قــــلتُ لك أن تبتعد
“سمعت أن قوة الأثر المقدس قد تجلت… ولهذا جئت.”
أحجم إنفرينتي عن إكمال كلامه. لم تكن ملامح تياريس تبشّر بخير ليسألها المزيد. وجهها الشاحب وعيناها المتعبتان أخبراه بما يكفي،
فانتظر إنفرينتي حتى تستعيد وعيها. كان خادم دوقية نابارانتي قد اقترح إبلاغ تياريس،
لكنه منعه وصعد بنفسه إلى مكتبها. كان يعلم أن ذلك ليس من آداب النبلاء، لكنه توقع أن تكون حالتها الجسدية غير مستقرة إن كانت قد استخدمت قوة الأثر المقدس.
«كما توقعت.»
افترض مباشرة أنها استخدمت قوة الأثر المقدس وتعاني الآن من آثارها الجانبية. سحب كرسيًا وجلس إلى جانبها يراقبها بهدوء.
عندما رفّت رموشها الذهبية، بدا كأن فراشة ذات أجنحة ذهبية تحركت أمامه، مشهدٌ مدهش بحق.
«كلما فكرت في الأمر، زاد أسفي.»
لم يستطع إلا أن يشعر بالمرارة لأنه اضطر للتخلي عن مكانٍ بجانب تياريس لقائدٍ جاء من الأزقة الخلفية.
تم الزواج بمباركة الإمبراطور، دون أن يتاح لإنفرينتي أن يتدخل، وبما أنهما قد وقّعا عقد زواج أقرّته العائلة الإمبراطورية،
فقد كان الطلاق مستحيلًا، ولا سبيل له إلى الاقتراب منها.
“ما الذي تفعله هنا؟”
سألت تياريس وهي تفيق وتحرك رأسها. لم يُزِل إنفرينتي النظرة القلقة من عينيه، ومدّ يده نحوها.
كان يريد أن يُصفف خصلات شعرها المبعثرة، لكنها حرّكت جسدها وتفادت يده.
“قلتُ لك، ماذا تفعل هنا؟”
“لا شيء خاص… جئتُ لأهنئكِ فقط.”
“تهنئة؟”
انعوج وجه تياريس. لم يدرك إنفرينتي نبرة صوتها المنخفضة والمتوترة، وسحب يده المرتبكة إلى الوراء.
لم يلاحظ النظرة الحادة في عينيها، فأخذ يثرثر محاولًا كسر الصمت المحرج:
“لطالما رغبتِ بقوة الأثر المقدس، أليس كذلك؟”
“أجل.”
“الآن وقد أصبحتِ تملكين القوة الحقيقية للدوقية، فمن الطبيعي أن…”
“إنفرينتي.”
انتقل نظر إنفرينتي إليها حين نادته فجأة. عندها فقط، أدرك كم كانت ملامحها مدمّرة.
“تياريس، ما الذي…؟”
“ماذا عساي أفعل الآن؟”
اقترب منها إنفرينتي، متفاجئًا من وجهها الباكي. تذكّر أنها تفادت لمسه قبل قليل، فلم يجرؤ على لمسها مجددًا.
متى أصبحت العلاقة بينهما قريبة بهذا الشكل، لكنها بعيدة في الآن ذاته؟ ظل يحدق في تياريس، التي لم تستطع حتى البكاء كما ينبغي.
“ما الأمر؟ سأتدخّل، سأساعدك.”
“…….”
كان الخوف ينهش قلبها. قبضت على يدها بقوة حتى كادت الدماء لا تصل إلى أطرافها. ماذا الآن؟
كانت تسعى لأن تكون دوقة تُدير نابارانتي بكفاءة، لكنها الآن تاهت. لم يكن يهمّها الزواج بلا حب،
إن كان ذلك في سبيل الدوقية. لذلك تزوجت إيسدانتي…
«لكن أن يظهر سرّ الولادة بهذه الطريقة!»
