كيف تجرؤ على خداعي؟
عندما انتحرت كلوي، اتسعت عينا سييرهان ببياض غاضب. وبحالة من الغضب العارم، بدأ يلوّح بسيفه صارخًا.
إيسدانتي أخفى تياريس خلفه، واضعًا يده على خصره مستعدًا لاستخراج سيفه في أي لحظة.
لم يكن يتوقع من سييرهان أن يؤذيها، لكن مع ذلك، راقب الموقف بتحفّز، خشية أن يمسها أي أذى.
“جلالتك، أرجو أن تهدأ…”
“أهدأ؟! هل يبدو لي أنني قادر على الهدوء الآن؟! ظننت أنني أخيرًا عثرت على خيط يوصلني إلى نسل تارمينون، وإذا بي أجد أن كل ما فعلته كان عبثًا!”
وقبل أن تتحول نظرات سييرهان الغاضبة إلى تياريس، تدخل إيسدانتي.
“سأعثر عليهم بنفسي.”
“ماذا؟”
“تلك المرأة لها علاقة بأحد رجالي، وسأكتشف من يقف خلفها.”
“ستكشف من يقف خلفها؟”
“نعم، هذا ما أقصده.”
حينها بدأت عينا سييرهان، اللتان كانتا تقدحان شررًا، تستعيدان هدوءهما.
ضيّق عينيه وهو يحدق في إيسدانتي الذي انحنى له بانضباط، محاولًا قياس صدقه. لكن لم يستطع استشفاف شيء واضح.
“القائد إيسدانتي.”
“نعم، جلالتك.”
“أعطيك مهلة أسبوع. خلاله، يجب أن تعود ومعك ما وجدت.”
“سأضع ذلك نصب عيني.”
مرّ سييرهان من جوار إيسدانتي المنحني باحترام، وألقى نظرة عابرة على تياريس، ثم خرج من قاعة الاستقبال.
وبخروجه، غادر الفرسان الذين كانوا يحرسون القاعة معه. وما إن خلت القاعة منهم حتى تهاوى جسد تياريس المرتجف.
حاول إيسدانتي أن يدعمها، لكنها أبعدته بضربة قوية من يدها. مع صوت صفعة خفيفة،
توقفت يد إيسدانتي في الهواء.
“لا تلمسني.”
“… لا بد أنك فهمت من سياق ما حدث، أن كل ما حصل كان مجرد سوء فهم…”
“ها!”
لم تكن تياريس تعرف من أين تبدأ. أرادت أن تسأله عن نسل تارمينون. المشكلة أنها لن تستطيع معرفة شيء إن قرر أن يصمت.
كارلوس، زعيم أومبره، لم يستطع معرفة ذلك أيضًا.
وهذا يعني أن هناك من يتعمد حجب المعلومات، أو أن حتى استخبارات عائلة دوق نابارانت لم تتمكن من كشف الأمر.
شدت على ساقيها المرتعشتين بقوة وخرجت من قاعة الاستقبال. مدّ إيسدانتي يده نحوها، لكنها خرجت بإصرار دون أن تلتفت.
رغم أن جسدها المرتخي بالكاد استطاع أن يتحملها، إلا أن تياريس استمرت في المشي. فقد شعرت أنه لو لم تفعل ذلك،
فستصرخ في وجه إيسدانتي.
كيف تجرؤ على خداعي؟
لقد وثقت به. ورغم أنها تساءلت عندما عرض عليها دوق نابارانت بكل سهولة، إلا أنه لم يكن أمامها خيار سوى أن تصدق.
ولأنه بدا وكأنه رد على ثقتها به، لم يُخضعها لأي استجواب. فقط ساعدها على أداء مهامها كدوقة بالشكل الصحيح.
لذلك، شعرت بالاطمئنان. حتى لو كانت من نسل تارمينون، وحتى لو كانت من سلالة خائنة للعائلة الإمبراطورية، ظنت أنه سيحميها.
فقد كان بينهما اتفاق سري.
طالما أنها تؤدي دورها كدوقة بنجاح، فسيقوم إيسدانتي بحمايتها. هذا ما وعدها به.
ولكن، هل كان هناك سبب آخر؟
بدأت تشك بأن السر المتعلق بنسل تارمينون، هو ما أخفاه عنها.
