لِــــمَ لم تطلب مني ذلك؟
كان إيسدانتي، الذي وصل للتو، يجهل تمامًا ما كان يحدث في إحدى غرف النوم بقصر الدوقية.
“هل وصلتَ؟”
“أين تياريس؟
“دخلت غرفتها لتنام، لكن لم يمضِ وقت طويل بعد.”
وبحسب قول هالبرت، كان من الممكن الذهاب إليها الآن، فانطلق إيسدانتي نحو الجناح الذي تقع فيه غرفة تياريس.
لكن حين رأى الممر خاليًا لدرجة لا تمر فيه حتى نملة، انتابه شعور بالريبة وسارع في خطواته.
عندها، سمع صوت تحطم عنيف قادم من بعيد. كان الصوت يصدر من الغرفة الواقعة في نهاية الممر، في الجهة المعاكسة لغرفة تياريس.
في العادة، ما كان ليكترث، لكنه شعر بشيء غريب يدفعه نحو تلك الغرفة.
أدار مقبض الباب، لكنه لم يُفتح. وهذا ما بدا غريبًا، إذ لم يكن من عادة قصر الدوقية أن تُغلق أبوابه بإحكام دون سبب.
ممر خالٍ من الناس، غرفة في نهايته لا يلتفت إليها أحد، وصوت تحطم صادر من الداخل كل ذلك بدا وكأنه مخطط.
بحدسٍ حاد، شعر إيسدانتي بالخطر، فطرق الباب.
“هل هناك أحد بالداخل؟”
صدى صوته ارتدّ فارغًا في الممر، لكن لم يأتِ أي رد من الداخل. ركّز حواسه ليستمع لما يجري في الغرفة.
“هُهك، هااه!”
أنين خافت، يشبه أنين من يعاني من صعوبة في التنفس. صوت مألوف سبق أن سمعه من قبل.
ضرب المقبض بقراب سيفه. ولما لم ينفتح الباب، استخدم طاقة السيف لشقه تمامًا. من بعيد،
شعر بحركة الخدم وكبير الخدم يهرعون نحوه إثر الضوضاء، لكنه لم يلتفت، فقد ثبت بصره على المشهد أمامه داخل الغرفة.
تياريس كانت مستلقية على السرير تلهث، ورجل فوقها، ودم ينزف من رأسه. بدا وكأن شجارًا وقع،
وثوب نومها كان قد ارتفع حتى فخذيها.
صرخ إيسدانتي بصوت غاضب:
“إن اقتربتَ أكثر، سأقطعك!”
عينيه لم تغفلا عن أي تفصيل في الغرفة. شعر باقتراب الخدم، فأرسل موجة من طاقة السيف نحو الممر.
ارتعب الواقفون، وحدّقوا بدهشة في الأثر الطويل الذي خلفته الضربة في الأرض.
“من يتخطى هذا الخط، سأقتله.”
ركض هالبرت، الذي شعر بطاقته، وأوقف الناس في الممر. وكذلك فعل فرسان إيسدانتي الذين لحقوا بالمكان.
قبضته كانت مشدودة حتى غرست أظافره في راحة يده. كان الغضب يغلي في صدره.
غضب لأنه تركها وحدها، غضب لأنه عرف ما ينوي جيريمان فعله ولم يمنعه، وغضب من نفسه لأنه حتى في هذه اللحظة كان يشعر بأنه يجب أن يكون أولويتها.
بكل هذا الغضب، نادى باسمها:
“تياريس.”
نطق اسمها كمن يعضّه بأسنانه، فارتجف جفنها. راقبها وهي تتلوى من الألم، وملامحه متجمدة.
“هُهك! كاه، ههك!”
ولما رأى أنها لا تستطيع التنفس، خلع سترته وغطى بها وجهها، كما فعل في السابق.
ثم ركل الرجل الملقى فوقها ليسقط من السرير، كان فاقدًا للوعي والدم ينزف من رأسه.
وامتلأت نظرات إيسدانتي بالاحتقار.