رغم كلمات إنفرينتي التي عرض فيها مساعدته، لم تستطع فتح فمها بسهولة. ماذا سيحدث إن أخبرته بالحقيقة؟
بالنسبة له، كانت تياريس من دوقية نابارانتي صديقة. لكن تياريس تَارمِنون؟
«هل يمكن لتياريس تَارمِنون أن تكون صديقة لإنفرينتي؟ هل سيعترف بي، وأنا من نسل عائلة تارمنون، المتهمة بالخيانة؟»
الأفكار انهالت في رأسها بلا رحمة. لم تستطع قول كلمة رغم أن شفتيها تحركتا مرارًا. لكنها حين نظرت إليه، رأت الدفء في عينيه.
«هل يمكنني أن أثق به؟»
كانت تعرف إنفرينتي منذ الطفولة. وإن علم بظروفها، فسيحاول حمايتها على الأقل. وحين نظرت إليه بثبات،
فتح فمه مجددًا:
“لا بأس، فقط أخبريني…”
“ابتعد عنها.”
صدر صوت بارد من خلف إنفرينتي. تياريس بلعت ريقها الجاف، وقد عرفت صوت إيسدانتي مباشرة.
«منذ متى كان واقفًا هناك…؟»
هل سمع حديثها مع إنفرينتي؟
“قلتُ لك، ابتعد عنها.”
صوت إيسدانتي، المنخفض، كان مشحونًا بالغضب. تياريس نهضت على الفور من شدة الدهشة من تغيّره المفاجئ.
طوال ما عرفته، لم يكن رجلًا يعبّر عن غضبه بهذه الطريقة، بل يكبته في داخله.
لهذا فتحت عينيها بدهشة عند رؤيته على هذا النحو.
رجل لا يُظهر مشاعره بهذه السهولة…
“إيسدانتي، ما الذي…؟”
“ابتعد عنها فورًا!”
اقترب إيسدانتي بخطوات سريعة وأمسك بذراع تياريس.
راقب إنفرينتي تصرفاته بصمت، لكنه ما إن رآه يمسك بها حتى أطلق ضحكة ساخرة.
“لم أكن أعلم أن زوج الدوقة يعاملها بهذه الطريقة.”
“الذي يتجاوز حدوده هو أنت. مهما كنت صديقًا للدوقة، ألا ترى أن اقترابك الشديد منها أمر غير لائق؟ أين ذهبت قواعد النبلاء؟”
“لو سمعنا أحدهم الآن، لظن أنك أنت الدوق، لا زوجها. هل نسيت أنني أحد رجال الدوقية؟”
“حتى وإن كانت رتبتك فخرية، فأنا أيضًا أملك مرتبة أعلى من الماركيز، ولست أقلّ منك شأنًا.”
لم يُفلِت إيسدانتي يد تياريس التي أمسك بها. أبعدها عن إنفرينتي الذي كانت تجلس إلى جانبه.
تياريس تبعته دون أن تنبس بكلمة، وكأنها تنصاع لإرادته. بدا وكأن إيسدانتي يتحفّظ بشدة على اقترابها من إنفرينتي.
“أفلِت يدك عنها.”
أنذر إنفرينتي إيسدانتي بنبرة حادة.
“تياريس دوقة. حتى وإن كنتَ زوجها، فلا يحق لك إجبارها على شيء.”
“إنفرينتي.”
“أفلِتها في الحال.”
ما إن سُمع صوت تياريس الضعيف حتى انتفض إنفرينتي من مكانه واقفًا.
أصلاً، لم يكن يطيق فكرة أن من تزوج تياريس هو رجل جاء من الأزقة الخلفية، والآن يراها تُعامَل بهذه الطريقة أمام عينيه، فكاد الغضب يفجر صدره.
لم تكن تياريس شخصًا يستحق هذه المعاملة. لو كانت قد وقفت بجانبه، لكانت نالت من الكرامة والتقدير أكثر من أي شخص في هذا العالم.
نظر إنفرينتي إلى إيسدانتي بنظرة قاتلة وهو يضغط على أسنانه. كان يرغب في أن ينتزع يد إيسدانتي عن تياريس ويدفعه بعيدًا،
لكنه لم يستطع. فإيسدانتي كان، في نهاية المطاف، زوج تياريس المعترف به من قبل العائلة الإمبراطورية.
ضحك إيسدانتي ساخرًا، وكأنه يستهزئ بنظرة إنفرينتي العدائية نحوه. تجمد وجه إنفرينتي من الغضب،
لكن إيسدانتي لم يُعره أي اهتمام.
