مؤثر للغاية
عندما صرخ إيسدانتي، تفاجأت تياريس واعتدلت في وقفتها. لقد رأت مشهدًا مشابهًا من قبل.
حين تقبّل إيسدانتي قوة الشيء المقدس، أطلق حينها أيضًا صرخة ألم مشابهة. الآن، وبينما كان يصرخ بنفس الطريقة ويعض على أسنانه،
لم تعرف تياريس ما يجب أن تفعله، تمامًا كما حدث سابقًا. لكن الأمر اختلف هذه المرة. لم تمدّ يدها نحوه، ولم تحاول أن تسنده.
إيسدانتي، الذي كان يتلوّى من الألم، رأى باب الأرشيف السري يُفتح ببطء، لكنه لم يكن قادرًا على التقدّم نحوه.
ظنّ أنه اعتاد على الألم بسبب الحروب والمعارك التي خاضها، لكن هذا الألم لم يكن بمقدوره احتماله.
وفي تلك اللحظة، أدرك لماذا كان الدوق السابق غارقًا في القمار والنساء.
القوة التي كانت تنهش أعصابه فجأة اختفت وكأنها لم تكن.
تياريس حوّلت نظرها عن إيسدانتي الذي كان يلهث بشدة بعد أن هدأ، ونظرت إلى الأرشيف السري الذي فُتح.
كان مكانًا لم تره من قبل، مكانًا لطالما أرادت دخوله، لكنه انفتح أمام إيسدانتي بسهولة كبيرة، مما جعلها تشعر بالفراغ.
تنفّس إيسدانتي بعمق واستعاد توازنه، ثم مدّ يده إليها، فمدّت تياريس يدها هذه المرة وأمسكت بها.
ودخلا سويًا إلى الأرشيف، فأُغلق الباب خلفهما.
“باب الأرشيف السري فُتح!”
“الدوقة لا بد أنها حصلت على قوة الشيء المقدّس!”
“رائع، أليس كذلك؟”
بدأ خدم الدوقية الذين كانوا يراقبون من بعيد بالظهور والهمس فيما بينهم.
ظنّوا ببساطة أن تياريس هي من يملك القوة، ولم يخطر في بال أحدهم أن من يملك قوة الشيء المقدّس هو إيسدانتي.
داخل الأرشيف السري، أخذ إيسدانتي نفسًا عميقًا. الألم الذي شعر به قبل لحظات لم يكن شيئًا يُحتمل بالعقل.
الألم الذي بدأ من أطراف أصابعه كان أقسى من أي ألم واجهه في ساحات الحرب. قبض على يده المتيبّسة ثم بسطها عدة مرات، ثم نظر نحو تياريس.
عندما تقبّلتُ قوة الشيء المقدّس في المرة الماضية، لم يكن الألم بهذا الشكل.
صحيح، كان هناك ألم، لكنه اختفى بسرعة. والفرق بين تلك المرة وهذه، هو وجود تياريس.
عينيه، الباردتين والمتألمتين، تطلعتا نحوها، لكنها لم تلاحظ، إذ كانت مستغرقة في فحص الوثائق داخل الأرشيف.
كانت تلك الوثائق بمثابة التاريخ الكامل لدوقية نافارانت، مصنّفة بحسب السنوات، تروي كيف عاش أفراد العائلة وما فعلوه.
أخذ إيسدانتي كتابًا من الرف. إن كان يريد معلومات عن عائلة تارمينون، فالأفضل أن يبدأ من أحدث السجلات.
بينما كانت تياريس تقرأ عن أفراد الجيل الأول من الدوقية، كان هو يطالع سجلات الدوق السابق، جيريمان، والتي تضمّنت أيضًا ما يخص تياريس.
لا شيء مميز…
وفجأة، استوقفه شيء في السجلات. اسم عائلة تارمينون.
ورد في الوثائق أن أفراد هذه العائلة تم القبض عليهم ونقلهم إلى القصر الإمبراطوري بناء على بلاغ من جيريمان نفسه.
كان ذلك مكتوبًا بخط الدوق السابق.يجب أن أبحث عن الدوق السابق.
هو من يملك مفتاح هذا اللغز.
وبينما كان يهمّ بمغادرة الأرشيف السري، توقف فجأة.