“ببطء، تنفّسي ببطء.”
رفع جسدها ليجلسها، وحين لمسها، خفّت رعشتها قليلًا. لكن لا تزال يده تشعر بارتعاشات خفيفة من جسدها.
انتظر حتى هدأت أنفاسها. كانت هناك همسات خارج الغرفة، لكن لم يجرؤ أحد على الاقتراب بسبب تحذيره.
ولما تأكد من استقرار تنفسها، لف جسدها بغطاء. وأعاد سترته لتغطي وجهها بالكامل، حتى لا يظهر شيء من بشرتها.
ثم حملها بين ذراعيه ونادى:
“هالبرت!” “نعم، سيدي القائد!”
أجاب هالبرت فورًا واقترب من الباب. وعندما رأى ما في الداخل، اتسعت عيناه. سمع صوت إيسدانتي الغاضب:
“سأحاسبك لاحقًا.”
“أعتذر.”
“نظّف الداخل وفرق جميع من في الخارج.”
“أمرُك.”
“أما هذا الحقير، فسأتولى استجوابه بنفسي.”
“مفهوم.”
تحرك هالبرت ونادى بعض الفرسان، وكانوا من أكثر العناصر انضباطًا في الوحدة.
أما إيسدانتي، فقد غادر في الاتجاه المعاكس لمكان تجمع الناس. وبما أن الفرسان شكّلوا حاجزًا بأجسادهم،
لم يعرف أحد أن شيئًا كان في حضنه.
وحده كبير الخدم، الذي راقب كل شيء، ركض نحو وجهة ما بسرعة.
احتضن إيسدانتي تياريس، التي كانت تلهث بشدة، بقوة.
(لا، لا يمكن أن يكون…)
لا بد أنها لم تكن بإرادتها.
ألم يرَ الدم يسيل من رأس ذلك الرجل؟ كان هناك أثر واضح لمقاومة يائسة. وحتى المزهرية،
لم يتبقَّ منها سوى شظايا. ومع ذلك، لم يهدأ وجه إيسدانتي الغاضب.
دخل إلى غرفته الخاصة، والتي تقع بجوار غرفة نوم تياريس مباشرة، ووضعها على السرير.
وعندما أزاح السترة والغطاء، ظهرت حالتها المزرية بوضوح.
شعرها مبعثر تمامًا، أنفاسها ما زالت غير مستقرة، ملابسها في فوضى، وعلامة حمراء واضحة على عنقها.
ما إن رأى تلك العلامة الحمراء، حتى انفجر غضب إيسدانتي.
“أن تجلبي رجلًا إلى الداخل… هل فقدتِ صوابكِ؟”
“إيسدانتي! كيف يمكنك قول شيء كهذا؟”
“ألستِ كذلك؟”
“أنا… لم أرده!”
“ومع ذلك، كنتِ في هذا الشكل مع رجل؟”
لمس إيسدانتي بخفة شريط ثوب النوم. وبرغم لمسته الطفيفة،
انزلق الشريط بسهولة.
وحين رأى أنها ترتدي ثوب نوم خفيف يسهل نزعه، اشتعلت عيناه بنار الغضب. لكن زاوية فمه ارتفعت بسخرية.
“لا… أنا…”
“هل كنتِ ترغبين بشدة في إنجاب طفل؟”
“ليس الأمر كما تظن…”
“إذن، لِمَ لم تطلبي مني ذلك؟”
خرج صوته منخفضًا وباردًا كالصقيع. وحين شعرت تياريس بذلك البرود، تحركت عيناها ببطء.
نظرات تياريس الضبابية التقت بعينيه. قرأ فيها الخوف، لكنه لم يستطع أن يبادلها بلطف. كان الغضب الذي يغلي داخله يمنعه من ذلك.
كانت العلامة الحمراء على عنقها تُزعجه بشدة. حاول تجاهلها، لكن عبثًا.
لاحظت تياريس أين يحدق، فرفعت يدها لتغطي عنقها. غير أن تلك الحركة استفزت إيسدانتي أكثر.
