هــــل كنتي على علم؟
سقطت هايليان على الأرض بعدما أخذت تصرخ بشكل هستيري. لم تستطع تياريس استيعاب ما يحدث أمامها من هول الموقف.
اندفع سيتشين مذعورًا نحو هايليان ورفعها بين ذراعيه، فيما دخل كبير خدم الدوقية الذي كان ينتظر بالخارج.
سارع بطلب الإذن من تياريس قبل أن ينقل هايليان إلى الخارج. وعندما همّت تياريس باللحاق بهم، أوقفها إيسدانتي.
“هل تنوين اللحاق بهم؟”
“يجب أن أرى…”
“لن يتغير شيء حتى لو ذهبتِ. لقد أغمي عليها فقط.”
“إيسدانتي…”
“أليس هناك أمر علينا أن نحله أولاً؟”
تغيّر بريق عيني إيستانتي. فارتجف جسد تياريس من النظرة القاتلة في عينيه. تقدم خطوة نحوها.
“كم مرة من المفترض أن أتحمل مثل هذا الكلام بصمت؟”
“إيسدانتي…”
“لقد تجاهلتُ كل ما قيل عني من أهل الدوقية. أعتقد أن هذا وحده يُظهر ما يكفي من تسامحي.”
“لذلك، طلبتَ تعجيل الزواج…”
“ثم تخططين لأخذ عشيق بعد ذلك؟”
“كيف لك أن تقول ذلك؟!”
“لأنكِ لا تثقين بي.”
رمشت تياريس بعينيها، غير قادرة على تصديق ما تسمعه. لقد اقترحت تعجيل الزواج لتُظهر له ثقتها،
فكيف وصل الأمر إلى هذا؟ لكن إيسدانتي لم يتأثر بملامح الحزن على وجهها، بل استمر يتحدث بنبرة خالية تمامًا من الانفعال.
“ألم يكن ما قدمته للدوقية حتى الآن كافيًا؟”
“ما الذي تقصده بـ’ما قدمته‘…؟”
“يبدو أن مساعدتك لم يخبرك بشيء. أعني المال الذي أُخذ من فرقتنا العسكرية.”
“مال؟”
“نعم.”
أعلن إيسدانتي بكل وضوح:
“قالوا لي بكل ثقة إن ميزانية الدوقية تكاد تكون منعدمة، ثم طلبوا المال.”
“وأنت أعطيتهم المال دون حتى أن تسألني؟”
“تحققت من كيفية استخدامه. لقد استُخدم فعلًا من أجل الدوقية.”
“ليس هذا ما أعنيه!”
ارتفع صوت تياريس، لكنها سرعان ما صمتت. الجدال مع إيسدانتي في هذا الوضع لن يجدي نفعًا
أغمضت عينيها وأطلقت زفرة طويلة. لم يكن هناك مخرج واضح من هذا المأزق. لم يكن هناك سوى طريق واحد
: الزواج من إيستانتي.
“هل يمكن أن تقف إلى جانبي بدءًا من الغد؟”
“أظن أنكِ قلتِ إن زواج النبلاء من الطبقة العليا يتطلب ما يقارب السنة من التحضيرات.”
“إذا حصلنا على موافقة العائلة الإمبراطورية، يمكننا تقديم عقد الزواج غدًا.”
«كنت أتمنى ألا أستخدم هذا الخيار… لكن لا خيار آخر.»
لم يكن أمامها بديل. كانت الطريقة الوحيدة لإرضاء إيستانتي وحماية رجاله. لا فائدة من معاداة من سيكون إلى جانبها في المستقبل.
آمنت تياريس أن إيسدانتي سيصبح أكثر لينًا بعد الزواج. فإن شعر بأن شعب الدوقية هم أيضًا شعبه، فلن يستمر في التصرف بهذه الطريقة.
عندما يحصل نبلاء الطبقة العليا على إذن من العائلة الإمبراطورية للزواج، فهذا يعني أن الزواج يتم باعتراف الإمبراطورية،
ويصبح بعدها الطلاق مستحيلًا. وفي حالات الزواج بين العائلات النبيلة، فإن استحالة الطلاق تمثل مخاطرة كبيرة،
ولهذا لم تكن تياريس راغبة في أن يتدخل القصر في هذا الزواج، حتى فوق الأمر الإمبراطوري نفسه.
