الأثــــر
ظلت تياريس، التي تُركت وحدها، تحدّق لفترة في الباب الذي خرج منه إيسدانتي بذهول.
ولكن الباب لم يُفتح مجددًا.
سحبت ركبتيها واحتضنت جسدها، وهمست بشفتيها محاولة تهدئة ارتجاف جسدها المتواصل.
“أنا بــــخير.”
كانت هذه الجملة التي ترددها دائمًا كلما حدث شيء سيئ. كانت ترددها قرابة العشر مرات، وحينها كانت تشعر فعلًا بأنها بخير. لذا
همست بها مرة أخرى الآن.
“سيكون كل شيء على ما يرام.”
لكن شعورها لم يتحسن على الإطلاق. رغم ذلك، واصلت تياريس التحدث، وكأنها لا تملك شيئًا آخر لتفعله.
انحدرت دموعها على خديها. كانت ليلة طويلة جدًا. وبينما كانت تحدّق بشرود في النافذة السوداء،
بدأت تياريس تتذكّر ما حدث اليوم.
(لابد أنه والدي.)
الشخص الذي أرسل الخادم لاستدعائها، وجعل ابن عائلة ماركيز سفينا يأتي إلى قصر الدوق.
لو لم يكن يعرف أنها لا تحمل دم عائلة نابارانت، لكان ما حدث سببًا لجراح جديدة.
(لكن ليس بعد الآن.)
لقد تخلت عن آمالها تجاه جيريمان.
(لا بد أنه كان يعرف. أنني لست ابنته الحقيقية. وإلا فكيف كان سيتصرف بهذه الطريقة؟)
أمسكت تياريس ذراعها بقوة، وشعرت بأظافرها تغرز في جلدها، لكنها لم تخفف قبضتها.
(إذًا لماذا ربّاني هنا؟ بل ومنحني منصب الدوق؟)
بدأت تشك في تصرفات جيريمان الذي سلّم لها منصب الدوق. لو كان يعرف أنها ليست ابنته،
لكان قد طردها من القصر منذ زمن بعيد.
(… أم أنه لا يعلم؟)
من خلال معرفتها بطبعه، كانت تعلم أنه لا يمكن أن يغض الطرف عن شيء كهذا. لذا لم تستطع أن تتخذ قرارًا سليمًا.
رغم أن جسدها كان مرهقًا من كل ما مرت به، إلا أن عقلها كان يقظًا. ولم تستطع النوم.
“هل إيسدانتي… أصبح يكرهني؟”
هل لأن أحدهم كاد يؤذيني؟
خرجت الفكرة التي كانت تدور في رأسها على لسانها، فعضّت تياريس شفتيها.
رغم أنه تجول في ساحات المعارك وترعرع في الأزقة الخلفية، إلا أن إيسدانتي، الذي كان يتحلى بتصرفات نبيلة،
ربما يمكنه أن يفكر بهذه الطريقة.لأنه يملك الدماء النبيلة لعائلة نابارانت.
(هل لهذا رفضني؟ لأنه يظن أنني أصبحت ملوّثة؟)
كانت يدًا ممدودة بشجاعة. أن تعانق عنقه كانت خطوة جريئة من جانبها. لكن ذلك القرار،
بأن تسلّمه كل شيء، تحطم عبثًا برفضه.
لم تفكر تياريس حتى في مسح دموعها التي سالت، واكتفت برمش عينيها.
في مثل هذه الحالات، كان النوم هو الحل الأفضل، لكنها لم تستطع النوم. وهكذا ظلت تياريس مستيقظة تراقب شروق الشمس بعينين مفتوحتين.
حين فتحت عينيها من جديد، كانت الشمس قد مالت نحو الغروب. فركت تياريس عينيها وهي تحدّق في السماء التي غمرها الشفق الأحمر.
(كم الساعة الآن؟)
رفض عقلها الضبابي التفكير. أرادت فقط أن تغفو مجددًا.
(ألن يكون من المقبول أن أرتاح ليومٍ واحد؟)
تياريس، التي كانت تقود بيت دوق نابارانت بحيوية وانشغال دائم،
غاصت مرة أخرى في النوم وهي تشعر بوسادة ناعمة تلامس خدها.
في غفوتها، شعرت كما لو أن أحدهم يربّت على خدها، لكنه كان حلمًا أو شيئًا بين الحلم والواقع.