“لمَ تُخفينها؟”
“أنا فقط…”
تعثرت كلماتها، فابتسم إيسدانتي بسخرية.
“إذًا، تشعرين بالخزي؟”
“إيسدانتي، الأمر ليس كما تعتقد…”
لم يرد أن يسمع أعذارها أكثر، فانقضّ على شفتيها فجأة. فزعت تياريس من تصرفه المباغت وحاولت أن تبتعد عنه.
لكنه ضغط على كتفيها ليمنعها من التملص، واستمر في تقبيلها بعنف. حينها، عضّت تياريس لسانه.
رفع إيسدانتي جسده فورًا من الألم الحاد. ولما رأى تياريس مستلقية بفوضى على السرير تنظر إليه، هدأ غضبه قليلًا.
(هذا جنون.)
لم يفقد السيطرة على مشاعره بهذا الشكل من قبل. مسح وجهه بيده، وسال الدم من فمه دون أن ينتبه.
وعندما رأت تياريس الدم، انتفضت.
“أنا آسفة… لم أقصد أن…”
“لماذا لم تفعلي هذا معه منذ البداية إذًا؟”
توقفت يدها، التي كانت تهمّ بلمس شفتيه. لكنه أبعد يدها، ومسح فمه بإبهامه. ثم لعق الدم العالق على إصبعه وهمس:
“لو فعلتِ، لكان الأمر انتهى دون الحاجة لهذا كله.”
“إيسدانتي…”
“لم يُجبرك أحد على الذهاب لذلك المكان، أليس كذلك؟”
“…”
سكتت تياريس. وكان ذلك الصمت كافيًا ليقول الكثير.
“ها!”
ضحك بسخرية. كان يظن غير ذلك. ظن أنها لم تذهب إلى تلك الغرفة بإرادتها.
(هل كانت بهذه الحماقة؟)
اختفت كل التعابير من وجهه، كأنه صار قناعًا شمعيًا. فابتلعت تياريس ريقها بصعوبة.
“لن تخرجي من غرفتي هذه الليلة.”
“إيسدانتي، أنا…”
لكنها لم تكمل، ولم يكن هو ينتظر ردّها أساسًا. عضّت شفتيها وأغمضت عينيها بإحكام ثم فتحتهما.
اختفى التردد من عينيها، وبقي فيهما فقط هو. وحده.
كانت نظراته قاسية، فارتجفت تياريس. لم يستطع التحدث بسهولة بسبب موجة المشاعر التي كانت تخنقه.
كان يريد أن يحتضنها ويواسيها، وفي الوقت نفسه أن يطردها من أمامه. ما العمل مع هذا التناقض؟
(كان عليّ أن أجعلها لي بالكامل من البداية.)
ندمٌ متأخر. لو علم أن رجلاً كهذا سيتدخل، لكان سبق وفعل شيئًا.
لامست أصابعها المرتجفة عنقه، وسرعان ما سحبته إليها. وارتجف جسدها بين ذراعيه.
اقتربت بشفتيها نحو شفتيه، لكن إيسدانتي همس:
“لقد فات الأوان.”
“ماذا؟”
“لم أعد أشعر بشيء تجاهكِ، سيدتي الدوقة.”
أبعد ذراعيها الملتفّتين حول عنقه ونهض من السرير. لحقت به نظراتها المذعورة، لكنه استدار دون أن ينظر إليها.
“ابقي هنا. سأتولى ترتيب الأمور.”
“إيسدانتي، كيف يمكنك..
.”
“سأنسحب الآن.”
انحنى انحناءة عميقة كتلك التي تُؤدى أمام النبلاء، ثم غادر الغرفة. وما إن أغلق الباب واستدار،
حتى ظهرت في عينيه شهوة خفية كان يُخفيها.
كان إيسدانتي ينوي الانتظار.
اللحظة التي تأتي فيها تياريس إليه بإرادتها.
التعليقات لهذا الفصل " 40"