أدخِلي الحكومة
جمعت تياريس جميع أفراد دوقية نافارانت، وأعلنت ضرورة الاستعجال في التحضير لزواجها من إيسدانتي.
كان كبير الخدم قد اقترح الانتظار حتى تعود المربية، لكن لم يستطع ثني عنادها.
“سمعتِ أن الدوقة ستتزوج؟”
“كانت تبحث عن زوج سابقاً، لذا ليس غريباً أن تتزوج، لكن الأمر جاء مفاجئاً جداً.
الشخص الذي ستتزوجه لم يكن حتى من ضمن المرشحين.”
“يقولون إن الأمر بأمر من جلالة الملك.”
“منذ متى ودوق نافارانت يسمع كلام الملك؟”
همس أحد الخدم قائلاً إن الدوق السابق، جيريميان، لم يكن كذلك، ثم رفع صوته:
“الدوق الحالي طريّ جداً.”
“شش! إن سمعك أحد، فسنقع في كارثة!”
“لكن ما قلته حقيقة، أليس كذلك؟”
“ومع ذلك، فليس من حقك قول هذا.”
ظهر إيسدانتي من الخلف. أحنَت الخادمات رؤوسهن بسرعة عند رؤيته، لكن الخادم الذي كان يتكلم بقي واقفاً رافعاً رأسه دون أن يتحرك من مكانه.
“إهانة نبلاء، وخاصة نبلاء من الطبقة العليا، جريمة تستوجب الإعدام الفوري.”
“ومتى أهنت فخامتكم؟”
لم تُستكمل كلمات الخادم، لأن إيسدانتي أخرج سيفه وبتره دون تردد. صرخت الخادمات ووضعن أيديهن على أفواههن من الذهول،
لكن عيني إيسدانتي الباردتين لم تتغيرا. ظل واقفاً في مكانه، وتكلم بصوت خفيض:
“إذا كان لدى أحدكم اعتراض على قرار الدوقة، فليتقدم الآن.”
لم يستطع أحد النظر مباشرة إلى عينيه اللامعتين. ارتجف الجميع كما لو كانوا أغصان شجر ترتعد في الريح.
لم يجرؤ أحد حتى على رفع نظره إليه. وصل فرسان دوقية نافارانت بعد أن سمعوا صراخ الخادمات،
ووقفوا أمام إيستانتي. فقال لهم:
“تخلصوا منه.”
“هل يمكننا أن نسأل عن السبب؟”
تجرأ أحد الفرسان على الكلام. ورغم أن تصرفه لم يكن شجاعة بل وقاحة، إلا أن إيستانتي قرر التغاضي عنه.
لم يكن هناك داعٍ لجعل الوضع السيئ يزداد سوءاً.
“هل من الضروري أن أشرح السبب؟”
“ليس من الضروري، لكن بدون شرح فلن تنالوا الثقة.”
كان لكلام الفارس وجاهة، لكن إيسدانتي لم يكن بحاجة إلى كسب ثقتهم. على أية حال، ما إن يتزوج تياريس،
فإن الوضع سيتغير بالكامل. نظر إيسدانتي إليه بصمت، فتقدم مساعده نيرفين، الذي كان واقفاً خلفه، وقال:
“قال إن قرارات الدوقة لا تُفهَم.”
رغم أن هذا ليس التعبير الدقيق لما قيل، إلا أنه كان قريباً منه. أومأ الفرسان برؤوسهم موافقين على كلام نيرفين.
أن يتحدث أحد موظفي الدوقية بتلك الطريقة، وهو يتقاضى راتبه منها، كان بمثابة سخرية من الدوقية نفسها.
وبعد أن أبدى الفرسان اتفاقهم مع القرار، تكلم إيسدانتي من جديد:
“تخلصوا منه.”
بدأ الفرسان بالتحرك. وبينما كان إيسدانتي يراقب تحركاتهم، أشار بيده:
“نيرفين.”
“نعم، سيدي القائد.”
“أجمع الفرسان جميعاً في ساحة التدريب.”
“حاضر.”
بمجرد أن صدرت الأوامر، انحنى نيرفين وانصرف فوراً. كان تصرفه مختلفاً تماماً عن تصرف فرسان الدوقية.
ولم يتكلم أي من الفرسان، بل نفذوا ما طُلب منهم بصمت.
“أنتم أيضاً إلى ساحة التدريب.”
“أجل!”
كان سلوكهم هذه المرة مختلفاً تماماً. وتبعت الخادمات الفرسان بخطوات متعجلة، وكأنهن خائفات من أن يوجه إليهن إيسدانتي الكلام. غادر الجميع،
وبقي إيسدانتي وحده في الممر. بدأ يسير ببطء نحو ساحة التدريب. وكان هناك من يراقب ظهره وهو يمشي.