حتى بعد أن صعدت إلى العربة، ظلت تياريس صامتة. وإيسدانتي لم ينطق بكلمة بدوره. وعندما وصلا إلى قصر الدوق،
استقبلهما اضطراب واضح بين الخدم.
“سيدتي! فرسان القصر الإمبراطوري…!”
“أعلم ما حدث، لا داعي للضجيج.”
تدخلت تياريس على الفور لتكتم أفواههم. فلم يكن هناك فائدة تُرجى من أن يعرف العامة أن فرسان القصر قد فتشوا قصر نابارانت.
أطبق الخدم أفواههم فورًا أمام برودها، وتراجعوا برؤوس منحنية بعدما أدركوا أن مزاجها ليس على ما يرام.
بعد أن تأكدت من مغادرتهم، توجهت مباشرة إلى غرفتها. كانت تسمع خطوات إيسدانتي خلفها، لكنها لم تلتفت إليه.
“ما القصة إذًا؟”
فوجئت بصوته بعد دخولها إلى الغرفة مباشرة. وعندما استدارت، كان إيسدانتي واقفًا خلفها.
كانت الشمس تغرب خلفه، وانعكست أشعتها في عينيه. عادةً ما كانت ترى ذلك المنظر جميلًا،
أما الآن، فقد ارتجفت مشاعرها تمامًا مثل عينيه. تياريس حدّقت فيه بعزم.
“تسألني ما القصة؟”
“أريد أن أعرف لماذا تتصرفين هكذا. من المفترض أنك أدركت الآن أن كلوي لم تكن تسعى إلا للعثور على والدتك.”
“لا تهمني كلوي بعد الآن.”
ارتفع صوتها دون وعي منها. كان من الممكن أن يسمعها أحد من الخارج، لكنها لم تهتم.
“ما القوة التي تملكها عائلة تارمينون؟”
ارتفع حاجبا إيسدانتي دهشة. وتيقنت تياريس من ردة فعله أنه كان يخفي شيئًا عنها.
“قلت إنك ستدعني أبقى هنا طالما أؤدي دوري كدوقة، أليس كذلك؟”
“قلت إنني لن أطمع في مكانك.”
“وكنت تعلم أنني من نسل تارمينون.”
“نعم. وأظن أنك كنتِ على علم بذلك أيضًا.”
“صحيح. لكنني لم أكن أعلم أن لعائلة تارمينون قوة أخرى.”
“هل من الضروري أن تعرفي؟”
كلام إيسدانتي لم يكن مترابطًا.كانت تياريس تعلم أن نسل تارمينون قد ارتكب خيانة وقُضي عليه عن بكرة أبيه.
وبرغم ذلك، فإن إيسدانتي الذي حماها دون أن يقول شيئًا، كان مدعاة لامتنانها.
“تقول ذلك وكأنه أمر طبيعي.”
لكنها لم تستطع أن تنطق بجملة: “هل كنت تلهو بمشاعري؟”
كانت تلك آخر ذرة من كرامتها.
“وإذا كان لدى تارمينون قوة… فهل كان سيغيّر ذلك شيئًا؟”
“هذا…!”
لم يكن هناك ما يتغير.
لكن تياريس لم تستطع التراجع هكذا.
مرة أخرى، واجهت إيسدانتي بالكلام:
“لقد خدعتني.”
“خدعتك؟ لا، هذا غير ممكن.”
نظرت إلى إيسدانتي الذي كان يتحدث بوجه خالٍ من أي انفعال، للحظة، شعرت أنها ربما فهمت الأمور بشكل خاطئ.
راودها شك بأنها قد تكون نبشت شيئًا لم يكن من الضروري أن تفتحه.
“لم أخدعك، فقط… لم أخبرك.”
ولو لم يكمل كلامه بعدها…
“هل قلتِ إنك ترغبين بمعرفة أمر نسل تارمينون؟”
تراجعت تياريس خطوة إلى الوراء.
لم تصدق ما سمعته أذناها.
صوته بدا وكأنه يتحدث عن أمر عادي، وارتجف جسدها من البرودة التي أحاطت به.
لم يعد يبدو كشخص تعرفه.
لم يكن ذلك الرجل الذي دائمًا ما وقف إلى جانبها.
تراجعت خطوة أخرى، خشيةً منه.
“لماذا تستمرين في الهرب؟”
زمّ إيسدانتي حاجبيه، وكأنه لا يعجبه ابتعادها عنه.
