يــأمرونني بــــالزواج
– قبل أربع سنوات –
كانت إمبراطورية هيبيروس، التي نالت بركة حاكمة الجميلة، إمبراطورية أُسِّست على يد ثلاثة حكام سلّموا ثلاثة كنوز إلهية.
كانت تلك الكنوز الثلاثة تتوارثها العائلة الإمبراطورية وبيتا و دوقين.
وكانت عائلتا دوقان الكنوز الإلهية يخلصان في ولائهما للعائلة الإمبراطورية،
كما كانت العائلة الإمبراطورية تمد لهما يد العون في كل مرة يتعرض فيها أحد البيتين للخطر.
وهكذا، كانت إمبراطورية هيبيروس قائمة على أعمدة تلك العائلات الثلاث.
وكانت تيريس نابارانت، دوقة بيت نابارانت، أحد هذين البيتين، تُعرف بأنها أمل البيت المنهار ونوره،
وكانت امرأة تُثنى عليها بهذه الأوصاف. بذلت كل ما في وسعها لإعادة إنعاش بيت النبالة الذي دمره والدها،
الدوق السابق جيرميان، بسبب انغماسه في القمار والنساء.
وفي ذلك اليوم، وبينما كانت تيريس تقرأ كومة لا تنتهي من الوثائق في مكتبها، دون أن تنال قسطًا كافيًا من النوم،
وصلها خبر كالصاعقة.
ظهر فجأة ومن دون موعد مسبق والدها، الدوق السابق،
فأثار الفوضى في بيت نابارانت الذي كان يسوده الهدوء والسلام. بل، لم يكن هذا مجرد أمر يخص البيت فحسب،
بل كان مسألة في غاية الخطورة بالنسبة لتيريس، دوقة نابارانت نفسها.
“هل فهمتِ؟”
“أبي، لكن هذا…”
“ألم أقل لكِ إن هذا أمر من جلالة الإمبراطور؟!”
“حتى لو كان جلالة الإمبراطور، فلا يحق له أن يقرر زواج دوق كيفما يشاء! حتى وإن كان بطلًا في الحرب،
أليس من عامة الشعب ولا يحمل سوى لقب فارس شرفي؟ كيف يكون لواحدٍ كهذا أن يصبح زوج دوقة؟!”
صرخت تيريس وقد تملّكها الارتباك. كان زواجها ينبغي أن يُعقد بدقة وصرامة بين البيوت النبيلة.
ولتغطية عجز الميزانية الحاد في بيت النبالة، كان لا بد لها من الزواج بعائلة ثرية.
لم تكن ترفض الزواج من البطل الحربي لأنه من عامة الشعب، بل لأن وضع بيتها المالي كان يتطلب زواجًا من شخص غني.
كانت تدرس بهدوء العائلات التي عرضت أكبر قدر من المال، ولم تكن تتوقع حدوث أمر كهذا.
ولكن والدها، الدوق السابق جيرميان، وكأنه لا يرى في وجهها أثراً للذهول، وضع وثيقة من الإمبراطور على الطاولة وأعلن الأمر.
“تزوجي من الرجل الذي اختاره جلالة الإمبراطور.”
“أبي!”
“أتعلين صوتك أمامي؟”
رفع يده للأعلى لكنه أنزلها حين شعر بنظرات المستشار سيشين. كانت يد جيرميان ترتجف من شدة الغضب،
ووجهه قد احمرّ كالجمر. نظرت إليه تيريس بعينين مضطربتين،
ثم بلعت ريقها بصعوبة. سخر جيرميان عندما قرأ الخوف في عينيها.
“افعلي ما يأمركِ به جلالته.”
راقبت تيريس ظهر والدها وهو يغادر المكتب، بعينين يملؤهما الخذلان. كان الأمر يتكرر دائمًا:
والدها يطلب، وهي تنفذ. حتى عندما كانت مطالبه مفرطة، كانت تيريس تفي بها وكأنها بذلك تنال محبته.
وكأن نيل حبه مشروطٌ بطاعتها العمياء له.
“هل أنتِ بخير، سيدتي الدوقة؟”
وصلها صوت سيشين، مستشارها، وهو قلق، لكنها لم تتمكن من الرد. كانت رأسها تغلي بالأفكار.
لم تكن تدري كيف ستتغير مواقف العائلات التي كانت تربطها بها علاقات ودية بنيّة الزواج.
