مــــاذا قدمت لي؟!
في اليوم الثالث من مغادرة إيسدانتي، التقت تياريس بكارلوس. كان وجهه أول ما تراه بعد مرور أسبوعين تمامًا من إصدارها للأمر.
“لقد تأخرت.”
“تأخرتُ لأن هناك أمورًا إضافية تطلبت التحقق.”
“وما هي تلك الأمور؟”
بدلًا من الإجابة، مدّ كارلوس إليها ملفًا. وبينما كانت تياريس منشغلة بتصفح الأوراق،
لم تلحظ النبرة الخطرة التي خيمت على عينيه.
كان هالبارت، الذي عادة ما يحرسها، قد غادر مؤقتًا بسبب أمر طارئ في الفيلق. وكارلوس، الذي علم بغيابه، انتهز الفرصة للقدوم.
ارتعشت يد تياريس وهي تقرأ الملف.
“خيانة؟”
“هكذا يبدو في الظاهر، ولكن…”
“تمت إبادتهم جميعًا من دون أدلة؟”
“نعم، هذا صحيح.”
في مواجهة إجابة كارلوس، لم تفعل تياريس سوى أن رمشت بعينيها، مذهولة.
(قُتلوا جميعًا؟)
جعلها خبر مقتل كل أقاربها تفقد توازنها.
كانت تأمل حين تعثر على عائلتها أن تبني معهم علاقة تساعدها على تجاوز ما تمر به الآن…
لكن لم يعد هناك مكان تعود إليه.
لاحظ كارلوس اهتزاز نظرات تياريس، فطأطأ رأسه قليلًا.
كان عليه، بصفته تابعًا مخلصًا لدوقية نابرَنت، أن يبقى ولاؤه للدوقية. ومع ذلك، نشأ داخله شعور بالشفقة تجاه تياريس.
لقد رأى الفتاة الصغيرة تكبر أمامه، تبذل كل جهدها من أجل نابرَنت، ولم يستطع منع نفسه من الشعور بالحزن.
لكنه رغم ذلك أخفى كل الحقائق بصمت.
“ألم يتبقَّ أحد؟”
“لا أحد، على ما قيل. حتى مركيز تارمينون، الذي كان مسجونًا في القصر، قيل إنه انتحر.”
“انتحر؟”
“هذا مذكور في الوثائق.”
لم تكن تياريس قد وصلت إلى الصفحة التالية بعد، لكنها سرعان ما قلّبت الأوراق بعد سماع كلامه.
وُثق هناك أن المركيز قد انتحر، دون تحديد السبب.
(حتى آخر من تبقّى من نسلي قد مات؟ لم يعد هناك من يشاركني دمي؟)
اجتاحت الحقائق الجديدة عقلها كالسيل.
أنها لم تكن من سلالة نابرَنت أصلاً ورغم ذلك شغلت منصب الدوقة،
كان أمرًا محبطًا بما يكفي… والآن تتأكد من أن عائلتها الأصلية كانت متهمة بالخيانة.
وأنها الناجية الوحيدة من سلالة تارمينون. بعيون تائهة، لم تفعل سوى أن رمشت مرارًا، عاجزة عن الاستيعاب.
كارلوس، الذي كان يراقبها، اختفى فجأة حين شعر بحركة بالخارج.طرق هالبارت باب المكتب بلطف،
لكن تياريس لم تسمع شيئًا.
“سيدتي الدوقة، أنا هالبارت.”
وعندما لم يسمع ردًا، رفع صوته، ثم فتح الباب فورًا.رآها واقفة أمام المكتب، غارقة في التفكير، فتنهد بارتياح واقترب منها.
“سيدتي.”
“ها؟ آه، نعم. ماذا هناك؟”
قالت بارتباك وهي ما تزال شاردة الذهن، بينما انحنى لها هالبارت انحناءة الفارس المعتادة.
“خشيت أن يكون قد حدث لك مكروه، فقد تأخرتِ في الرد.”
“لا، لا بأس.”
لكن وجهها كان شاحبًا لدرجة لا تتفق مع تلك الكلمات.رغم ذلك، لم يطرح هالبارت مزيدًا من الأسئلة، ووقف بصمت قرب المكتب.
