وأخبريه.”
اتسعت عينا سوليتي لوهلة أمام الأمر المباشر، ثم انحنت بأدب وغادرت. وبعد اختفائها،
ألقت تياريس نظرة على هالبرت لبرهة، ثم أعادت بصرها إلى خارج النافذة.
“اختفى؟”
كان هناك احتمالان لاختفاء لاغوس: إما أن يكون إيسدانتي قد قتله، أو أنه فرّ لأنه خشي من تحمّل المسؤولية بعد اختفاء وريث الدم النبيل.
“إذًا، ليس من فعل إيسدانتي.”
هزّت تياريس كتفيها بتنهيدة شبه هامسة، ما جعل هالبرت يرتجف بخفة، لكنها لم تلحظ ذلك. استمرت في التفكير:
“يعني أنه كان يعلم بأني حامل.”
لو لم يكن يعرف، لما اختفى بهذه السرعة. تياريس كانت متأكدة: لاغوس اكتشف حملها في الفحص السابق.
“لكن لماذا لم يخبرني؟”
صحيح أنها لم تصرّح له صراحة بأنها تنتظر الطفل، لكنها كانت من دم عائلة الدوق.
وكان من المعروف أن ولادة وريث لدم الأثر المقدس أمر بالغ الأهمية في الدوقية.
كونه لم يخبرها، لا بد أن هناك من تلاعب بالأمر.
“على الأقل، إيسدانتي لم يكن من بينهم.”
من خلال ما أظهره من مشاعر حين علم بفقدان الطفل، أدركت تياريس أن الأمر كان يؤلمه بالفعل.
سواءٌ أكان حزنًا على الطفل نفسه، أم لأنه كان يتمسك بها به، فقد كان واضحًا.
“هالبرت.”
“نعم، سيدتي الدوقة.”
“أين إيسدانتي الآن؟”
“في الجناح المنفصل، على الأرجح.”
“الجناح؟ ألا يدخل إلى القصر الرئيسي؟”
“يأتي من وقت لآخر، نعم.”
“ومتى بالضبط؟”
لم تكن قد رأته مؤخرًا، فطرحت السؤال. بدا التردد على هالبرت، الذي اعتاد الرد بسرعة، مما جعل ملامح تياريس تتصلب.
فاستعجل في الإجابة، مدركًا عدم ارتياحها:
“عندما تكونين نائمة، سيدتي.”
“إلى أين؟”
“إلـ… إلى هذه الغرفة…”
“هاه!”
ضحكت تياريس بدهشة لا تخلو من السخرية. لم تجد ما تقوله عن تصرف إيسدانتي،
الذي لم يكن يملك حتى الجرأة لمواجهتها مباشرة، فيكتفي بالنظر إلى وجهها النائم فقط.
“أنا… أقصد…”
“اصمت.”
تصرف هالبرت المربك بدا مثيرًا للسخرية. كونه حارسها الشخصي،
كيف سمح لإيسدانتي بالدخول في منتصف الليل دون أن يمنعه؟
“إلى أي مدى انحدرت هيبة الدوقة؟”
أدركت تياريس أنها بحاجة لاختيار حارس جديد. فكل من في الدوقية أصبحوا من أتباع إيسدانتي. كان من الضروري استقدام شخص من الخارج.
“ربما عليّ استدعاء كارلوس.”
فهو زعيم “أومبره”، ومن المؤكد أنه سيقف بجانبها أكثر من إيسدانتي.
“لكن لا، حتى هو يتبعني فقط لأنني من دم نافارانت.”
لم يكن هناك من تثق به تمامًا.
“رغم ذلك، ربما كارلوس…”
ربما، فقط ربما، سيكون في صفّها. حتى لو عرف أن إيسدانتي من نفس الدم. مجرد هذا الشعور أعطاها بصيصًا من العزاء في هذا الظلام.
بدأت شرارة تضيء مجددًا في أعماق عيني تياريس الزرقاوين.
“هالبرت.”
“نعم، سيدتي الدوقة.”
“أخبر إيسدانتي، وأطلب منه أن يُمسك بلاغوس.”
“أمرك.”
“وإن كان قد فرّ، فطارده حتى النهاية وأحض
ره.”
“مفهوم.”
“حيًا.”
“سأضع ذلك في الحسبان.”
انحنى هالبرت بعمق ثم غادر، فبقيت تياريس وحدها.
كانت تلك المرة الأولى منذ وقت طويل التي تبقى فيها وحدها في هذه الغرفة.
جلست على الكرسي، أغمضت عينيها، ولم تتحرك حتى عاد هالبرت.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات