“يطلب المال كمهر للزواج.”
“إيسدانتي، إذًا.”
حتى تياريس كانت تعرفه جيدًا. فقد كان أشهر شخصية في الإمبراطورية الحالية، هيبيروس.
لقد ظهر فور اندلاع الحرب، وكان الفارس الذي وضع حدًا نهائيًا لتلك الحرب الطويلة. لم يكن معروفًا بدقة ما هو أصله الطبقي،
لكن مظهره كان يوحي بأنه من النبلاء. بالنسبة له، لم تكن النسب ذات أهمية.
لم يكتف بالحصول على لقب نبيل بفضل قدراته فحسب، بل وصل أيضًا إلى منصب القائد العام.
كان أول شخص مجهول النسب يتولى قيادة جيش الإمبراطورية الهيبيروسية بأكمله.
ورغم احتجاج العديد من النبلاء على هذا التعيين الصادم الذي أصدره الإمبراطور سيبيران بنفسه،
فقد أسكتهم جميعًا بكلمة واحدة فقط:
“اخرجوا أنتم وقاتلوا إذًا.”
كانت عبارة أخرست أفواه النبلاء الحاضرين. فإسقاطه لإمبراطورية إيرتيمون، العدو الرئيسي للإمبراطورية الهيبيروسية،
وضمّه لكامل أراضيها إلى أراضي إمبراطوريته، لم يكن شيئًا يستطيع أي شخص تقليده. لم تكن إنجازاته ممكنة إلا لفارس استثنائي مثل إيسدانتي.
“إنه شخص مذهل، بالفعل.”
لكنّه لم يكن الشخص الذي تبحث عنه تياريس. فهي لم تكن تبحث عن رجل بقدرات عظيمة،
بل عن رجل يملك ثروة كبيرة. لم تكن تعرف ما الدافع الذي جعل سيبيران يسعى لتزويجها من إيسدانتي، لذا لم تكن مرتاحة أبدًا.
كان عليها أن تغيّر خطتها. كانت تنوي منح قرينها بعض المهام والصلاحيات داخل منزل دوقية نافارانت،
لكنها الآن باتت تفكر بتقليصها بشكل كبير. ولكي تفعل ذلك، كان عليها أن تستدعي سيشين مجددًا، لكن قواها قد خارت.
وفي تلك اللحظة، جاءها صوت طرقٍ على الباب من الخارج، فاعتدلت في جلستها.
“أعتذر على الإزعاج خلال استراحتك، يا دوقة.”
بسبب نبرة سيشين المهذبة، سمحت له تياريس بالدخول إلى مكتبها.
“السيد إيسدانتي قد أتى.”
“ماذا؟”
قفزت من مكانها من شدة المفاجأة. أتى إلى قصر الدوقية قبل أن تدخل القصر
الإمبراطوري وتستجوب سيبيران عن سبب هذا الزواج؟
“ولم يأتِ وحده، بل جاء مصطحبًا فرقةً عسكرية.”
وقفت تياريس مذهولة للحظة، ثم هزّت رأسها بقوة. لم يكن الوقت مناسبًا للتجمد من الصدمة
كان عليها أن تعرف بأي نية جاء هذا الرجل بجيشه إلى قصر الدوقية. ورغم أن مرسوم الإمبراطور قد صدر،
فإنها لم تتخذ قرارًا بعد، وشعرت بشدة أن لا ينبغي لها أن تستقبل إيسدانتي في قصر الدوقية اليوم.
“يجب أن أذهب بنفسي لرؤيته.”
“لا يكفي إرسال كبير الخدم. إنه موجود حاليًا في صالة الاستقبال.”
“وأين الآخرون؟”
“اصطحبناهم إلى المبنى الجانبي التابع لقصر الدوقية.”
“هل هناك مساحة كافية لهم؟”
“يبدو أن الذين جاؤوا هم العناصر الأساسية فقط.”
أضاف سيشين أن عدد هؤلاء الأشخاص الأساسيين تجاوز الأربعين. فتوسعت عينا تياريس من الذهول.
لم تكن من النوع الذي يظهر مشاعره بسهولة، لكن ما حدث الآن جعلها تشعر بارتباك غير مسبوق.
“أربعون شخصًا؟” “ربما أكثر. هذه مجرد نظرة سريعة.”
“يا إلهي…”
خرجت تياريس مسرعة من مكتبها، متحدثة بلهجة كانت قد تخلّت عنها منذ أن أصبحت دوقة.