“وإن لم أفعل؟”
شدّ إيسدانتي قبضته على ذراع تياريس.
فقدان في القوة. لم يكن إيسدانتي وحده من كان ضحية، بل تياريس أيضًا، وهذا ما جعله يطلق ضحكات مريرة.
«لو أنني استطعت أن أكرهها، لكان الأمر أسهل.»
لو كان ذلك ممكنًا، لكان قد استغلها كأداة دون أي رحمة. ولكن بعدما عرف الحقيقة، لم يعد قادرًا على لومها.
بل شعر بالشفقة تجاهها، تلك التي أخذت مكانه، دون أن تدري، ونشأت وهي تظن أن من دمّر عائلته هو والدها الحقيقي.
“لم يكن مهمًا إن كان صبيًا أو فتاة. كان مجرد اللمس كافيًا لإحداث التأثير المطلوب.”
“وأنت كنت تعرف أنها ليست من دمك ومع ذلك تركتها؟”
“أجل. الطفل الذي يحمل دمي كان سيعود إليّ في النهاية، لذا كان من الأفضل أن أُعد العدة له.”
“ولماذا جعلتها تتولى منصب الدوق؟”
ذلك كان أكثر ما يثير فضوله. مع علمه بأنها لا تنتمي لدم نابارانتي، لماذا رفعها جيريمان إلى منصب الدوق؟
“حتى لا تتمكن من الهرب.”
بمجرد أن سمع ذلك من جيريمان، لم يستطع إيسدانتي كبح غثيانه. لم يعد قادرًا على تحمّل الأمر،
فاندفع خارجًا. نظر إليه نيرفين، الذي كان ينتظره في الخارج، بعينين متسائلتين، لكن إيسدانتي لم يهتم.
ركض في الردهة متجهًا إلى مكان لا يوجد فيه أحد.
ظل إيسدانتي يتقيأ جافًا بلا توقف. ثم تساءل فجأة عن حال تياريس. كيف استطاعت أن تحتمل العيش تحت ظل ذلك الشخص؟
كيف آمنت أن هذا الرجل أبٌ لها؟ لم يفهم. إيسدانتي، الذي نشأ في الأزقة الخلفية، كان يعرف على الأقل ما هي مشاعر البشر.
كان لديه “ماما”، وكان لديه هالبات الذي دعمه بكل قوته.
وكان هناك أيضًا فرسان على استعداد للتضحية بحياتهم من أجله.
«لكن تياريس؟»
لا يمكن أن تكون قد امتلكت صديقًا حقيقيًا حتى. والأسوأ من ذلك، أن هيلِيان، مرضعتها الوحيدة،
قُتلت بيده هو، إيسدانتي. وقبل أن تنتهي من الحزن على موتها، انكشف سرّ ولادتها…
ظنّ أن تياريس، التي تولّت منصب الدوق بدلاً منه، قد نشأت في رفاهية، ولم ترَ إلا الجمال والراحة.
تصوّر أنها عاشت حياة سعيدة بلا شائبة.
فهي نشأت في دوقية نابارانتي العظيمة، واحدة من ثلاث عائلات فقط في إمبراطورية هيبيروس تمتلك أثَرًا مقدسًا.
كخليفة لتلك الدوقية، كان من الطبيعي أن تحصل على كل شيء. هكذا تخيل، لكن تلك الصورة تحطّمت تمامًا.
لا يمكن أن تكون تياريس، التي كان جيريمان والدها، ان تعيش بسعادة.
بمجرد أن فكّر في كل ذلك، شعر إيسدانتي برغبة شديدة في رؤيتها. لا، كان يريد أن يسمع منها. كيف كان جيريمان كأب؟
فتوجّه إلى مكتبها. طوال سيره في الممرات، ظل يفكر بما سيقوله له
ا. ثم اتخذ قراره. إن كانت تريد،
فبإمكانه أن يساعدها على الخروج من هذا المستنقع.
لو لم يكن وريث دوقية باين، الحامل الآخر للأثر المقدس، بجوارها، لكان قد سألها بلطف:
“كم كان الأمر مؤلمًا طوال تلك المدة؟”
التعليقات لهذا الفصل " 27"