صــــداقة بين رجل وامرأة؟
فقد إيسدانتي أعصابه ما إن رأى الاثنين يقفان بالقرب من بعضهما.
كان يعلم مسبقًا من خلال التحقيقات أن بينها وبين ابن دوقية باين، التي تحمل أثرًا مقدسًا، علاقة صداقة.
بل عندما طلب الزواج منها، كانت دوقية باين أول من قصدها.
«لم يكن الأمر مهمًا.»
حتى لو كانت على علاقة طيبة بإنفرينتي من دوقية باين وساعدت في حماية الدوقية، لم يكن ليعترض.
ذلك كان قبل أن يعلم أنها من نسل عائلة تارمِنون.
«لكن الآن، الأمر مختلف.»
ذلك القرار الذي اتخذه سابقًا أن يكشف لها كل شيء ويساعدها على الرحيل إن أرادت قد تلاشى منذ زمن.
شعر بالغثيان مجددًا من تناقض مواقفه، لكنه تمالك نفسه. شدّ قبضته على ذراعها دون أن يدري،
ولم يدرك ارتجاف يدها إلا بعد فوات الأوان. وقد تركت أصابعه بصمات حمراء على ذراعها النحيل.
“يبدو أنك، لمجرد أنك عُيّنت قائدًا بأمر من جلالته، لم تعد ترى أحدًا أمامك.”
قال إنفرينتي بصراحة دون أن يخفي عداءه.
“لم يسبق أن تصرف أمامي أحد بهذا الغرور، لا يحمل أثرًا مقدسًا ولا يملك سوى لقب شرفي.”
“غرور؟”
أفلت إيسدانتي ببطء ذراع تياريس. شعر بها تفرك موضع قبضته، لكنه لم ينبس بكلمة لطيفة واحدة.
في النهاية، كان هو بالنسبة لها “الرجل السيئ”.
أخفيت تياريس خلف ظهره تمامًا، وحدّق في إنفرينتي. ما الذي يجعل هذه المشاعر المضطربة تغلي داخله؟
هل لأنها تمتص ألمه؟ أم لسبب آخر؟ دون أن يمنح نفسه فرصة لترتيب أفكاره، انهمرت كلماته في وجه إنفرينتي.
“هل مساعدة امرأة متزوجة زواجًا تعترف به العائلة الإمبراطورية يُعدّ تصرفًا طبيعيًا برأيك؟”
“… تياريس صديقة طفولتي…”
“هل توجد صداقة بين رجل وامرأة؟”
“……”
لم يستطع إنفرينتي الرد على كلام إيسدانتي. لم يكن يعلم كيف تشعر تياريس، لكنه هو نفسه لم يستطع الجزم بعدم وجود مشاعر خاصة.
لا يزال يحتفظ بها في قلبه.
“أنا وإنفرينتي لسنا كذلك.”
لكن الجواب جاء من تياريس نفسها. لم يتمكن إنفرينتي حتى من فتح فمه للرد. شفتاه المشدودتان ارتجفتا،
ومنذ أن التقت أعينهما، توترت الأجواء بينهما. لم يكن لإنفرينتي مجال ليتدخل بينهما.
رغم وقوفه قربهما، لم يلتفتا إليه، ما دفعه للضحك ساخرًا، لكنه لم يُرد أن يعترف. لم يُرد أن يصدق أن بينهما شيئًا خاصًا.
“وكيف لي أن أصدّق هذا؟”
كان من المقزز أن يخاطبه إيسدانتي بلهجة غير رسمية، بينما يُخاطب تياريس بلباقة.
ظنّ إنفرينتي أن على تياريس أن تلاحظ ازدواجية إيسدانتي.
«كانت على وشك قول شيء لي.»
لاحظ في تلك اللحظة العابرة نظرة التردد على وجه تياريس. لا شك أنها كانت تهمّ بأن تقول شيئًا.
“أظن أن الحديث قد انتهى. أليس كذلك؟ تفضل بالخروج الآن.”
نظر إنفرينتي إلى إيسدانتي، الذي عاد إلى نبرته المهذبة فجأة، وقرر تأجيل المواجهة إلى وقت لاحق.
فمن الصعب على تياريس أن تتحدث بصراحة في حضوره. استدار وخرج من المكتب دون أن يلقي تحية.