فقد وقعت عيناه على تياريس، المنهمكة في القراءة. كانت تقف مائلة على رفٍ دون نوافذ، تتصفّح الملفات بعناية.
شعر بشيء غريب. شعر بجلال نبيل في وقفتها، شعر بشيء غير مألوف.
شعر بأن تلك الكلمات التي تُقال عادة: الولادة النبيلة تُرى من الملامح لم تكن مجرد مجاز.
لكن، الحقيقة أن إيسدانتي لم يكن يعرف أصل تياريس.
كان يعلم فقط أن المربية هيليان بدّلت بينه وبين تياريس، لكن لم يكن يعرف من أين جاءت.
وماتت هيليان دون أن تفصح عن أي شيء. لذا،
كان واثقًا أن أصل تياريس يحمل سرًا دفينًا أرادت المربية حمايته حتى آخر رمق.
لم يكن هناك الكثير من الأوقات التي قضياها سويًا خارج المكتب. لذا، بينما كان يراها الآن، منكبةً على السجلات، ابتسم ابتسامة خفيفة. لكنها لم تلحظها.
كان ينظر إليها لأول مرة دون أي حواجز. ولأول مرة، فكر:
ماذا لو كنتُ قد التقيت بها في ظروف طبيعية؟
ربما، لو لم يُبدّلا عند الولادة، لو لم يُجبَرا على هذا الزواج القسري، لما كانت علاقته بها بهذا الشكل.
لم يكن ليفرض زواجه عليها هكذا، ولم يكن ليسعى لسرقة مقعدها.
هل كان قلبي سيميل إليها؟
تسلل إليه هذا السؤال، فأغمض عينيه بقوة، ثم فتحهما. لم يكن الوقت مناسبًا لهذه الأفكار.
عليه أن يجد من يمكنه تخفيف آلامه من يُسكّن لعنة الشيء المقدّس. هذه القوة لم تكن بركة إلهية، بل كانت لعنة حقيقية.
“يجب أن نخرج.”
بمجرد أن وصل تفكيره إلى تلك النقطة، فتح إيسدانتي فمه أولاً. وعند سماع كلماته، أفاقت تياريس من شرودها وأعادت الوثائق التي كانت تقرأها إلى مكانها.
“إذا أتيحت لنا الفرصة، فلنعد إلى هنا مرة أخرى.”
رنّ صوت إيسدانتي الهادئ في أرجاء الأرشيف.
رآها تتسع عيناها اندهاشًا، لكنه تجاهل ذلك واستدعى مجددًا قوة الشيء المقدّس ليفتح باب الأرشيف.
عاد الألم يتسلل إلى جسده، لكنه لم يكن بنفس حدة المرة الأولى. استطاع أن يتحمله. تياريس، التي لاحظت شحوب وجهه، لم تقل شيئًا، فقط عضّت على شفتيها بصمت.
غادرا الأرشيف السري معًا. وما إن خرجا، حتى وقف خدم دوقية نافارانت مصطفين كما لو أنهم كانوا في انتظارهم، وانحنوا لهم باحترام.
“نهنئكم على حصولكم على قوة الشيء المقدّس.”
بدأ كبير الخدم، ثم تبعه الآخرون بصوت جماعي:
“نهنئكم، يا دوقتي!”
نظر إيسدانتي مباشرة إلى عيني تياريس المرتبكتين، فرأى الحيرة تسكنها. نظرت إليه وهي تائهة، لكنه أومأ لها برأسه بثقة.
عندها، لمعت في عينيها نظرة استسلام، ولوّحت بيدها للخدم ليعودوا إلى عملهم. وإيسدانتي،
وهو يراقب ظهورهم وهي تتوارى، انحنى لها وقال بصوتٍ مرتفع ليسمعه الجميع:
“نهنئكي، يا دوقتي.”
أطلقت تياريس ضحكة ساخرة، لكن ملامح وجه إيسدانتي لم تتغير.
“أن أسمع تهنئة من القائد العسكري، إنه لشرف عظيم.”
“قائد عسكري؟ اسمي فقط يكفي.”
“شكرًا لك، إيسدانتي.”
“لا شكر على واجب.”