وبينما كانت تتجه إلى صالة الاستقبال، شعرت بقلق في قلبها. لقد كانت تأمل أن تكون المسافة بينهما بعيدة قدر الإمكان،
فلماذا اقترب بهذا الشكل؟ لاحظت أن كبير الخدم الذي كان ينتظر أمام باب صالة الاستقبال قد أبدى ارتياحًا عند رؤيتها.
“يا دوقة.”
“الضيف… هل هو بالداخل؟”
“نعم.”
“افتح الباب.”
بأمر تياريس، فتح كبير الخدم الباب باحترام. وما أن فُتح الباب، حتى وقعت عيناها على وجه رجل متعجرف ومترفّع.
“كأنني رأيته من قبل.”
كان وجهًا مألوفًا لها. انغمست تياريس في التفكير، محاولة تذكّر ما إذا كانت قد رأت إيسدانتي من قبل.
لكن ذلك لم يدم طويلاً، إذ تسللت إلى أذنيها نبرته العميقة والثقيلة:
“أعتذر على مجيئي دون سابق إنذار. لقد تلقيت رسالة جلالته للتو.”
“… لا بأس. أنا أيضًا استلمت المرسوم للتو.”
خرج رد تياريس ببطء. لم يكن يظهر عليها، لكنها في الحقيقة كانت مرتبكة.
فزيارة منزل أحد كبار النبلاء دون إبلاغ مسبق تُعد منتهى قلة الأدب.
راقبت تصرفاته متسائلة إن كان ارتكب هذا الخطأ لأنه لا يجيد قواعد السلوك. لكن، بما أنه ألقى التحية بطريقة رسمية، لم يكن الأمر كذلك.
كانت حركاته مضبوطة بدقة، وجسده يتحرك كما لو أنه قيس بالمسطرة. حتى يده التي مدّها لتحيتها كانت في الموضع المثالي.
“يشرفني لقاؤك للمرة الأولى، اسمي إيسدانتي.”
“كان يُقال إنه من عامة الشعب لأن أصله مجهول… لكن…”
كان حركته أرقى بكثير من أن تكون لحامل دماء عامة الشعب. فهذه الأناقة مستحيلة دون أن يكون الشخص قد تعلّم أصول التصرف .
بينما كانت تياريس تحدق في يده الممتدة دون أن تصافحها، لم يشيح إيسدانتي بنظره عنها.
التقت عيناها الحمراء بعينيه الحمراوين. وشعرت تياريس بتنميل في أطراف أصابعها من التوتر.
رغم أنها هي صاحبة المنصب الأعلى، لماذا تشعر وكأنها ستُفترَس؟ أحسّت بعينيه تسبران أغوارها كوحش يراقب فريسته، فبلعت ريقها الجاف بصعوبة.
“يا دوقة؟”
لو لم يكن نداء شيسين من الخلف حين شعرت بشيء غريب، لبقيت تياريس تحدق في إيسدانتي فقط دون أن تحوّل بصرها.
وضعت تياريس يدها فوق يده، فلامست شفاه إيسدانتي ظهر يدها. كانت القبلة المهذبة التي انحنى ليمنحها لها،
حارّة كأنها أحرقت يدها. فزعت تياريس وسحبت يدها على عجل، لذلك لم تلاحظ الوميض البارد الذي مرّ في عيني إيسدانتي وهو يراقبها.
“تياريس نابارانت.”
“يشرفني أن ألتقي بك، دوقة.”
مع كلمات إيسدانتي التي خرجت بسلاسة، أشارت له تياريس بالجلوس.
“لأي شأن أتيت؟”
“لدي ما أقوله بشأن الزواج الذي أمر به جلالة الإمبراطور.”
“لقد صدر المرسوم الإمبراطوري بالفعل، فماذا تبقّى لتقوله؟”
“هل ترغبين بالزواج بي؟”
تجمدت تعابير وجه تياريس عند سؤاله. لم يبقَ أي أثر للمرأة التي كانت مأخوذة به قبل لحظات،
وحلّ محلها دوق بوجه خالٍ من العاطفة.
“وقاحة منك أن تقول ذلك.”
كيف تجرؤ على سؤالي إن كنت أرغب بالزواج بك؟ لو كان يعلم أنها طوال هذا الوقت تبحث عن شريك زواج يفيد بيت الدوق،
ما كان ليتفوّه بهذا السؤال التافه. وقبل أن تفتح تياريس فمها للرد، تكلّم إيسدانتي أولاً:
“سمعت أنك تبحثين عن رجل يفيد بيت الدوق ليكون زوجاً لك.”
