هل أعجبتك الهدية؟
عادت تياريس إلى مكتبها وضربت المكتب بيدها. لم تستطع كبح الغضب المتصاعد بداخلها.
وبعد أن ظلت تلهث بغضب لبعض الوقت، هدأت أنفاسها بروية.
«لا فائدة تُرجى من الانفعال.»
إذا لم تحافظ على رباطة جأشها، فستُلتهم. كان ذلك من تعاليم والدها، جيريمان. تياريس تماسكت كما أوصاها. لم يتبق الكثير.
إيسدانتي وعد بأن يرحل، وبمجرّد أن يرحل، ستكون هي حرة.
«سأفكر بشأن الأثر المقدس لاحقًا.»
الأثر المقدس الذي انتقل الآن إلى إيسدانتي، لكي يختار شخصًا جديدًا، يحتاج إلى طفل. وذلك الطفل يجب أن يحمل دم إيسدانتي. ورغم أنها كانت زوجته،
فقد يُنجب طفلًا من امرأة أخرى. فكل شيء رهن بإرادة إيسدانتي. تنهدت تياريس تنهيدة طويلة.
خطر خاطر سخيف للغاية برأسها فجأة.
«إن أنجبت طفله…»
أسرعت تهزّ رأسها بعنف. لا، هذا لا يجوز. لقد تصرفت وكأنها شخص يليق بمقام دوقية نابارانتي،
لكنها لم تكن ملزمة بحمايتها. لم تكن من هذا المكان، ولم تكن مسؤولة عن الخدم والمقيمين في هذه الدوقية.
لم يعد من واجبها أن تُنجب طفلًا ليحافظ على دم عائلة نابارانتي.
“ما هذه الأفكار السخيفة، يا تياريس؟”
تمتمت بذلك وحدها. شعرت بأنها لن تستطيع الصمود دون أن تتحدث. هل ستشعر بالراحة قليلًا إن أفرغت هذا السر الثقيل؟
ترى، إلى من يمكن أن تبوح به؟ كانت تياريس تغرق شيئًا فشيئًا في الظلام. إلى مستنقعٍ عميق لا أحد يمكنه إنقاذها منه.
“تياريس.”
“آه!”
أيقظها أحدهم بينما كانت عيناها مغمضتين. تياريس راحت تلوّح بيديها في حالة فزع.
لكن أحدهم أمسك بيدها المتأرجحة في الهواء.
“هل أنتِ بخير؟”
فتحت عينيها بالكاد عند سماعها صوتًا يذكرها بالحنان. عينا إنفرينتي السوداوان، المملوءتان بالقلق،
انعكستا في عينيها الزرقاوين.
………
كان جيريمان يحتضن إيسدانتي، الذي لم يُبدِ أي رد فعل، وهمس له:
“حسنًا، لا بد أنك تشعر بالذهول.”
“هل كنت تعلم أنني ابنك؟”
“كيف لي أن أعلم؟ لو لم يكن بسبب نور الأثر المقدس في عينيك، لما كنتُ لأتعرف عليك.”
في عائلة دوقات نابارانتي، عندما يُورّث أحد أفراد العائلة الأثر المقدس، يظهر حول القزحية الحمراء هالة ذهبية.
جيريمان لاحظ ذلك في عيني إيسدانتي.
“الأثر المقدس يبحث عمن يحمل دم نابارانتي، لذلك كنت أعلم أنك ستدخل هذه العائلة يومًا ما.
“وحتى مع علمك، لم تبحث عني؟”
“ما دمت ستعود في النهاية، فلا حاجة للبحث عنك.”
بكلمات جيريمان الباردة، تحطّمت الآمال الصغيرة التي كان إيسدانتي يحملها تجاه عائلته.
«ما الذي كنت أرجوه؟»
لا يزال مشهد المنزل الدافئ الذي رآه من خلف النافذة في أحد أيام الشتاء الباردة يراوده.
طفل يضحك، وأبوان يرمقانه بنظرات مفعمة بالحب. رغم أن أصابع قدميه كانت على وشك أن تتجمد في ذلك اليوم،
إلا أنه لم يستطع نسيان ذلك المشهد. كان يظن أنه إذا وجد عائلته يومًا ما، فقد يصبح جزءًا من ذلك المشهد.
