من الأفضل ألا تبتسم هكذا
“هل تملك الحق لتقول ذلك؟”
رنّ صوت إيسدانتي البارد المتهكم. وفي اللحظة التي ارتفعت فيها زاوية عين إنفرينتي،
دوّى صوت عالٍ يعلن دخول الإمبراطور.
“صاحب الجلالة، إمبراطور هيبيروس، سيبيرهان العظيم، يدخل الآن إلى القاعة!”
وعلى عكس دخول النبلاء إلى قاعة الحفل، تولّى كبير الخدم بنفسه إعلان دخول الإمبراطور.
كان ذلك قانوناً غيّره سيبيرهان بنفسه. تقليد جديد لإثبات أن الإمبراطور فوق جميع النبلاء.
كان تقليداً يثير الضحك بالنسبة لتآريس. فالهيبة لا تأتي من الشخص الذي يعلن الدخول،
ولكن من الشخص ذاته، لذا بدا سيبيرهان مثيرًا للشفقة لأنه يعطي أهمية لمثل هذه التفاصيل التافهة.
تحرّكت عينا سيبيرهان، الذي لاحظ الأجواء المتوترة في قاعة الحفل. عندها، قبضت تآريس يد إيسدانتي بإحكام.
“ما الأمر؟”
“لا شيء، لا شيء على الإطلاق.”
لم يكن سيبيرهان قد هددها بشيء، ومع ذلك كانت تآريس تشعر بعدم الارتياح تجاهه. لم تكن تريد أن تقترب منه.
لولا أنها كانت مجبرة في صغرها على قضاء وقت معه، لما خطت قدمها القصر الإمبراطوري.
لقد كان شخصًا يسبب لها الضيق.
“نحن نحيّي جلالتكم.”
تقدّم دوق باين وانحنى احترامًا للعائلة الإمبراطورية، فتبعته جميع النبلاء في القاعة بانحناءة. لم تكن تآريس ولا إيسدانتي استثناءً.
راح سيبيرهان يراقب النبلاء الحاضرين واحدًا تلو الآخر. وعندما لم تتحرك عيناه عن إيسدانتي،
اقترب كبير الخدم منه وهمس:
“يا صاحب الجلالة…”
“آه، صحيح. يمكنكم الجلوس الآن براحة.”
(كان يقصد ذلك عمداً.)
كان هذا تصرفًا معتادًا من سيبيرهان في كل مرة يُقام فيها حفل في القصر الإمبراطوري. كان يؤخّر إعطاء الإذن للنبلاء للنهوض من انحنائهم أمامه،
وكأنه يختبر صبرهم.
كانت حيلة سخيفة. كل من تآريس ودوق باين كانا يعلمان أنها غير مبررة، لكن لم يذكرا ذلك. فمهما قالا، لن يتغير شيء.
لم تكن لدى تآريس القوة لإزالة الشك العميق الذي تكنّه العائلة الإمبراطورية تجاه العائلات المالكة للأدوات الإلهية.
كيف لها أن تمحو شكًّا متجذرًا منذ مئات السنين؟
(وكأن العائلات المالكة للأدوات الإلهية ستقوم بتمرد…)
الأداة الإلهية التي تملكها العائلة الإمبراطورية تسمح لهم بتحديد موقع الأشخاص.
وعلى عكس عائلة دوق نابارانتي التي تطهر الأمور الشريرة، كانت هيبيروس تراقب وتبحث.
وبما أنها كانت تعلم أن العائلة الإمبراطورية لا تزال تراقب عائلتي دوق باين ودوق نابارانتي باستخدام تلك الأداة،
فقد كانت تياريس حذرة دائمًا.
(آه؟ الآن بعد أن أفكر في الأمر… هناك أمر غريب.)
إذا كان سيبيرهان، والعائلة الإمبراطورية التي تراقب دائمًا عائلة نابارانتي، فإنهم بالتأكيد يجب أن يكونوا على علم بتبدّل الأدوار بينها وبين إيسدانتي.
ليس ذلك فحسب، بل لا بد أنهم سمعوا محادثاتها مع إيسدانتي، واعتبروها نقطة ضعف.
لذا، لو كان سيبيرهان كما تعرفه، لكان قد استدعاها منذ زمن. لا بد أنه علم أنها لا تحمل دماء نابارانتي الحقيقية.
(ليس من نوعه أن يتحلى بالصبر…)
حتى الآن، وبينما كان ينظر إليها بنظرة حادة، كان يبدو أنه يحمل الكثير من الضغينة تجاه عائلة نابارانتي.