“في هذه الحالة، سأذهب أنا للحصول على موافقة العائلة الإمبراطورية. أرجو أن توقّعي عقد الزواج وتختمي عليه.”
وكأن إيسدانتي كان ينتظر هذه اللحظة، فأخرج عقد الزواج من صدره. وعندما رأت تياريس الوثيقة التي لم يكن ينقصها سوى توقيعها وختمها،
جلست على الكرسي. كان مكتبها الذي اعتادت على الجلوس فيه كل يوم لمعالجة الأوراق يبدو غريبًا اليوم على نحو غير مألوف.
مدت يدها والتقطت أداة الكتابة الموضوعة بجانبها.
ناولها إيستانتي الوثيقة، وبدأت تياريس تقرأها مجددًا. لم يستعجلها. وبعد أن أنهت القراءة،
كتبت اسمها في الحقل الفارغ، ثم وقّعت. وأخيرًا أخرجت الختم الذي كانت ترتديه كقلادة،
وأذابت الشمع الخاص بالختم فوق الشعلة.
انتشر عبير عطري لطيف في الهواء. سقط الشمع الذائب فوق خانة التوقيع، وضغطت عليه بختمها.
وبدا الختم الأحمر فوق التوقيع وكأنه دم يلمع بلون مشؤوم. ارتجفت تياريس من شعور غامض بالخطر،
لكنها لم تُبعد عينيها عن الوثيقة. وعندما تصلب الشمع تمامًا، لفّ إيستانتي الوثيقة وأخذها معه.
“سأذهب إلى القصر الإمبراطوري.”
وغادر المكتب قبل أن تتمكن من قول شيء. نظرت تياريس إلى ظهره وهو يبتعد، وضغطت بإصبعها على ما بين حاجبيها.
هذا الزواج، الذي بدأ بصعوبة، بدا وكأنه لن يكون سوى طريق مليء بالأشواك. نهضت تياريس من مكانها.
كان ضوء القمر الفضي ينساب بهدوء عبر النافذة. نثر نور القمر، الذي يختلف عن برودة عيني إيسدانتي، على كتفيها. وقفت تياريس عند النافذة تتكئ عليها.
“هل ما أفعله الآن… حقًا هو الصواب؟”
فكرت بالأمر عشرات، بل مئات المرات. ولم يكن هناك طريق آخر. الذين ضغطوا عليها حتى اتخذت قرارها هذا،
لا شك أنهم الآن يقضون ليلة هادئة بلا قلق. شعرت بصداع.
لكن حين نظرت إلى الحديقة المظلمة تمامًا للدوقية، تلاشت الأفكار المشتتة وبدأ صداعها يهدأ. على الأقل، كان ذلك شيئًا جيدًا.
وقفت تياريس تنظر بصمت إلى الخارج، وتحركت شفتاها.
“ليته لا يحدث شيء سيئ لدوقية نافارانت…”
ثلاثة أيام.
كانت هذه هي المدة التي غاب فيها إيسدانتي عن قصر الدوقية. وعندما عاد، لم يذهب إلى تياريس مباشرة،
بل قصد هايليان أولًا. مكث داخل غرفتها لفترة دون أن يخرج، ثم توجّه نحو مكتب الدوق.
كانت هيبته في ذلك الحين تنذر بالخطر، حتى أن أفراد عائلة الدوقية سارعوا بالابتعاد عنه.
طرق إيسدانتي الباب مراعاةً للأصول، لكنه فتحه دفعة واحدة قبل أن يأتيه أي رد. تياريس،
التي كانت منشغلة بمعالجة أمر عاجل، رفعت رأسها بفزع. وقبل أن تنبس ببنت شفة، بدأ إيسدانتي بالكلام:
“لدي ما أقوله.”
“ما الذي تريد قوله؟”
“نعم، لدي ما أقوله.”