“……”
اتسعت عينا تياريس. لم يكن من الجيد أن تصل تعقيدات بيت الدوق إلى آذان إيسدانتي، القائد الذي وصل حديثاً إلى العاصمة.
فهذا يعني إما أنه يتمتع بقدرة استخباراتية عالية، أو أن أمن بيت الدوق في حالة يرثى لها.
وفي كلتا الحالتين، الوضع ليس في صالحها. فإن كان إيسدانتي قد تمكن من جمع هذه المعلومات،
فهذا يعني أنه على دراية بوضع بيت الدوق المالي، وبالتالي لم يكن لدى تياريس ما تقدمه سوى لقبها.
(لا… ليس تمامًا.)
فبيت الدوق يمتلك “الكنز المقدس”. وإن لم تكن تياريس قادرة على سماع صوت هذا الكنز،
فإن من الممكن أن يسمعه ابنها في المستقبل. لذلك كان لا بد لها أن تكون في موقع أقوى من إيسدانتي،
حتى تقبل أمر الإمبراطور وتدير زواجاً يصبّ في مصلحة بيت نابارانت.
“هذا ليس من شأنك.”
“لكنه أصبح من شأني بما أنني سأجلس في هذا المقعد.”
“القائد إيسدانتي…”
“أحضر 2 مليون كمهر للزواج.”
وهكذا بات الأمر مؤكداً. إيسدانتي يعلم تماماً ما تحتاج إليه.
فأن يقدّم عرضاً لا يمكن رفضه ويطلب الزواج… هذا يعني أنه يضرب على الوتر الحساس.
“أترين أن المبلغ لا يكفي؟”
“هاه!”
رغم ضحكة تياريس الساخرة، لم تتغير ملامح إيسدانتي. فقد كان يعلم أن تياريس لا يمكنها الرفض بعد صدور المرسوم الإمبراطوري،
ولهذا تجرأ على قول ما قاله. فانتظرت منه أن يتابع الحديث وكأنها تدعوه للاستمرار.
“أحضرت جنوداً وفرساناً، وسأتحمل نفقاتهم أيضاً.”
“هل المال لديك بلا نهاية؟”
“تلقيت مكافأة النصر في الحرب، ولم يعد هناك حاجة لصرفها على الجيش بعد انتهائها.”
“هل تريد أن تصبح زوج الدوقة إلى هذه الدرجة؟”
ابتسم إيسدانتي بسخرية على كلمات تياريس. رفّت عيناها بدهشة، فكانت هذه أول مرة تراه يبتسم.
تلك الابتسامة الطفيفة غيّرت بالكامل ملامحه الحادة والباردة، وأضفت عليه هالة من الثقة.
“إن شئتِ، فلتظني ذلك.”
كانت ابتسامة غريبة، وكلماته المبهمة جعلت حاجبي تياريس يرتفعان قليلاً.
(ما قصته؟)
يبدو أن لديه غاية من الدخول إلى بيت الدوق، لكنها لم تستطع أن تحددها. ولم يكن بمقدورها طرده هكذا ببساطة،
لأن العرض الذي قدمه كان بالضبط ما تحتاجه.
(بمقدار كهذا، لن يقلّ شأناً عن والدي.)
لقد كان سيء الصيت بسبب قسوته في ساحة المعركة. حتى الدوق السابق، جيرمان،
ما كان ليجرؤ على مطالبته بالمال أو ابتزازه. بدا أنه يملك شخصية قوية، وكان عرضه المالي أعلى من أي عرض قدمه أي بيت نبيل آخر طلب يدها.
وهذا وحده كافٍ ليجعل إيسدانتي مؤهلاً.
(من البداية، كنت أبحث عن بيت ثري.)
الشروط لم تكن سيئة. لكن حين نظرت إلى إيسدانتي الذي يرمقها
بهدوء وراحة،
لم تستطع أن تنطق فوراً بالموافقة على الزواج.
“هناك بيوت نبلاء أخرى قدمت شروطاً مشابهة.”
مع كلمات تياريس، انكسر شيء في ملامح إيسدانتي الهادئة. تغير طفيف جداً،
لكنه كان كافياً لتبتسم شفاه تياريس من طرف واحد.
التعليقات لهذا الفصل " 3"