“الجنون؟!”
“أين وضعتِ كل متعلقات المربية؟”
سألت تياريس بنبرة هادئة. نظر إليها إيسدانتي لبرهة قبل أن يجيب:
“نقلنا كل شيء إلى المخزن.”
“لم يكن هناك داعٍ للعجلة في هذا الأمر.”..
“كنتِ تودّين تركها على حالها؟ أنا لا أستطيع ذلك. ولو كان الأمر بيدي…”
نظراته الحادّة ارتكزت عليها. بلعت ريقها الجاف ونظرت إليه بتوتر. في الحقيقة، لم يكن لها ما تقوله لو قرر طردها من هنا.
ومع ذلك، لم يفعل إيسدانتي ذلك.
ابتسم بخفة وهو يراقبها تتنفس بقلق:
“لكن لا يمكنني أن أُهين الدوقة هكذا.”
“لأنني دوقة؟”
“عليكِ أن تبقي على كرسي الدوقية.”
“لماذا أنا؟”
“لأنه إن أردتُ تنصيب شخص آخر، فسيكون ذلك مزعجًا.”
“مزعج؟”
“نعم.”
“هل تسخر مني؟”
عند سؤالها، تحرك حاجباه قليلًا.
“قلتُ سابقًا إنها مفاوضة، أليس كذلك؟”
“لكنني لم أسمع الشروط بوضوح بعد.”
“كنت قادمًا لشرحها لكنك لم تكوني في المكتب.”
“كنت عائدة من غرفة المربية.”
“مفهوم.”
مدّ يده نحوها كإيماءة مرافق نبيل، ورغم حرصه الظاهري، لم تشعر تياريس بالراحة. وضعت يدها على يده،
وعندما لاحظ برودة أناملها همس قائلاً:
“لا داعي للتوتر. كل ما عليكِ هو أن تبقي على كرسيك كالسابق.”
“كدمية بين يديك؟”
“لا تصدقينني بعد. لكنني سأغادر حقًا.”
“متى؟”
“في غضون أسبوع، على الأكثر.”
عادت معه إلى مكتبها، وما إن رأت الأوراق المجهزة سلفًا حتى أطلقت ضحكة قصيرة مفعمة بالمرارة.
لقد أعد كل شيء مسبقًا.
“أدرك أنكِ تحتاجين وقتًا للقراءة. سأنتظر حتى الغد.”
“… هل يمكنني تعديل هذه الوثائق؟”
“إن كانت هناك بنود ترغبين بإضافتها، فأضيفيها. سأراجعها لاحقًا.”
“مفهوم.”
أخذت تياريس الأوراق من يده. وما إن تأكد من أنها بدأت تقرأ، غادر المكتب.
لم يكن هناك ما يُبقيه بعد أن حصل على ما جاء من أجله.
وفي الممر، اقترب منه هالبات.
“سمعت شيئًا غريبًا، أيها القائد.”
“هل ستبدأ بهُراء جديد؟”
“أبدًا. هذه معلومة مهمة فعلًا.”
“تحدث.”
كان مزاج إيسدانتي جيدًا بعد أن أنجز مهمته، فأشار له بالبقاء.
اقترب هالبات منه وهمس بصوت منخفض كي لا يسمعه أحد.
“يتعلق الأمر بدوق نافارانت السابق. يبدو أن هناك سببًا لجنونه.”
“جنونه؟ ألم يكن مجرد مدمن مقامرة؟”
“يقولون إنه فقد صوابه. بعد وفاة زوجته بدأ يتصرف بغرابة. كان طبيعيًا قبلها.”
“بعض الناس لا يحتملون فقدان من يحبون.”
غمغم إيسدانتي، لكن هالبات هز رأسه نافيًا.
“ليس هذا فحسب.”
“بل ماذا أيضًا؟”
“بسبب الشيء المقدّس. يقال إنه يؤثر على العقل، لذلك يلزم وجود شيء يخفف من تأثيره.”
“ما الذي تعنيه؟”
“دوقات نافارانت عبر الأجيال كانوا يصابون بالجنون. قليلون فقط نجوا من ذلك.”
“هناك ثلاث عائلات تملك شيئًا مقدسًا.”
“صحيح، وكل عائلة تتكتم على الأمر، لكنه يحدث فعلًا. وهو أمر قديم للغاية.”
تغيرت ملامح وجه إيسدانتي، وفهم هالبات الأمر وابتسم بانتصار:
“ألم أقل لك إنها معلومة عظيمة؟”
“… صحيح.”
الجنون؟
ظنّ أنه تخلّص من صوت الشيء المقدس، لكن ما تبقى هو الجنون؟ لم يستطع كتم غضبه المتصاعد.
“كيف نُضعف تأثير الشيء المقدّس إذًا؟”
اقترب هالبات أكثر. رغم أن صوتهما بالكاد يُسمع، تفحّص من حوله بحذر. لم يكن هناك أحد، لكن توتره أغضب إيسدانتي.
ما الذي تنوي قوله الآن؟
“كل عائلة وجدت شيئًا يُضعف تأثير الشيء المقدّس… وكان هذا الشيء إنسانًا.”
“إنسان؟”
“نعم. إحدى العائلات كانت من مرتبة مركيز في الإمبراطورية، لكنها اندثرت.”
“مركيز؟ لا بد أنها كانت تملك نفوذًا
“وماذا في ذلك؟ نحن هنا في دوقية، وهناك الأسرة الإمبراطورية نفسها.”
همس هالبات بصوت خافت.
“لقد احتجزوهم بالقوة، لكن الجميع انتحروا.”