بل يبدو وكأنه لا يفهم حتى سبب خوفها منه.
لم تعرف تياريس كيف تبدأ الحديث.
“عدم إخبارك لي عن نسل تارمينون، هذا يعني أنك خدعتني.”
“ليس خداعًا. قلت لك من قبل، لم أخدعك بل فقط لم أُخبرك. ولو سألتِ، لكنت أجبتك.”
“حقًا؟”
لكن إيسدانتي لم يُجب.
لم يكن ينوي أن يخبرني.
يبدو أنه لم يشعر يومًا بالحاجة لأن يقول لها أي شيء حتى وصلت الأمور إلى هذا الحد.
إذًا، ما هي تلك القوة التي يمتلكها نسل تارمينون؟
“عائلة مركيز تارمينون تملك القدرة على شفاء الآثار الجانبية التي تنتج عن استخدام قوى الآثار الإلهية.”
“… ماذا قلت؟”
“استخدام الآثار الإلهية يجلب ألمًا كبيرًا. لا بد أنك كنتِ تلاحظين ذلك، أليس كذلك؟”
“…”
“وتلك الآلام لا يمكن معالجتها سوى بالقوة التي تملكها عائلة تارمينون.
ولهذا السبب، تذرّع الإمبراطور بالخيانة وأمر بسجن عائلة المركيز في القصر الإمبراطوري.”
خلا وجه تياريس من أي لون.
لم تكن الصدمة من القوة التي تمتلكها العائلة، بل من حقيقة أنهم وُصِموا بالخيانة بسبب تلك القوة.
“لم يرتكبوا خيانة؟”
“صحيح.”
“ومع ذلك… قُتلوا جميعًا؟”
“ليس جميعهم بدقة.”
“ليس جميعهم؟”
لأول مرة، ظهرت علامات التردد على وجه إيسدانتي.وبما أن الرجل الذي طالما أجاب بثقة بدأ يتلكأ،
شعرت تياريس باختناق مفاجئ.
ما الذي ينوي أن يقوله؟
مجرد معرفة أن عائلة تارمينون تملك قوة خفية كانت صادمة بما يكفي،
فكيف وقد لُفّقت لهم تهمة الخيانة وتم القضاء عليهم جميعًا؟
“وحتى هذا ليس كل شيء؟!”
ما حدث كان كافيًا ليثير غضب طبقة النبلاء بأسرها.
ولو جرى طرح المسألة علنًا، لما سكت أحد منهم.
أطلقت تياريس زفيرًا طويلًا ببطء.
يبدو أن إيسدانتي لم يكن ينوي الحديث حتى تستعيد أنفاسها.
استغرقت بعض الوقت حتى عاد تنفسها لطبيعته،وحين هدأ ارتجاف كتفيها، اقترب إيسدانتي منها.
وهذه المرة، لم تتراجع.
“مركيز تارمينون أُسِر في القصر الإمبراطوري.
واستغلّه الإمبراطور كورقة للسيطرة على العائلتين الدوقيتين.
أما باقي أفراد نسل تارمينون… فقد انتحروا جميعًا.”
“هذا غير معقول…”
فمها الذي انفتح بتلقائية عبّر بوضوح عن صدمتها.
لقد عاشت وهي تؤدي واجبها بولاء للإمبراطورية،وها هي الآن تكتشف أن العائلة الإمبراطورية نفسها كانت المسؤولة عن قتل عائلتها.
قَبضت تياريس على يديها المرتجفتين بقوة، في محاولة لتهدئتهما، وابتلعت ريقها الجاف.
لكن وجه إيسدانتي الذي ما زال يحمل ملامح الجدية،
كان يشير إلى أن هناك ما هو أكثر.
“أظنك تعلمين أن الإمبراطور كلّفني بالبحث عن شخص ما.”
“نعم.”
“وتعلمين أنني نجحت في تلك المهمة.”
“هل… هل من الممكن أن…؟”
أغم
ض إيسدانتي عينيه بإحكام ثم فتحهما.
شفاهه التي كانت مغلقة كأنها ختمٌ أبدي، تفتحت أخيرًا لتخرج بكلماتٍ،
ربما كان من الأفضل لو دفنها معه إلى الأبد.
“مركيز تارمينون، الذي كان مسجونًا في القصر الإمبراطوري، هرب.والشخص الذي أمسك به وأعاده إلى جلالته… كان أنا.”
التعليقات