دعــــني أرحل
تفوّه إيسدانتي في النهاية بكلمات قاسية.
ولم يكن أمامه خيارٌ سوى قولها.
ففي النهاية، عاجلًا أو آجلًا، ستعرف الحقيقة، سواء برغبتها أو من دونها.
لذا كان من الأفضل له أن يكشف كل شيء بنفسه، ويعد بحمايتها.
“ماذا قلت للتو…؟”
ارتجفت شفتا تياريس بعنف.
شعر إيسدانتي بوخز في صدره وهو يرى وجهها الشاحب، لكنه لم يكن يستطيع التراجع الآن، ولا أن ينهي الأمور بشكل مبهم.
“قلتُ إنني أنا من قبض على مركيز تارمينون الهارب، وسلّمه للقصر الإمبراطوري.”
“إيسدانتي!”
أمسكت تياريس بياقة سترته.
حتى عبارة “هذا ظلم” لم تستطع الخروج من فمها.
كانت ردة فعلها مشابهة تمامًا للحظة التي عرفت فيها أنها ليست من نسل دوقية نابارانت.
وحينها فقط فهم إيسدانتي.تياريس لا تعرف كيف تُظهر حزنها.لطالما كتمته وحدها، لذا لا تستطيع التعبير عنه، شأنها شأنه.
“كيف يمكنك قول شيء كهذا!”
“لو بقيتُ صامتًا، لكنتُ قد خنتك. مرة واحدة تكفي.”
“كيف لك… أن تفعل بي هذا!”
تلقّى إيسدانتي لكمات تياريس على صدره دون مقاومة.لم تكن مؤلمة. لكن مع كل ضربة، كانت موجات تتردد في صدره.
صدره هو من كان يرن، لكنها هي من كانت تبكي.تأمل إيسدانتي وجه تياريس المبلل بالدموع بصمت.
“… كيف لك أن تكون بهذه القسوة؟”
“تياريس.”
لم تعد تلك المرأة التي تبكي متكئةً عليه موجودة.المرأة الواقفة أمامه، بعينيها الزرقاوين المبللتين بالدموع،
كانت دوقة نابارانت الشامخة.
“سؤال واحد فقط.”
اعتدلت تياريس في وقفتها.
كما لو خرجت من كتب آداب النبلاء العليا، وقفت أمامه بكبرياء، ثم فتحت فمها:
“لو لم أكن من نسل مركيزية تارمينون، هل كنتَ ستدعني أستمر كدوقة لهذا البيت؟”
“بالطبع…”
ارتسمت ابتسامة مريرة على زاوية فم تياريس.
“إذًا في الحقيقة، لم يكن يهمك إن كنتُ أنا أو غيري.”
لكن الأمر لم يكن كذلك.ومع ذلك، لم يتحرك إيسدانتي من مكانه.
يده التي امتدت نحو تياريس وهي تدير ظهرها له بعينين دامعتين، لم تستطع أن تتقدم أكثر.
لو لم تكن تياريس، لكان إيسدانتي قد أزاح أي شخص آخر يحل مكانها بسيفه.التي قادت بيت دوقية نابارانت إلى ما هو عليه الآن،
عبر حل مشكلات جيرمان واحدة تلو الأخرى، كانت تياريس.
بل حتى وهي تحت وطأة اضطهاد جيرمان، أدت دورها كدوقة بإخلاص.لم يرَ أحدًا يناسب هذا المنصب كما تناسبته هي.
كونها من نسل تارمينون لم يكن يهمه.
صاحبة قوة مرتبطة بالآثار الإلهية، لكنها لم تكن بحاجة لتلك القوة لتعيش فبفضل إرادتها، استطاعت أن تحيا بكرامة.
لذا لم يكن بحاجة لقدرتها التي تبطل آثار القوى الإلهية.
ثم لم تعد تُسمع خطوات تياريس وهي تغادر الغرفة، بل سُمِع صوت سقوط.أسرع إيسدانتي إلى الخارج، وأمسك بها وهي منهارة على الأرض.
“تياريس!”
حين رفع جسدها ليسندها، رأى شيئًا لم يستطع تجاهله.كان ذلك هو الدم الذي بلّل الجزء السفلي من ملابسها.