وحدّق في إيسدانتي الذي بدا وكأنه منتصر، وتمتم في نفسه:
«انتظر فقط. المرة القادمة لن تكون هكذا.»
وبعد خروج إنفرينتي، عمّ الصمت.
لم تستطع تياريس أن تتحرك من مكانها. شعرت بالريبة في نظرات إيسدانتي. عضّت على شفتيها.
“لماذا لا تقولين شيئًا؟”
كان إيسدانتي هو من كسر الصمت أولًا. جلس على الكرسي وكأن شيئًا لم يحدث، وكان وجهه هادئًا تمامًا،
وكأن انفجاره السابق لم يكن أبدًا. وذلك ما زاد توتر تياريس.
لم تكن تعرف ماذا يريد. وأدركت فجأة أنها لم تسأله حتى لماذا أتى إلى مكتبها فجأة.
“لماذا أتيت؟”
“……”
“قلت لك، لماذا جئت؟”
عند سؤالها، لزم إيسدانتي الصمت. بقي ساكتًا للحظات، ثم ابتسم بخفة. كانت ابتسامة ساخرة،
لكنها غامضة. تُرى، لمن كانت موجهة؟ لنفسه؟ أم لها؟ لم تعرف تياريس كيف تفسر تلك المشاعر.
«لماذا وجودي مع إنفرينتي يزعجه؟»
“هل لا يجوز لي؟”
“ماذا قلت؟”
“ألا يجوز لي أن أزورك فجأة هكذا؟”
هذه المرة، هي من لم ترد. لقد اعتاد أن يزورها دون موعد منذ فترة.
منذ متى أصبحت زياراته أمرًا عاديًا وليس استثناء؟
جلست تياريس بهدوء، ونظرت إلى وجه إيسدانتي. بدا كما كان، لكنه كان متعبًا بطريقة ما.
“… يجوز. رغم كل شيء.”
“هذا مطمئن. على الأقل يعني أنني أقف في نفس المستوى مع ابن دوقية باين.”
“وهل هذا أمر مهم؟”
“…… بالنسبة لي، نعم. إنه مهم.”
لم تستطع تياريس أن تُبعد نظرها عن إيسدانتي الذي كان يحدّق فيها مباشرة. رغم أنها باتت تعرف الآن كل شيء:
ما هي نواياه عند اقترابه منها، وكيف استولى على دوقية نابارانتي، إلا أنها لم تستطع أن تكرهه.
لأنها، في النهاية، كانت الجانية التي اغتصبت مكانه. مهما كانت الأخطاء التي ارتكبها إيسدانتي،
لم يكن بإمكانها إلا أن تسامحه. كان ذلك بالنسبة لها كعقوبة سماوية، لا مفر منها.
“إنفرينتي ليس سوى صديق طفولة.”
“في العالم الذي أعيش فيه، لا توجد صداقة بين رجل وامرأة.”
“في العائلات التي تحمل أثرًا مقدسًا، من الضروري أن يكون هناك تواصل منذ الصغر.”
“ضروري، تقولين؟”
“نعم، ضروري. حتى مع جلالة الإمبراطور، رأيته عدة مرات في طفولتي.”
لم تدري تياريس لماذا راحت تبرّر. فقط حتى تزول تلك البرودة من نظرة إيسدانتي.
ثم همس إيسدانتي بهدوء وهو يُخرج زفرة خفيفة:
“أنا لا أحب ذلك.”
«لا تحب؟»
لم تستطع فهم الدافع وراء تلك الكلمات. لم ترد أن تدخل في كلام آخر مع إيسدانتي. كانت تعتقد أن هذا هو طريقها إلى التكفير عن ذنبها.
كانت ترى أن احترامها له، رغم كل ما حدث، هو نوع من الاعتراف بمعاناته التي بدأت منذ أن أُخذ منه كل شيء،
وألقي به في الأزقة الخلفية. قررت أن تتقبّل كلماته على ظاهرها، دون تحليل أو تشكيك، لأنها رأت أنه لا داعي لأن يكذب عليها.
“ولم لا تحب ذلك؟”
“…… فقط، لا أحبه.”
رغم أن رده كان مقتضبًا، شعرت تياريس أنه كافٍ. وربما… قد يصبح هذا بداية لتحسّن العلاقة بينهما.