وفي منتصف الليل، فتحت تياريس عينيها فجأة ونهضت من السرير.
(لقد نمت طوال اليوم…)
نظرت حولها، لكنها لم تجد إيسدانتي. شعرت بخيبة أمل بسيطة، فأخذت قطعة من ملابسه. كانت معطفًا معلقًا على الكرسي.
وضعت تياريس المعطف على كتفيها وفتحت الباب. لم يمنعها الباب، الذي فُتح بسلاسة، من الخروج.
في الخارج، كان هالبرت ينتظرها، وانحنى لها بتحية الفرسان.
“هل استيقظتي؟”
“نعم.”
أجابت تياريس بخفة، ثم مشت باتجاه غرفة نومها المجاورة. أضاءت الغرفة المظلمة بنفسها،
وسألت هالبرت الذي تبعها إلى الداخل:
“أين إيسدانتي؟”
“إنه في ساحة التدريب.”
“حقًا؟”
استغربت أنه لا يزال هناك رغم تأخر الوقت، لكنها كتمت فضولها.
(هل هذا بسببي؟)
بما أنها كانت تحتل الغرفة، فربما لم يكن لديه مكان يذهب إليه.
“بلّغه أنني عدت.”
“سأرسل من يخبره.”
في تلك اللحظة فقط لاحظت ملامح وجه هالبرت عن قرب، ورأت كدمة زرقاء داكنة على إحدى وجنتيه.
“وجهك هذا…”
“أنا بخير.”
قالها دون إضافة كلمة، وانحنى مغادرًا.
“أنا أتعب الكثير من الناس…”
لطالما كانت تعتقد أن من الطبيعي أن يخدمها الآخرون، لأنها دوقة نابارانت.
لكن ماذا عن الآن، بعد أن باتت لا تحمل دم نابارانت؟
(أنا أخدع الجميع.)
بعدم قول الحقيقة، خدعت الآخرين. خيّم الحزن على عيني تياريس.
لم تخبر أولئك الذين يثقون بأنها دوقة نابارانت بالحقيقة. كان ذلك قرار إيسدانتي، لكنه كان أيضًا قرارها.
رغبتها الجبانة في ألا يُكشف أمرها للآخرين. وخوفها من أن تتغير نظراتهم إليها، جعلها تصمت.
“ليس إيسدانتي.”
كان كل ذلك اختيارها.
تنهدت تياريس وهي تنظر إلى السقف. كان محفورًا عليه رمز عائلة دوق نابارانت بأناقة.
عائلة نابارانت التي تحمي العدالة.
رمز العائلة المقدسة يمتلك قوة “نار التطهير” التي تحرق كل ما هو دنس.
نظرت تياريس إلى الرسوم التي تمثل تلك القوة، واحدة تلو الأخرى، وفكرت:
(لو ظهرت تلك النار أمامي، ماذا سيحدث؟)
(هل ستحرقني؟)
بينما كانت تواصل أفكارها التافهة، جلست على طرف السرير.
كانت تنزعج من قميص النوم الكحلي الذي ظلت ترتديه منذ البارحة.
شدّت شريط الكتف. فهي لم تعرف يومًا كيف تبدّل ملابسها بمفردها.
وأثناء انتظارها للخدم، واصلت تياريس التفكير.
“هل كنتُ بهذه الدرجة من السوء؟”
فالقائد الأعلى لإمبراطورية هيبيروس وبطل الحرب، إيسدانتي، لا بد أنه تعرض للعديد من الإغراءات.
ربما كانت هناك من هي أجمل منها، أو أطيب قلبًا منها.
“تفكير سخيف.”
هزّت رأسها بقوة لتطرد تلك الأفكار. لقد اختارها لتكون زوجته، مهما كان اختياره ذاك نابعًا من رغبته في استعادة تاجه المفقود.
“الشخص الجالس بجانبه… هو أنا.”
وحين لفظت تلك الكلمات، شعرت أن إيسدانتي أصبح أقرب. رغم أنه رفضها ليلة البارحة.
وقبل أن تتابع تياريس أفكارها وقد عاد لها الاكتئاب، دخل خدم قصر الدوقية. تحدثوا إليها بحماسة وفوضى.
“مبروك، سيدتي الدوقة. لقد أمضيتِ الليلة مع زوجك، أليس كذلك؟”
“لم تكوني في غرفتك.”
“أوه، في عنقك….”