“ما هي الجهات التي يجب إبلاغها فورًا؟”
فهم سيشين سؤالها العشوائي على الفور.
“لدينا ماركيزية سيفينا. يجب علينا إعادة المعدات السحرية التي تلقينا دعمًا بها من هناك.”
“… ما هي حالة الميزانية الحالية؟”
“كان لدينا بعض الاحتياطي، لكن الدوق السابق أخذه مؤخرًا.”
“كم؟”
“حوالي مليوني لوك…”
“هذا المبلغ يكفي لتشغيل الإقليم لمدة نصف عام!”
“أعتذر، سيدتي. لم أستطع منعه.”
ضربت تيريس مكتبها بقوة، ثم انهارت جالسة في مكانها. أغمضت عينيها وهي على الكرسي،
وقد غمرها شعور باليأس.
“ما الفائدة من كسب المال إذا كان يتسرب كل مرة من مكان آخر؟”
لم تستطع إخفاء إحباطها بعد أن علمت أن الأموال التي جُمعت لإدارة الإقليم قد ذهبت إلى جيرميان.
منغمسًا في القمار، لا شك أن جيرميان قد بدد المال، ثم لجأ إلى طلب المزيد.
وها هي فاتورة جديدة على وشك أن تصل إلى بيت نابارانت.
“رأسي يؤلمني.”
“هل أجلب لكِ دواء؟”
رغم أنها كانت تحدث نفسها، فإن سيشين استطاع بطريقة ما أن يفهم ما قالته، فأعاد السؤال.
كانت تياريس تدلك ما بين حاجبيها وقد باغتها صداع مفاجئ، ثم أشارت بيدها إلى سيشين.
“أريد أن أبقى وحدي.”
“مفهوم، سيدتي الدوقة.”
وما إن خرج سيشين بحذر من المكتب، حتى خرج زفير طويل من فم تيريس.
لقد مرّت ثلاث سنوات منذ أن ورثت منصب الدوقة. وبسبب المشاكل المتكررة التي يفتعلها جيرميان،
كاد بيت الدوق أن يفقد آخر ما تبقّى من ثروته. لا، في الواقع، حين ورثته منها جيرميان،
لم يكن قد تبقّى فيه الكثير أصلًا.
«من كان ليصدق؟ بيت دوق يُعتبر أحد أعمدة إمبراطورية هيبيروس، ليس فيه مال.»
لقد كانت تياريس امرأة عاملة صنعت القليل من الثروة في ذلك الوضع. كلما سنحت فرصة استثمارية،
كانت تذهب بنفسها لتتفقدها وتزيد أموالها. وكلما زاد المال قليلًا، كان جيرميان بطريقة ما يعرف ويأخذه لنفسه،
ومع ذلك، كانت تصبر.
لم يكن في وسعها إيقاف والدها جيرميان، لكنها كانت تظن أن الزواج قد يغيّر الوضع. حين يأتي الرجل الذي سيكون زوج دوقة،
فإن سلطات جيرميان ستتقلص بشكل كبير. كان زواج تيريس بداية جديدة، وفرصة لإنقاذ بيت نابارانت.
ولكن أن تُهدر هذه الفرصة بهذه الطريقة…
“هاه…”
صحيح أن الإمبراطور سيبيرهان كان يمد يد العون حين يقع بيت الدوق في خطر، بدافع حماية استقرار الإمبراطورية،
لكنه لم يكن يومًا شخصًا ودودًا تجاه بيت نابارانت. كلما حاول البيت أن ينمو ويزدهر،
كان التدخل والمنع يأتي من القصر الإمبراطوري.
لقد كان سيبيرهان يشق طريقه في ساحات المعارك ويبني نفوذه، ولم يكن يعترف بدوقة مثل تيريس التي لا تفعل سوى تصفح الأوراق.
وكان في كل مرة تدخل فيها القصر، يُلقى على مسامعها نفس الكلام: «كيف لبيت دوق يملك كنزًا إلهيًا أن لا يشارك في الحرب؟»
كانوا يتهمونها بالتمتع بالحقوق دون أداء الواجبات.
ويقولون إنها لا تليق بأن تكون دوقة في بيت يُفترض به أن يكون أحد أعمدة الإمبراطورية.
حتى حين جمعت المال وسلمته لدعم الجيش الخارج للمعركة، كانوا ينتقدون قلّة المبلغ.