وجهه شُحب بالذهول واليأس.
…………..
أُغلِقَت أبواب دوقية نابارانت تمامًا.
إشارة واضحة أنهم لا يستقبلون الزوار.
وكانت الدوقة غارقة في الحزن.
مع انتشار خبر إجهاض تياريس، بدأت تصل الهدايا ورسائل التعزية إلى بوابة الدوقية من أصدقائها والموالين لها.
حتى القصر الإمبراطوري أرسل رسالة تعزية رسمية.
تياريس، ما إن فتحت الرسالة وقرأت محتواها، حتى أحرقتها.
انطبع وهج النيران الخافتة على وجهها
الخالي من التعابير، مما جعل “سوليت”، وصيفتها،
تنتفض للحظة ثم تستعيد وضعها.
“سيدتي، زوجك يطلب رؤيتك.”
“قولي له إني لا أريده.”
“حاضر.”
كان ذلك قد تكرّر مرات كثيرة.
إيسدانتي أراد رؤيتها ليل نهار، لكن تياريس لم تفتح له الباب.
غرفتها ظلت مغلقة بستائر ثقيلة منذ اللحظة التي فقدت فيها طفلها، ولم تُفتح منذ ذلك الحين.
كانت تشعل شمعة خافتة وتحدّق في لهيبها بشرود.هذا أصبح هو روتين تياريس اليومي.
وبما أنها توقفت عن إدارة شؤون الدوقية، أصبح “سيشين” يدير الأمور بنفسه، يركض هنا وهناك بلا توقف.
حتى هو لم يرَها منذ ذلك الحين.
حاول اللجوء إلى جيرمان للسؤال عن سير الأعمال، لكن إيسدانتي تدخّل.
كان ينوي فقط القيام بذلك مؤقتًا، حتى تتعافى هي.
وبرغم أنه لم يكن بمهارة تياريس، إلا أنه كان قائدًا عسكريًا، كما عاش في قصر الدوقية لأكثر من نصف عام،
فتمكّن من إدارة الشؤون دون خلل.
لو لم ينتشر همس الخدم بخوف عن غياب الدوقة، لظنّ الجميع أن الأمور تسير كالمعتاد.
“سيدتي…”
نادتها سوليت بصوت خافت.
استدارت تياريس إليها ببطء، لكن عينيها الفارغتين الخاليتين من أي شعور، لم تعكسا شيئًا.
“هل أنتِ بخير؟”
“سواء كنت بخير أو لا، ما الفرق؟”
كان صوتها خاليًا من أي عاطفة، مما أربك سوليت أكثر.حتى بعد معرفتها بفقدان طفلها، لم تُظهر تياريس أي رد فعل.
“سيدتي، أرجوكِ…”
“أنا متعبة… اخرجي.”
حين لوّحت يد بيضاء في وجهها، لم تستطع سوليت أن تقول شيئًا آخر وخرجت بهدوء.
واجهت إيسدانتي واقفًا أمام باب غرفة النوم، لكنها لم توجه إليه أي كلمة.
فكما كان وجه “تياريس” مظلمًا، كان وجه “إيسدانتي” كذلك.
في اليوم الذي انهارت فيه تياريس، كان إيسدانتي يصرخ كالمجنون.
ولأنها كانت المرة الأولى التي يُظهر فيها مشاعر بتلك الحدة، اختبأ الخدم جميعًا من الخوف.
حين دخل طبيب الدوقية الرئيسي مسرعًا وأبلغ عن فقدان الجنين،شعر كل من كان في الغرفة وكأنهم يتنفسون وسط هالة من القتل.
لأيام ظلوا يعانون من كوابيس متكررة ويرتجفون،أما إيسدانتي فظل ملازمًا لها دون أن يغمض له جفن.
ولو لم تأمره تياريس بمغادرة غرفتها بعد أن استعادت وعيها،لكان قد بقي إلى جوارها حتى الآن.
كل من رأى ذلك المشهد، خمّن أن فقدان تياريس لجنينها كان له علاقة مباشرة بإيسدانتي.
وانتشر خبر أن دوقة عائدة من القصر الإمبراطوري فقدت طفلها فجأة،وأحدث ذلك صدمةً داخل طبقة النبلاء.