سحب إيسدانتي كرسيًا وجلس أمامها. كان فرسانه قد اصطفوا بالفعل أمام المكتب. حاول فرسان الدوقية اعتراضهم،
لكنهم ترددوا وتراجعوا أمام تلك الهيبة المتأججة. حتى سيتشين، الذي وصل بعد سماع الخبر،
لم يكن بمقدوره فعل شيء. فقد اضطر هو وفرسان الدوقية إلى التراجع، عاجزين عن التحرك أمام فرسان إيستانتي،
الذين لم يسحبوا سيوفهم بالكامل حتى.
“لقد تم الزواج. رسميًا، أنا الآن زوج تياريس نافارانت، دوقة نافارانت.”
“نعم، أعلم ذلك…”
“ولهذا جئت لأطرح سؤالًا.”
“سؤال؟ ما الذي تنوي سؤالي عنه؟”
تفرّس إيسدانتي في عيني تياريس المرتجفتين، ثم نقر بأصابعه على سطح مكتبها. تكرار الصوت المنتظم جفف ريق تياريس.
‘ما الذي ينوي قوله…؟’
لماذا يأخذ كل هذا الوقت؟ هل كان يختار كلماته؟ أم يقيّم الموقف؟ لم تكن تعرف.
وبينما كانت تياريس على وشك الحديث، سبقها إيستانتي بالكلام:
“هل كنتِ على علم؟”
“على علم بماذا…؟”
“بأنكِ لست الوريثة الشرعية لدوقية نافارانت.”
“ماذا؟”
توقفت يد تياريس عن التوقيع على الوثائق، التي كانت تتعامل معها آليًا.
“ألم يثير فيكِ شيء عندما نظرتِ إلى وجهي؟”
“وجهك؟ ماذا به؟”
“لا بد أنك لاحظت الشبه الكبير بيني وبين أول دوق لنافارانت.”
“ما الذي تقوله!؟”
نهضت تياريس واقفة فجأة. لم تصدق ما تسمعه. كان أمرًا لا يمكن تصوره. لقد وُلدت كوريثة لدوقية نافارانت،
ولم تتخيل أبدًا حياة ليست فيها دوقة. صحيح أن لون شعرها وعينيها يختلفان عن بقية العائلة،
لكنه كان نفس لون شعر وعينَي والدتها. لم يكن جميع أفراد الدوقية يملكون شعرًا أحمر وعيونًا حمراء،
لذا لم تجد غرابة في اختلافها.
لم تشكّ ولو لمرة واحدة في هويتها. لم يخطر ببالها مطلقًا أن ما تملكه قد يكون زائفًا. كانت منذ ولادتها من دم العائلة،
ومنذ بدأت تميز الأشياء، كانت فردًا من هذه الدوقية. كل من خدمها قالوا لها ذلك، ووالداها ربّياها لتكون الوريثة.
“هذا مستحيل! أنا الوريثة الشرعية لدوقية نافارانت، وأنا دوقة هذا المكان!”
“ليس الأمر كذلك.”
“إيسدانتي!”
“قلتُ لكِ، الأمر ليس كذلك.”
نهض من مكانه. عيناه الحمراوان، الخاليتان من أي مشاعر، التقتا بعينيها الزرقاوين. وكلما اقترب منها خطوة،
تراجعت تياريس خطوة إلى الوراء، حتى وجدت نفسها ملتصقة بإطار النافذة، لا مجال لمزيد من التراجع. فتوقفت عن الحركة.
نظرت تياريس خلفها باضطراب. كان فرسان إيسدانتي قد ملأوا الساحة أسفل المكتب بالفعل.
لم تدرك حتى تلك اللحظة كيف تضاعف عددهم، وقد كان يُقال إنهم عشرون فقط. شعرت بالغباء لأنها لم تنتبه.
بأي ثقة سلّمت لهذا الرجل مكانه إلى جوارها؟
“بأي شيء كنت أؤمن؟”
آمنت بلحظة لطف عابرة. آمنت بتصرفا
ته. لم يكن ذلك فحسب. صدّقت صوته الناعم الذي همس به قرب أذنها.
وثقت بمن حماها من جيريمان. لكنها الآن… في هذا الوضع؟ بينما جسدها كله يرتجف، أمسك إيسدانتي بكتفيها، واقترب بفمه من أذنها وهمس:
“لستِ أنتِ، بل أنا.”
التعليقات لهذا الفصل " 20"