من غير المعقول أن يكون قد علم بنقطة ضعفها وسكت عنها.
(ما الذي يحدث؟)
“فيما تفكرين هكذا؟”
“آه، إيسدانتي…”
ترددت قليلًا في إن كانت ستخبره بما يدور في رأسها.
(سأخبره عند عودتنا.)
يجب أن يعرف إيسدانتي بشأن الأداة الإلهية الخاصة بالعائلة الإمبراطورية.
فقط بذلك يمكنهم الاستعداد ضد نواياهم العدائية تجاه عائلة نابارانتي.
“متى عدت؟”
كانت قد سمعت أنه خرج، ومع ذلك ها هو هنا. كانت سعيدة بوجوده في الحفل الإمبراطوري،
لكنها كانت قلقة من أنه قد ترك عملاً مهماً خلفه.
“عدت بعد الظهر.”
قال إيسدانتي إنه ذهب إلى إقطاعيته بسبب طارئ. شعرت تياريس بالدهشة.
“لكن ذلك المكان يبعد يومين عن العاصمة!”
“تلقيت بعض المساعدة.”
عندما تمتم بكلمات عن الدوار، أدركت أن الأمر له علاقة بساحر. فالسفر لمسافات طويلة بالسحر يسبب الدوار دائمًا.
تذكّرت ما قرأته في الكتب، وأومأت برأسها. كان إيسدانتي لا يستطيع أن يُبعد ناظريه عنها وهي تحرك رأسها للأعلى والأسفل.
يبدو أنه نسي تمامًا مواجهته مع إنفرينتي قبل قليل. وبينما كان صوت سيبيرهان يدوّي في القاعة معلنًا بدء الحفل،
لم يكن لدى تياريس الوقت لتولي الأمر.
(لماذا ينظر إليّ هكذا…؟)
كانت تظن أنه يكرهها، لكنه الآن استدار بجسده بالكامل لينظر إلى جانب وجهها.
شعرت بتوتر حاد ووخز في أطراف أصابعها. لم تستطع أن تتحرك من شدّة التوتر. حاولت جاهدة أن تصرف نظرها عن نظراته التي لامست خدها.
“…فلنستمتع بالحفل جميعًا.”
رفع سيبيرهان الكأس التي كان يحملها عالياً، فرفع النبلاء أيضًا كؤوسهم المصفوفة بجانبهم وهتفوا.
“ليكن المجد للإمبراطورية هيبيروس!”
بدأ النبلاء يتحركون بنشاط، كلٌّ يتوجه لمن يعرفه ليتبادل الحديث معه.
وكانت تياريس تراقبهم من مكانها المرتفع بنظرة ملؤها الملل.
“إذاً…”
“آه، نعم.”
حين نهض دوق باين من مقعده، تحوّلت أنظار النبلاء نحوه. وما إن خطا نحو وسط القاعة، حتى تقاطر عليه النبلاء كأنهم يتزلفون له.
حتى إن إنفرينتي تبع دوق باين، لكنه كان يلتفت باستمرار نحو الخلف. وتياريس تعمدت ألا تلتقي نظراتها بنظراته.
“يبدو أنه لم يتخلّ عن أمله بعد.”
“إنفرينتي ليس سوى صديق من أيام الطفولة.”.
“كما قلت مرارًا، لا وجود للصداقة بين الرجل والمرأة.”
أمام كلام إيسدانتي الحازم، لزمت تياريس الصمت. كانت تنوي أن تقول شيئًا،
لكن كثرة الحاضرين حولهم منعتها من الحديث.
فالنبلاء كانوا يراقبون كل حركة تقوم بها دوقة نابارانت.
“ألستِ تنوين النزول؟”
“لا أريد.”
“لماذا؟”
“لأن كثيرين يتساءلون عن زواجنا.”
لو نزلت، فإن إيسدانتي سيكون هو الضحية التي تنهشها ألسنة النبلاء المتربصة كالذئاب. أرادت تياريس أن تحميه.
“لقد شاركت في حفلات سابقة حتى قبل أن أتزوج بكِ.”
صوته الهادئ أدهش تياريس وجعل عينيها تتسعان. لم تلتقِ به شخصيًا في أي من تلك الحفلات.
“في الحفلات؟”
“نعم، كثيرًا منها.”
رغم أن ملامحه لم تتغير، فإن تياريس أدركت أنه مرَّ بتجارب كثيرة داخل تلك القاعات.
“لذا، لا داعي لأن تتجنبي النزول بسببي.”
“ليس بسببك.”