جلست تياريس على كرسيها بصعوبة، وما تزال في حالة اضطراب، تقرأ الوثائق من البداية إلى النهاية بعناية،
لكن الحقيقة بقيت على حالها.
(هل عائلة تارمينون حاولت حقًا الخيانة؟)
حدث كل هذا في عهد جيرمان، الدوق السابق.ولمعرفة الحقيقة، لم يكن هناك خيار سوى سؤاله… لكن تياريس ترددت.
فجيرمان، المدمن على القمار، نادرًا ما يكون بكامل وعيه.
(من الصعب التحدث إلى والدي.)
أدركت أنه من الأفضل أن تتخلى عن الفكرة.
حتى لو تحدث، لن تكون كلماته موثوقة بالضرورة.
لكن حين بدأت تستغرق في التفكير، فُتح باب المكتب بقوة، ودخل جيرمان.
“ماذا تفعل هنا؟”
“أهذا مكتب ابنتي، أليس من حقي الدخول دون سبب؟”
“لا، بالطبع لا.”
رغم أنها علمت أنه لم يكن والدها الحقيقي، لم تستطع تياريس التوقف عن مناداته بـ”أبي”.
“هل فكرتِ في ما قلته لك سابقًا؟”
“عذرًا؟”
“عن الطفل.”
“أبي!”
أخيرًا، تذكرت ما قاله لها من قبل.
حين طلب منها، بعد زواجها من إيسدانتي، أن تُنجب من نبيل آخر بدلًا من زوجها.
ظنت أنه نسي الأمر لأنه لم يأتِ على ذكره مجددًا منذ دخول إيسدانتي إلى الدوقية، لكنه لم يكن قد تخلى عن الفكرة.
(هل كان ينتظر الفرصة؟ ربما كان يراقب غياب إيسدانتي تحديدًا.)
“قلت لك بالفعل إنني لا أستطيع فعل ذلك.”
“أن يُخلط دمك بدمٍ وضيع، أسوأ من إنجابك من آخر.”
رفض جيرمان التراجع.
لم يكن يريد طفلاً من دم إيسدانتي، وأصرّ على إجبار تياريس على اتباع رغبته.
كانت على وشك أن تفقد وعيها من شدة الخزي، لكنها تماسكت وعدّلت جلستها بثبات.
“زوجي هو إيسدانتي. وإذا رُزقت بطفل، فسيكون والده، بطبيعة الحال، هو إيسدانتي وحده.”
“كلام فارغ!”
ضحك جيرمان بسخرية، مستهزئًا بها.
شعر هالبارت، الواقف إلى جانبها، بالانزعاج من كلماته.
لكن تياريس، وقد نسيت وجود هالبارت أصلًا، واصلت حديثها.
“لن أسمح بذلك أبدًا.”
“لقد أعددت كل شيء بالفعل، وما عليكِ سوى حضور الحفل.”
“لا يمكنني ذلك.”
“هل عليّ أن أُجبرك بالقوة؟”
“لن أفعلها!”
تقدم جيرمان نحوها بخطوات حازمة. لم تكن تعرف متى يُعقد الحفل، لكن من ردة فعله، أدركت أنه وشيك.
(ربما الليلة حتى؟)
لم تستطع تياريس تفادي يد جيرمان المقتربة. لأنها كانت تعلم أن إن أفلتت من يده اليمنى، ستتلقى صفعة من يده الأخرى.
“لا يمكنك التقدم أكثر من هذا.”
وقف هالبارت بين تياريس وجيرمان. لم يسحب سيفه، لكنه مد يده التي تمسك بغمد السيف ليعيق طريقه.
“كيف تجرؤ؟ فارس بلا لقب يتصرف هكذا؟!”
“حتى إن قلت ذلك، فلن يغيّر شيئًا.
تلقّيت أوامر من القائد ألا تسمحوا للدوق السابق بفعل أي شيء، إن لم تكن الدوقة ترغب به.”
انهمرت قطرات العرق البارد من ظهر تياريس التي شحُب وجهها.
لو لم يكن هالبارت هنا، لما عرفت ما كان سيفعله بها جيرمان.