كم كان الضغط الذي مارسه سييرهان عليها حتى تتعرض “تلك” تياريس نابارانت لمثل هذا الانهيار؟
هكذا كانت الشائعات، وسرعان ما انقلبت نظرة النبلاء نحو الإمبراطور.
بين النبيلات أصبح سييرهان شخصًا يستحق القتل، وحتى النبلاء الذكور لم يُخفوا استياءهم.
تياريس كانت قائدة آل نابارانت، المعترف بها كدوقة ذات كفاءة عالية.والآن بعد أن عزلت نفسها، كان لا بد من أن تكثر الأحاديث.
إيسدانتي سمع بكل ذلك، لكنه لم يردّ على ترهات النبلاء أو فضولهم.بل إن الإمبراطور نفسه،
بعد سماعه بالشائعات، منح إيسدانتي وقتًا أطول ليكمل مهمته في تتبع الجهة التي تقف خلف الأحداث.
وهذا، في ظل غياب تياريس، كان أفضل ما حدث للدوقية.
“تياريس.”
ناداها إيسدانتي بصوت خافت من خلف الباب.
فوق السرير، ارتجف جسد تياريس وانكمش أكثر.
لم تكن تريد رؤيته.
كل ما شعرت به نحوه سابقًا أصبح بلا قيمة.
تحوّل في لحظة إلى شخص لا معنى له.
سواء كانت دوقة،
أو زوجته، لم تعد تهتم.
وكلما فكرت في ذلك، شعرت أن لا شيء يستحق أن تفعله.
“لا يمكنني الانتظار أكثر.”
عند سماع هذه الكلمات، رفعت تياريس رأسها بسرعة.وقبل أن تستوعب وقعها، فُتح الباب.
دخل غرفتها بسهولة شديدة.
بخلاف تياريس، التي كانت تتردد دائمًا في الاقتراب من غرفة نومه أو مكتبه،
دخل هو بثقة، وكأن لا شيء يمنعه.
ربما أنا بهذا القدر من السخافة.
وإلا، لما تجرأ على دخول غرفة امرأة بهذه البساطة.
لكن تياريس لم تتجنب نظرته وهو يقترب منها.اقترب مباشرة، ثم استدار نحو النافذة.
وحين أزاح الستائر الثقيلة، تدفقت أشعة الشمس المشرقة إلى الداخل.
رؤية ذلك الضوء الجميل جعلت تياريس تختنق بالبكاء.
طفلها لم يذق من جمال هذا العالم شيئًا، ورحل هكذا.بدأت الدموع تنهمر من عينيها، لكنها لم تشعر بذلك.
“لماذا تبكين مجددًا؟”
لامست يده خدها.
مرّر أصابعه ببطء على دموعها، لكنها لم تبتعد.
بل لم تعد ترى أن هناك سببًا للابتعاد.
فهو الرجل الذي خدعها، وخانها،
وهو من جعلها تفقد طفلها في النهاية.
“لا تبكي.”
همس إيسدانتي بصوت خافت،
لكن دموعها لم تتوقف.
شفاهها أصبحت جافة من قلة الطعام، والهالات تحت عينيها سوداء، كمن أنهكهم المرض.
صحيح أنها تمكنت من ابتلاع بعض الحساء،
لكن نصفه تقيأته لاحقًا.وحين نظر إليها إيسدانتي أخيرًا،
لم يجرؤ على قول شيء آخر.
مرت لحظات طويلة لم يبعد فيها أي منهما عينيه عن الآخر.
“إيسدانتي…”
قطعت تياريس الصمت أخيرًا، بصوت خافت جدًا.وحين سمع صوتها، ترك النافذة واقترب من السرير.
“…… أعطني.”
كان صوتها خافتًا جدًا، بالكاد مسموعًا.
لذا انحنى إيسدانتي ليستمع.
اقترب بأذنه من شفتيها مباشرة، فحرّكت تياريس شفتيها وقالت:
“دعني أرحل.”
اتسعت عينا إيسدانتي وهو ينظر إليها.
وراحت عروقه تبرز فوق يده التي كانت تقبض على شرشف السرير.
ولمّا التقت نظراته بعينيها، همست مرة أخرى:
“دعني أرحل، إيسدانتي.”
التعليقات