حين كان سيبيرهان وليًا للعهد، كان رفضه لها واضحًا، فما بالك الآن وقد أصبح إمبراطورًا؟
“لقد قرر إذلالي عمدًا.”
رنّت كلمات تايريس في أرجاء المكتب، وهي تتمتم بها لنفسها. قبضت يدها وارتجفت من الغضب، لكن لم يكن هناك من يسمعها. امتلأ صوتها بالمظلومية والحزن.
“حتى أنا… أردت سماع صوت الكنز الإلهي… أردت استخدام قوّته…”
منذ جلوسها على كرسي الدوق، ظهرت مشكلة. المشكلة كانت أنها لا تسمع صوت الكنز الإلهي المتوارث في بيتها.
الشخص الذي ورّثها المنصب، رغم علمه بهذا، كان والدها، جيرميان.
كان يمكنه أن يحتفظ بالكنز الإلهي لفترة أطول، لكنه تأكد أنه لم يعُد يسمع صوته، فتنحّى عن منصب الدوق.
لأن من لا يسمع صوت الكنز الإلهي، لا جدوى من بقاءه في المنصب.
جيرميان، الذي افترض أن ابنته تيريس قد بدأت بسماع صوت الكنز، سلمها المنصب دون تردد،
ثم بدأ في التنقل بين طاولات القمار.
أما تيريس، فلم تستطع أن تصارحه بأنها لا تسمع الصوت،
ومع ذلك بذلت كل ما في وسعها للقيام بواجبها كدوقة، وظلت صامدة. لكن لم يكن من السهل تحمل محاولات سيبيرهان المستمرة لحصارها.
من يمكنه أن يتحمل رفض إمبراطور يقود إمبراطورية كاملة؟
“زواج لا فائدة منه على الإطلاق!”
لم تستطع تيريس كبت غضبها، فصفعت المكتب بيدها. كانت تحدق في الوثيقة التي أُحضرت إليها تحت اسم “أمر إمبراطوري”
ثم أطلقت تنهيدة أخرى. لم تكن الوثيقة تختفي من أمام عينيها مهما نظرت إليها. لو أنها كانت تملك موهبة في السحر،
أو حتى لو كانت قد بدأت منذ الصغر في تعلم فنون السيف، لكان بمقدورها حمل سيفها والمشاركة في الحرب حين يُطلب منها ذلك.
«لو كنت أستطيع استخدام قوة الكنز الإلهي… هل كان الوضع سيتغير؟»
لم يسبق لها أن شعرت بالأسف لعدم امتلاكها قوة الكنز الإلهي. فقد كانت جميع إنجازاتها حتى الآن من صنع جهدها.
بدون الاعتماد على الكنز الإلهي، أصبح بيت نابارانت أكثر ازدهارًا من زمن الدوق السابق، وصار سكان الإقليم أكثر سعادة.
وكانت كل تلك النتائج ثمرة عملها منذ توليها منصب الدوق.
لأنها لم تستطع استخدام قوة الكنز، بذلت جهدًا مضاعفًا. قلّلت ساعات نومها، وصاغت سياسات تخدم سكان الإقليم،
وراقبت عن كثب الأموال التي تُجمع من الضرائب حتى لا تُهدر. ورغم محدودية الموارد،
استطاعت أن تُمكِّن الجيش من الحصول على بعض الدعم المالي. بالمقارنة مع الماضي، حين كان بيت الدوق يغرق في الديون، كان هذا إنجازًا عظيمًا.
وكأن الجهد الذي بذلته بدأ يؤتي ثماره، فقد بدأ بيت نابارانت في الازدهار. ومع ذلك، حدث هذا الأمر المفاجئ.
لو أن الإمبراطور سيبيرهان كلّمها مباشرة بشأن الزواج، لربما استطاعت أن ترفض. ولكن لأن الأمر الإمبراطوري جاء عبر الدوق السابق،
لم يكن في وسعها رفضه.
كانت متأكدة أن بينه وبين والدها صفقة من نوعٍ ما.
تيريس، وقد أدركت أنها لم تعد قادرة على الفرار، فتحت الوثيقة التي تحتوي على الأمر الإمبراطوري. قرأت بعيون مرتجفة الكلمات المكتوبة فيها، ببطء.
{ نأمر بزواج دوقة تيريس نابارانت من القائد العسكري إيسدانتي. }
التعليقات لهذا الفصل " 2"