لقد سمح لها بالجلوس بجانبه، وإن لم تستطع أن تثق به، فبمن تثق إذًا؟ لم يبقَ أحد تثق به، فلماذا تُضيف إيسدانتي إلى قائمة من لا يُؤتمن؟
“إن كان لا يروق لك، فلن ألتقي به مجددًا.”
“حسنًا.”
شعرت تياريس بالراحة من رده الهادئ. لم يكن يحاول السيطرة عليها، أو يطلب منها الرحيل،
أو يمنعها من لقاء الآخرين. وعندما همّ إيسدانتي بمغادرة المكتب، وقفت تياريس وأوقفته:
“هل تشرب فنجان شاي؟”
“إن كنتِ ستقدّمينه، فسأتقبله بسرور.”
شدّت تياريس الحبل فدخل أحد الخدم من دوقية نابارانتي. وعندما جلب الخادم إبريقًا من الشاي وكأسين،
أشارت له بيدها أن ينصرف. فانحنى الخادم بأدب وخرج، ثم قامت هي بنفسها بصب الشاي.
وما إن انتشرت رائحة الشاي في المكتب حتى شعرت أن التوتر الذي كان يخنقها بدأ يتبدد تدريجيًا.
متى كانت آخر مرة استمتعت فيها بالشاي؟ لطالما أحبته، لكنها لم تعد تشربه كما كانت.
«كان ذلك قبل أن يبدأ إيسدانتي في زيارتها.»
حتى قبل أن يظهر في حياتها مجددًا، لم تعد تجد في نفسها متعة الشاي. لم تكن تملك وقتًا للراحة.
فمنذ أن تولّت منصب الدوقة، كانت مشغولة دائمًا بمحو آثار جيريمان، حتى لم يعد لديها وقت لتناول كوب شاي بهدوء.
“اشرب.”
“رائحته طيبة.”
“أعرف. لهذا أحبه.”
دفء الكوب في يدها منحها راحة غريبة. رغم أن الطقس لم يكن باردًا، فإن حرارة الكوب خففت من توترها.
ومع عبير الشاي، استرخت أعصاب تياريس قليلًا. لم تكن تظن من قبل أن علاقتها مع إيسدانتي قد تتحسّن يومًا.
سواء أعجبها ذلك أم لا، كانت هي وإيسدانتي على متن قارب واحد. لكنها لم تجرؤ يومًا على الاعتقاد بأنه قد يفتح قلبه لها.
صحيح أنهما تناولا الطعام سويًا من حين لآخر، لكن لم يجلسا معًا في جو مريح كهذا من قبل.
نسيت تياريس الإهانة الصغيرة التي ارتكبها إيسدانتي قبل لحظات. رغم أن ذراعها ما زالت تؤلمها من قبضته القوية،
إلا أنها فكرت أن احتساء كوب شاي كهذا قد يكون بداية لتحسّن العلاقة بينهما.
كان إيسدانتي يحتسي الشاي بصمت دون أن ينظر إليها، وكأنه غارق في أفكاره.
«ها هو يفعلها مجددًا.»
حتى وإن كانت هي من اغتصبت مكانه، فقد كان من الجارح أن يتجاهل وجودها بهذه الطريقة رغم جلوسها أمامه مباشرة.
لقد تاهت عن طريقها في سبيل أن تحيا كدوقة نابارانتي بكرامة بسببه، فكيف لا يوجّه إليها حتى كلمة؟
«مع أن بين يديه الآن القوة التي طالما حلمتُ بها، يشرب الشاي بهدوء وكأن لا أحد أمامه.»
لكن هذه المرة، قررت أن تفكر في الأمر من زاوية مختلفة.
فقد كانت مشاعر إيسدانتي حين رآها برفقة إنفرينتي حادة بشكل غير متوقع. على الأقل،
بدا أنه لا يكن لها اللامبالاة الكاملة.
«إن كان يحمل لي شيئًا من المشاعر… فربما يمكننا، برغم هذا الخراب، أن نعيش كزوجين.»
نظرت تياريس إليه نظرة جانبية وهي تحتسي الشاي، فتحمرت وجنتاها بهدوء… دون أن تنتبه حتى لذلك.
التعليقات لهذا الفصل " 28"