مرّت تياريس بجانبه ومضت. وقف إيسدانتي مستقيمًا في مكانه، يراقب ظهرها وهو يبتعد، ولم يُحرّك ساكنًا حتى اقترب منه مساعده نيرفين وتحدّث إليه.
“سيدي القائد.”
“اذهب وأحضِر لي الدوق السابق، جيريمان.”
“هل يُسمح باستخدام أي وسيلة كانت؟”
“استخدم كل وسيلة ممكنة، لكن اجلبه.”
“أمرك.”
ما إن ابتعد نيرفين، حتى استدار إيسدانتي أيضًا وتوجّه إلى الجناح المنفصل الذي يقيم فيه.
كان جناحًا خاليًا ومُجهزًا دائمًا لرحيله في أي لحظة. لم يكن هناك حاجة لتفريغ أمتعته.
لم يكن يحمل أي تعلّق بدوقية نافارانت.
لو أن تياريس كانت تعرف بحقيقتها ومع ذلك جلست على مقعد الدوق، لما تركها دون محاسبة.
لكن، بما أنها لم تكن تعلم شيئًا عن التبديل، لم يكن هناك سبب لإلحاق الأذى بها. حتى هيليان نفسها كانت قد أكدت ذلك.
[الآنسة لا تعرف شيئًا!]
“قالت الآنسة…”
لم تقل “الدوقة”، بل “الآنسة”. ذلك يعني أن هيليان كانت ترى تياريس بصفتها سيّدتها التي خدمتها من قبل،
لا باعتبارها دوقة نافارانت. لو قالت “الدوقة”، لكان الأمر مختلفًا.
أحتاج فقط للعثور على ما قبل ذلك.
إن تمكّن من معرفة المكان الذي جاءت منه هيليان قبل دخولها إلى دوقية نافارانت، فسيمكنه حينها معرفة من هي تياريس،
ولماذا جرى التبديل بينها وبينه. قبض إيسدانتي على يده بإحكام. كانت الخيوط تبدأ بالظهور أمامه أخيرًا.
بينما كان إيسدانتي يفكر بكل ذلك، جاءه صوت من الخارج.
“سيدي القائد، إنه هالبات.”
“ما الأمر؟”
“الرجل الذي كنتم تبحثون عنه قد حضر.”
“ليدخل.”
دخل هالبات ومعه جيريمان. بدا وجه الأخير سليمًا، ما يعني أنه لم يُبدِ مقاومة أثناء القبض عليه.
كان إيسدانتي يأمل أن يتم جلبه مضروبًا أو مكسورًا قليلًا على الأقل، لكنه لم يكن سهلًا. شعر بخيبة أمل.
كان يأمل أن ينتقم قليلًا لتياريس. لكن، ما إن غادر هالبات، ونطق جيريمان بكلماته الأولى، تلاشت تلك الفكرة.
“أنت… من دمي، أليس كذلك؟”
“… كيف عرفت…؟”
“عيناك. في عينيك تسكن قوة الشيء المقدّس. وأنا أعرفها، لأني كنت أحملها أيضًا.”
تجمّد إيسدانتي في مكانه. لم يكن جيريمان يبدو كرجل مدمن على القمار.
الرجل الذي يقف أمامه الآن لم يكن يشبه أبدًا ذلك الشخص الذي عرفه من قبل.
لم يرَ في عينيه هذا الصفاء من قبل. وفي لحظة التوتر تلك، ابتلع إيسدانتي ريقه بصعوبة.
“كنت أعلم أن الشيء المقدّس سيناديك يومًا ما.”
هل كان يعلم أن تياريس ليست ابنته؟
إذا كان يعرف، فلماذا نصبها دوقة؟ لم يكن الأمر منطقيًا. لم يتمكن إيسدانتي من استيعاب دوافعه،
فلم ينبس ببنت
شفة. اقترب منه جيريميان بخطوات واسعة.
“مرحبًا بعودتك، يا بُني.”
فتح ذراعيه ليحتضنه، فبدت صورته كأنها سراب.
إيسدانتي لم يستطع أن يتحرك. لم يعرف كيف يتصرّف أمام جيريمان الذي كان يستعدّ لاحتضانه.
التعليقات لهذا الفصل " 25"