“ماتوا؟ جميعًا؟”
“قيل إن بعضهم هرب، لكن لم يتم العثور عليهم بعد. لهذا السبب، العائلة الإمبراطورية ودوقية نافارانت تبحثان عنهم.”
“العالم كله مليء بالمجانين.”
عندما انفجرت سخرية إيسدانتي بهذه الكلمات، ضحك هالبات بازدراء.
“أليس هذا مثيرًا للسخرية؟ أن تقوم عائلة إمبراطورية ودوقية باضطهاد وقتل أسرة نبيلة؟”
كان من المفترض أن يضحك، لكن إيسدانتي لم يجد في الأمر شيئًا مضحكًا. لأن ما قيل لتوه هو صورة لمستقبله القادم.
حتى بعد أن حصل على الشيء المقدّس في دوقية نافارانت، لم يكن هناك حل.
هل يعني أنني يجب أن أعيش هكذا، ثم أجن؟
ضحكة ساخرة انفلتت من فمه. شعر إيسدانتي بالإحباط ينهال عليه نتيجة قدره العجيب.
لقد زحف بشق الأنفس حتى دخل أخيرًا هذه الدوقية، لكن القدر الذي تبقّى له لم يسمح له بأي حرية.
“أظن أن دوق نافارانت السابق لم يكن يعلم شيئًا عن هذا.”
“الدوقة الحالية ليست سوى اسم. أما السلطة الحقيقية، فهي لا تزال بيد الدوق السابق.”
“حقًا؟”
“للدخول إلى الأرشيف السري للدوقية، تحتاج إلى قوة الشيء المقدّس. لكن، لسببٍ ما، الدوقة الحالية لا تملك تلك القوة.”
عند تلك الكلمات، برقت عينا إيسدانتي فجأة.
الأرشيف السري…
إن لزم الأمر، فسوف يستخدم قوة الشيء المقدّس للدخول إليه.
في مكتب الدوقة، جلست تياريس تتفحص الأوراق بدقة. لم يكن هناك ما يضرّها من حيث الشروط.
بل، إن صح التعبير، كانت الشروط مفيدة لها ما دامت تحتفظ بمنصب دوق نافارانت.
لكن، ماذا لو تخلّيتُ عن هذا المنصب؟
في نهاية الأوراق، كانت هناك عبارة واحدة:
{ إذا لم يُنفّذ هذا العقد بشكلٍ صحيح، تُدفع الحياة ثمنًا لذلك. }
التوقيع على وثيقة تُدرج حياتها كضمان، وكأن الأمر بسيط… أطلقت تنهيدة عميقة. ثم دفعت الأوراق بعيدًا وأخفتها داخل الدرج،
فهي لم ترغب أن يراها أحد. كانت دائمًا تخبئ الأشياء الهامة هناك. كان للدرج قاع مزدوج،
لا يعرف مكانه سوى تياريس.
“آه، صحيح.”
أخرجت دفتر المذكرات الذي أخفته في ملابسها. كان دفترًا قديمًا، يبدو أن عليه سنوات طويلة.
وبينما كانت تقرأ ما كُتب فيه بدقة، اتسعت عيناها فجأة.
“ماركيزية تارمينون؟”
لقد سمعت بذلك الاسم من قبل. كانت عائلة من مرتبة ماركيز في الإمبراطورية، وقد اتُّهمت بالخيانة.
وبعد أن دمّرها الجيش الإمبراطوري، أصبحت تلك العائلة اسمًا محرّمًا يُهمَس به فقط بين النبلاء.
فكم من نبيل اختفى فجأة لمجرد أنه تجرأ على
نطق الاسم.
وكان دفتر المربية يحوي تفاصيل عن هذه العائلة المنكوبة، ماركيزية تارمينون.
هل كانت المربية تنتمي إلى تارمينون؟
{ أصيبت الآنسة بطعنة أثناء الهروب. تسللتُ بها إلى الدوقية سرًا، لكن… }
تحركت عينا تياريس بسرعة بين السطور. التاريخ كان قريبًا من موعد ولادتها. وعند نقطة معينة،
بدأت عيناها ترتجفان من شدّة الصدمة.
{ كانت الطفلة أنثى، وطفل الدوقة ذكرًا. كان عليّ أن أختار. أغمي على الدوقة، ووسط الفوضى تحرّكت.
القابلة خرجت تطلب المساعدة، وبقيتُ وحدي. }
فهمت تياريس على الفور ما الذي تعنيه “الاختيار” في كلام المربية.
{ لحسن الحظ، كانت الطفلة تشبه الدوقة كثيرًا. }
واصلت القراءة، وعيناها ترمشان، حتى سالت دموعها دون توقف.
{ إنها دماء دوقية نافارانت المُقزِّزة. العائلة التي قتلت أهل تارمينون ودمّرتهم، والتي تملك الشيء المقدّس. }
من ضغط القلم على الورق، شعرت تياريس بمدى كراهية هيلليان. لم تتوقف دموعها أثناء قراءتها لما تبقى.
لم يكن في نهاية اليوميات شيء مميز،
لكن لو لم يكن هناك ذلك السطر الأخير، يوم ظهور إيسدانتي، لكانت قد أغلقت الدفتر وانتهى الأمر.
{ الطفل الذي هرب يومًا ما بسبب ضعف المراقبة قد عاد، وقد أصبح راشدًا. فماذا سيحدث الآن لآنستي، لدوقتي؟ }
ذلك كان آخر أثر تركته المربية.
التعليقات لهذا الفصل " 23"