تنفست الصعداء بصمت، ثم واجهته بجدية:
“لا يمكنني أن أفعل ما تطلبه، يا أبي. ليس هذه المرة.”
“ولِمَ لا؟
“ماذا؟”
“قلتُ: لماذا لا؟ من المضحك أن تتحدثي وكأن ذلك الـ ‘إيسدانتي’ شخص ذو شأن. هل أعطيتِ قلبك لذلك الوغد الوضيع؟”
“أبي! هناك ما يُسمى بالضمير الإنساني! حتى لو لم يكن زواجًا برغبة…!”
“ضمير إنساني؟”
مزّق صوت جيرمان البارد سكون المكتب.
ارتعدت كتفا تياريس من التحول المفاجئ في الأجواء.
اختفت ملامح جيرمان، وصار يحدق بها بعينين تملؤهما النيران.
لم تستطع فهم سبب تغيّره الشديد.
(هل يمكن… أن يكون عرف أنني لست ابنته؟)
إن كان الأمر كذلك، لربما كان سيجوب الأرض بحثًا عن ابنته الحقيقية.هزّت تياريس رأسها لتطرد تلك الأفكار، ثم قالت بحذر:
“الرجل الذي تزوجته هو إيسدانتي، وأي حديث عن الورثة يجب أن يكون معه… آآه!”
أمسك جيرمان بختم نابرَنت الموضوع على المكتب، ورماه نحوها.
أصاب كتفها وسقط أرضًا بصوت ثقيل. كان من الذهب، وثقله لا يُستهان به.
لم تكن بحاجة للنظر لتعرف أنها أصيبت بكدمة.ومع ذلك، لم تُظهر ألمها، وتمالكت نفسها.
“قولي إنك ستنجبين من الشخص الذي أختاره.”
“لا أستطيع.”
ارتفع حاجبا جيرمان غيظًا، ورفع يده كمن يهمّ بضربها، لكن تلك اليد لم تصل إليها، لأن هالبارت أوقفه مرة أخرى.
“لا يمكنني أن أُخِلّ بوعدي.”
“ما الذي فعله لك ذلك الوغد لتتمسكي به؟!”
“……”
لم تستطع الإجابة.
ما فعله إيسدانتي من أجلها لم يكن شيئًا يمكن حصره بكلمات.هو الذي مدّ لها يد العون حين كانت تغرق في الديون.
هو الذي عرض الزواج ليحميها، وأصبح درعًا يحمي كرامتها.
أصبح القوة العسكرية التي تحمي دوقية نابرَنت، والزوج الذي وقف إلى جانبها.
(ماذا فعل لي؟)
فعل الكثير. لا يُعد ولا يُحصى.
صحيح أن مكانتها داخل الدوقية تضاءلت، لكنها اكتسبت ثقة الناس.
كان شعورها وكأنها تمشي على الجليد، ومع ذلك، وثقت بثبات أن إيسدانتي لن يفشي سرّها.
حتى لو كانت تلك الثقة غير عقلانية، إلا أنها تمسّكت بها.
رغم قِصر المدة التي قضياها معًا، إلا أن ما أظهره لها كان كافيًا.تياريس لم تكن تنكر أنها أصبحت متعلقة به بعمق.
بل، لم تكن تريد أن تنكر.
(هو من أنقذني من مستنقع يُدعى دوقية نابرَنت.)
عندما رأت وجه جيرمان، أدركت الحقيقة.
هذا الرجل، الذي يفترض أنه والدها، كان يدفعها دائمًا نحو الأشواك.باستثناء طفولتها، لم يمنحها كلمة حانية قط.
ا
لعيش متعلّقةً بذكريات باهتة، كان أمرًا مؤلمًا.
أن تتحمل كل هذا الضغط لتقود الدوقية… لقد وصلت إلى حدّها.
حدّق بها جيرمان، وجهه يشتعل غضبًا، وبدأ يضغط عليها بالكلمات.ففتحت تياريس شفتيها وقالت:
“ذلك الرجل هو من أنقذني من مستنقع دوقية نابرَنت.”
التعليقات لهذا الفصل " 35"