وبينما كانت كلمات الخدم تتهامس من خلف الأيدي، اختفت ملامح وجه تياريس. رفعت يدها ولمست عنقها.
كانت الآثار من ابن ماركيز سفينا، لا من إيسدانتي. لكن الخدم، غير المدركين لتلك الحقيقة، بدؤوا يثرثرون عن تحضير ماء الاستحمام.
لم تتذكر كيف غُسلت على يد الخدم الذين قادوها، وكأنها بلا إرادة. كان هناك فكر واحد يدور في ذهنها الغائم.
“لهذا السبب رفضني إذًا.”
“لأنه رأى هذه الآثار… وظن أن ذلك الشاب أقام علاقة معي. ظن أنني دخلت تلك الغرفة بإرادتي.”
جلست تياريس أمام المرآة، وقد ارتدت قميص نوم أبيض ناصع. لون مختلف تمامًا عن قميص الليلة الماضية الذي يشبه ستار الليل.
لكن الأبيض لم يبدُ مناسبًا لها. لا، بل كرهت الأبيض.
“أحضري قميص نوم بلون آخر.”
“… حاضر.”
وبعد أن لاحظن تعبير وجه تياريس الجاد، أحضر الخدم قميص نوم بلون آخر دون طرح أي سؤال.
وللمصادفة، كان بنفس لون قميص النوم الذي ارتدته البارحة. ضحكت بسخرية، لكنها لم تطلب تغييره مرة أخرى.
وبعد أن ساعدنها في ارتداء ثوبها، انحنين وغادرن الغرفة. تياريس لم تلتفت إليهن. فقط كانت تحدق في انعكاس صورتها في المرآة.
كان عليها أن تشرح سوء الفهم لإيسدانتي، وأن تمنع جيريمان من تدبير خطط مماثلة مرة أخرى.
كانت هناك الكثير من الأمور التي ينبغي فعلها، لكن جسدها لم يتحرك. كانت لا تزال متعبة.
نظرت تياريس إلى انعكاسها في المرآة وسخرت من نفسها.
“أن يكون هذا حال دوقة تقود بيت نبالة مثل نابارانت…”
امرأة لا تجرؤ حتى على المطالبة بحقها من زوجها، وتكتفي بمراقبة حاله، لا أكثر.
يا للسخرية.
لم تكن تنحدر من دماء نابارانت، لكنها جلست على عرش الدوقية. كم كان ذلك مضحكًا.
كما أنها لم تتمكن من توقع حتى خطة واحدة من جيريمان، وانتهى بها الأمر بيدين ملطختين بالدماء.
“دوقة نابارانت التي تحمي العدالة؟”
أي نكتة هذه؟
لا الدوق الراحل جيريمان كان عادلاً، ولا تياريس نفسها كانت كذلك.
إن شخصًا كهذا يجلس على مقعد دوق نابارانت هو السبب في غياب التقدم. بعد أن سخرت من نفسها، أدارت المرآة.
ولأن المرآة استدارت، لم تعد تعكس وجهها الباكي. وكان ذلك نعمة، لأنها لم تكن تريد أن يرى أحد هذا المشهد.
“إيسدانتي.”
لفظت اسمه على طرف لسانها. لم تتلقَ ردًا، لكنها أرادت أن تناديه مرارًا.
كانت تتذكر كيف كان يظهر دومًا عندما تكون في أصعب أوقاتها. تياريس تذكرت اللحظة التي مدّ فيها يده نحوها.
لم تعد تلك التي كانت تتردد إن كان يجب عليها أن تمسك بتلك اليد أم لا. لم يتبقَ سوى تياريس، التي تنتظر إيسدانتي الآن.
“الطفل.”
وبينما تذكرت وريث دوقية نابارانت، الذي كان السبب والنتيجة لكل ما حدث، أسندت تياريس وجهها إلى طاولة الزينة.
حين لامس برد الطاولة خدها، استعادت جزءًا من وعيها. لكن لم يتغير شيء. إيسدانتي
لم يكن إلى جانبها، وكانت وحدها.
“طفل… إيسدانتي.”
هل سيتغير كل شيء إن أنجبت طفلًا منه، الوريث الشرعي لدماء نابارانت، والذي سيكون قائد هذه الدوقية يومًا ما؟
سألت نفسها هذا السؤال مرارًا، ولم تحصل على إجابة.
وهكذا، قضت تياريس ليلة أخرى دون نوم.
التعليقات لهذا الفصل " 41"