شعر إيسدانتي بالأمل يتكسر بداخله وهو يقبض يده. رغم أنه عامل الناس كأدوات من قبل،
إلا أنه لم يُعامل يومًا كمجرد غرض بهذه الطريقة القاسية. من نظرة جيريمان إليه،
شعر وكأنه قطعة لحم معلقة في ملحمة يُقيّمها الجزار.
“لا يمكن كتم صوت الأثر المقدس بمجرد الرغبة.”
“أعلم ذلك.”
“إذًا، لقد تقبّلت قوة الأثر المقدس…”
“لقد انتهيت من تلك العملية بالفعل.”
وجه جيريمان إلى إيسدانتي نظرة متفحصة. عيناه، المملوءتان بالرضى والانبهار، انسابت على جسده كأفعى.
شعر إيسدانتي بأن أطراف أصابعه بدأت تبرد من شدة التوتر. رغم أنه عاش في الأزقة الخلفية وخاض الحروب،
وشهد ما لا يُحصى من المصاعب، إلا أنه وجد صعوبة في خداع جيريمان الذي نظر إليه وكأنه يعرف كل شيء عنه.
«هل السبب أننا نحمل نفس الأثر المقدس؟»
لم يكن إيسدانتي قد أدرك بعد تمامًا قوة الأثر المقدس الذي تحمله دوقية نابارانتي. في هذه العائلة،
الشخص الذي يحمل قوة الأثر المقدس يمرر طريقة استخدامه إلى من يليه. وبما أن قوى الآثار المقدسة كانت تُعتبر سرية،
لم يكن يُسمح بتوثيقها كتابة. لذلك لم يكن هناك أي سجل عنها في الأرشيف السري.
“هل سبق أن استخدمت قوة الأثر المقدس؟ آه، لا بد أنك استخدمتها. قلت إنك دخلت الأرشيف السري، أليس كذلك؟”
اتسعت عينا إيسدانتي على نحوٍ كبير عند سماعه كلمات جيريمان. رغم أنه فقد سلطته، إلا أن الدوق يبقى دوقًا.
لا يزال لديه من يعمل كعينيه وأذنيه داخل دوقية نابارانتي.
إيسدانتي، بعد سماعه تلك المعلومة، قرر أنه ينبغي عليه القضاء على كل من بقي يتبع جيريمان في هذه الدوقية.
“نعم، هذا صحيح.”
صدر صوت هادئ من جهته. دون أن يعرف ما كان يدور في ذهن إيسدانتي، واصل جيريمان حديثه.
“الألم؟ كيف كان الوجع؟”
كان جيريمان يتحدث كما لو أنه يريد أن يشارك ما مرّ به مع شخص آخر، وكأنه يتمنى أن يعاني إيسدانتي أيضًا ألمًا هائلًا.
من بريق التوقع في عينيه، كان الجنون يتفجر.
“العائلة الإمبراطورية، ودوقات نابارانتي، ودوقات باين، جميعهم امتلكوا الأثر المقدس منذ اللحظة التي تأسست فيها إمبراطورية هيبيروس.
لأن الرجال الثلاثة الذين أسسوا الإمبراطورية تلقوا أثرًا مقدسًا من الإلهة، كلٌّ على حدة.”
“أعلم ذلك.”
“استخدام قوة الأثر المقدس يعني استحضار قوة الإله. وأنت بالتأكيد تعرف أن الألم المصاحب لذلك يصعب تحمّله كبشر.”
“كم مرة يجب أن أقول لك، لقد قلت إنني أعلم.”
أغلق إيسدانتي النقاش مع جيريمان وقد ضاق ذرعًا بتكرار الحديث. إن قال الشيء ذاته مرة أخرى،
كان ينوي طرده فورًا. لكنه قال شيئًا غير متوقع هذه المرة.
“هل تعرف أن هناك عائلة تعمل على تخفيف الألم الناتج عن استخدام قوة الأثر المقدس؟”
“وأعلم أيضًا أنك من وشَى بتلك العائلة.”
“وشاية؟ لقد كان سيناريو مُحكم الإعداد.”
عبّر صوت جيريمان عن نبرة مليئة بالأسف، فتجهم وجه إيستانتي.