نفت بسرعة، وكأن قلبها قد كُشف، فارتسمت على شفتي إيسدانتي ابتسامة خفيفة بدّلت ملامحه.
حين ارتسمت تلك الابتسامة على وجهه البارد الذي لا يعبّر، بدا كلوحة فنية في غاية الجمال، تحت أضواء القاعة اللامعة.
تحدّق فيه تياريس بذهول، وكذلك فعل النبلاء من حولها.
كانت تلك لحظة تغيّر فيها تقييم إيستانتي، الذي لطالما التصق به لقب “النّبيل القادم من أصل وضيع”.
أصبح فجأة شخصًا يفتخر النبلاء بمرافقته كدمية رائعة.
(من الأفضل ألّا تبتسم بهذه الطريقة.)
كلمات لم تستطع أن تنطق بها، فبلعتها في داخلها. كانت تحب ابتسامته، لكنّها كانت تقلق منها.
(ألن يقع أحدهم في حب ابتسامته؟ كما حدث لي؟)
“ومع ذلك… أشعر بشيء جميل.”
“ماذا؟”
وصلها صوته الناعم قريبًا من أذنها.
“أليست تلك مشاعر نابعة من قلقك عليّ؟”
“آه، أ-أجل…”
احمرّ وجهها، وتسارع أنفاسها. حين همّت بالكلام وهي تمسح على أطراف أذنيها المحمرّتين، قاطعها صوت آخر:
“تبدوان على وفاقٍ جيّد.”
“أرفع قبعتي لقمّة إمبراطورية هيبيروس.”
ما إن سمعت صوت سيفيرهان حتى نهضت تياريس إيسدانتي فورًا وأدّيا التحية،
وتحدثت تياريس بدلًا عن إيسدانتي الذي التزم الصمت.
“نشكر جلالتكم.”
فلو لم يكن سيفيرهان، لما كانت تياريس لتتزوج من إيسدانتي.
ولو لم يحصل ذلك، لربما كانت قد أنجبت طفلًا من رجل لا تريده، تمامًا كما أراد جيريمان.
(صحيح، حتى بدايتي مع إيسدانتي كانت كذلك…)
لكنّها الآن تغيّرت. بعد أن تعرفت عليه عن قرب، لم يكن بوسع قلبها إلّا أن ينجذب إليه. لم تكن هذه المرة من أجل عائلة نابارانت،
بل من أجلها هي. إذ إنها للمرة الأولى تلتقي بمن يتحرّك من أجلها.
“هذا مطمئن إذًا. كنت أظن أن الدوق تمرّد عليّ لأنه أُجبر على الزواج.”
تجمّد الجو اللطيف فجأة. وحتى النبلاء الذين كانوا ينصتون بصمت، حبسوا أنفاسهم.
فقد كان من هوايات سيفيرهان أن ينتقي ضحية من النبلاء في كل حفلة ليضغط على عائلته.
وكان من الواضح أن هدفه هذه المرة هو عائلة نابارانت.
“هل يمكن أن يحدث ذلك؟”
أجابت تياريس بهدوء، فلا فائدة من الغضب في مثل هذا الموقف.
“لكنّك أتيت إليّ قبل الزواج وبدأت تسألين عن تفاصيله، أليس هذا دليلاً؟”
“كان ذلك قبل الزواج، يا جلالة الإمبراطور. فهل لا ندع الماضي في مكانه؟”
فور أن قالت ذلك بنبرة تحذيرية، انتفض سيفيرهان غاضبًا.
“أتجرئين على الحديث بهذه الطريقة مع إمبراطور إمبراطورية هيبيروس؟”
“لا أفهم ما تقصده، جلالتكم.”
اتخذت تياريس موقف الجاهل المتعجب، وهي تميل برأسها وكأنها لا تفهم، ما زاد من حنق سيفيرهان.
“سمعت أن دوقة نابارانت لا تستطيع حتى استخدام قوة الإرث كما يجب. على ماذا تعتمدين لتتحدثي إليّ بهذه الطريقة؟”
كان حديثًا يليق بشخص يستخفّ بالنبلا
ء. ومع أن النبلاء شهقوا دهشة، فإنه واصل كلامه دون تردد.
“وجودك في أعلى مراتب عائلة نابارانت رغم عدم نفعك للإمبراطورية، يبدو أمرًا غير منطقي. لماذا لا تتنازلين عن منصبك لأختك غير الشقيقة، تريزيمون؟”
وفي تلك اللحظة، اختفت أيّ تعابير عن وجه تياريس.
التعليقات لهذا الفصل " 45"