«ما الذي يقصده؟»
لقد كانت تلك وثائق كتبها جيريمان بيده. هي نفسها التي وُجدت في الأرشيف السري. ومع ذلك،
كأنما كان ينكرها كليًا الآن. فبدلًا من الفضول، شعر إيسدانتي أولًا بالريبة.
“هل قمت بتزوير محتويات الأرشيف السري؟”
“طبعًا! لو دخل أفراد العائلات الأخرى الذين يحملون الأثر المقدس إلى هناك، لأدركوا الحقيقة على الفور.”
“…….”
“كل شيء بدأ من العائلة الإمبراطورية. نحن، دوقات نابارانتي، لم نكن سوى منفذين لما أرادته العائلة الإمبراطورية.
نحن نحتفظ بأمرٍ سري أصدرته عائلة هيبيروس إلينا. في حال أصبح هذا الأمر مشكلة يومًا ما،
قد نضطر لاستخدامه للضغط عليهم.”
“ماذا فعلتم بالضبط حتى…؟”
“هل ترغب في أن تعرف؟”
عند همس جيريمان بنبرة مبطنة، عضّ إيسدانتي على شفته. لم يسبق له أن وجد نفسه عاجزًا إلى هذا الحد عن الحصول على المعلومات.
آلمه مجددًا مدى عزلة وانغلاق العائلات التي تمتلك آثارًا مقدسة.
رغم اعتقاده بأنه على دراية بكل الأسرار القذرة التي تدور في المجتمع الأرستقراطي، إلا أنه كان يفتقد أهم الحقائق.
كان عليه أن يعترف بوجود ثغرات في شبكة معلوماته. بل وكان بحاجة إلى إعادة تنظيمها من جديد.
معلوماته عن العائلة الإمبراطورية، ودوقات نابارانتي، ودوقات باين، كانت ضئيلة للغاية. لو لم يسمع نداء الأثر المقدس الموجود في نابارانتي،
لربما بقي يجهل هذه الأمور إلى الأبد.
“…….”
لزم إيسدانتي الصمت. قلة المعلومات التي يملكها جعلت أي كلمة يقولها مضرة له.
ولما لم يتفوه بشيء، ابتسم جيريمان وواصل حديثه.
“هل أعجبتك الهدية التي أعددتها لك؟”
“هدية؟”
“أقصد تياريس.”
“ما الذي تقوله؟”
بدأت قبضته تنغلق بشدة. كان يعلم منذ زمن كيف كان جيريمان يتعامل مع تياريس. رآه يمدّ يده عليها،
وسمعه يأمرها بإنجاب طفل من رجل آخر بحجة أنها مجرد عشيقة. أن يسميها “هدية” الآن…
«وكل هذا لأجلي؟»
كاد الأثر المقدس داخله أن يغلي عند سماعه كلام جيريمان، الذي يعامل الجميع كأدوات من أجل دوقية نابارانتي.
شعر بالقرف من حقيقة أن في عروقهما نفس الدم. لم يستطع الرد على كلمات جيريمان اللاإنسانية.
فقط نظر إليه بعينين ساكنتين، لا يستطيع إخماد الغليان العاطفي في داخله.
لم يشعر بمثل هذا الغضب منذ وقت طويل. حتى إنه لم يلاحظ أن يديه بدأت ترتجفان من شدة التوتر.
شعر جيريمان بالطاقة الحادة المتسربة من جسد إيسدانتي، لكنه لم يتراجع. بل على العكس،
اقترب منه أكثر وعيناه تزدادان بريقًا.
“كيف كانت؟ الهدية التي أعددتها لك.”
“تياريس هي…”
لم يعرف ما يجب أن يقوله. وحين استمر إيسدانتي في التلعثم، لم يتحمل جيريمان فبادر بالحديث.
“كيف كانت سلالة ماركيز تَارمِنون؟”
اتسعت عينا إيسدانتي إلى أقصى حد ممكن. وبدا الذهول واضحًا في ملامحه، فارتسمت ابتسامة باهتة على شفت
ي جيريمان.
“هديتي التي أعددتها لأجل دمي. الطفلة الوحيدة من عائلة ماركيز تارمِنون، القادرة على تخفيف ألم استخدام قوة الأثر المقدس.”
كان جيريمان يعرف كل شيء. حتى أن الطفل قد تبدّل. وكان يعرف أيضًا هوية تياريس الحقيقية.
التعليقات لهذا الفصل " 26"