“هل تقول إن هذا ما حدث؟”
“نعم، يا دوقتي. إنه شخص همجي. كيف لك أن تقترني بمثل هذا الشخص…!”
“كفى!”
كان سيتشين يفرغ جام غضبه بالكلام عن إيستانتي، لكنه سكت بإشارة من تياريس. اعتقد سيتشين أن تياريس ساذجة لا تعرف الجانب الوحشي لإيستانتي،
لذا حاول بكل وسيلة أن يُثنيها عن قرارها.
“الأمر الأهم الآن ليس هذا، بل نفقات إدارة الأراضي التي أخذها والدي.”
“آه، نعم…”
كلمات تياريس أعادت سيتشين إلى صوابه. لم يكن الوقت مناسباً للغيرة والانفعال. لم يكن لدى دوقية نافارانت ما يكفي من المال لتسيير أمور الإقليم.
ورغم أنه كان قد جُمع حدٌّ أدنى من التكاليف التشغيلية، إلا أن المال كان دوماً غير كافٍ. كان لا بد من صيانة أسلحة الفرسان، ودفع رواتب العاملين.
الولاء لا ينبع من الاحترام، بل من المال. وتياريس كانت تدرك هذه الحقيقة جيداً، لذا كانت تهتم اهتماماً كبيراً بالفرسان والخدم.
كانت تقلل من طعامها حتى لا تتأخر رواتبهم. ومع ذلك، بدا أنه حتى راتب الشهر القادم لن يُدفع في موعده.
“هاه…”
“لم يتبقَّ لدينا مال استثمرناه في القافلة التجارية، لذا لا دخل لدينا إلا من أرباح الأراضي.”
“لم يكن علينا سحب أموال القافلة. لو تركناها، لما وقعت بيد والدي.”
انحنى سيتشين رأسه لكلماتها المليئة بالندم. كانت تياريس هي من اتخذت القرار، لكن كونه لم يستطع تقديم حكم صائب،
بل وافقها، فإن المسؤولية تقع عليه كمساعدها. كان يعلم أنه قرار خطير، لكنه كان يأمل أن يكون لدى تياريس مال تحت يدها.
لأنه ظن أن ذلك سيمنعها من أن تكون أسيرة إيسدانتي.
“يا دوقتي…”
خارج مكتبها، سُمِع صوت يناديها. كان صوت كبير الخدم.
“ما الأمر؟”
“المربية قد عادت.”
“أين هي؟”
“هل أدخلها؟”
“نعم.”
بمجرد أن أذنت تياريس، فُتِح باب المكتب. لقد عادت هايليان، مربية تياريس، إلى قصر دوقية نافارانت بعد رحلة طويلة.
“مربيتي!”
ابتسمت تياريس ابتسامة مشرقة عند رؤية وجه هايليان. اقتربت الأخيرة على الفور منها، وبدأت تتفحص وجهها بدقة.
كانت تلمس وجنتها التي ما زالت متورمة قليلاً، وهمست قائلة:
“هل أنتِ بخير؟”
“لا شيء مهم.”
“هل كان الدوق الراحل هو من فعلها مجددًا؟!”
“قلت لكِ إنه لا شيء مهم.”
عندما أوضحت تياريس أنها لا تريد الحديث أكثر، تنهدت هايليان. لقد كانت على علم بالعنف المتكرر منذ وقت طويل،
لكنها لم يكن بوسعها سوى أن تغض الطرف عنه. راحت تفحص جسد تياريس مرة أخرى.
“لقد نحفتي… لم تتناولي طعامك مجددًا، أليس كذلك؟”
“لا، ليس كذلك.”
“لهذا السبب لا يمكنك الاستغناء عني.”
ابتسمت هايليان بلطف. وحين ابتسمت تياريس في المقابل، أرادت إنهاء الحديث بالترحيب بعودتها،
لكن هايليان بادرت بالكلام.
“سمعتُ أنك ستتزوجين.”
“آه… لقد صدر أمر إمبراطوري.”
“هذا أمر غير مقبول.”
“الشيء غير المقبول هو عصيان أمر الإمبراطور.”
“لا يجوز! لا يمكن السماح بامتزاج دمٍ واطٍ في هذه العائلة!”
“ما الذي تقولينه…؟”
ارتبكت تياريس بكلام هايليان، ولم تستطع أن تكمل جملتها. كانت المربية قد قامت بتربيتها بصرامة لتكون جديرة بلقب الدوقة،
لكن لم يسبق لها أن قالت صراحة إن الزواج من شخص وضيع أمر لا يجوز.
“لا أحد يمكنه معارضة أمر الإمبراطور.”
“لكن دوقية نافارانت، التي تملك الأثر المقدس، تختلف عن الآخرين. أنتِ تعرفين ذلك!”
“حتى لو امتلكت الأثر المقدس، تبقى دوقية نافارانت تابعة للإمبراطورية الهِيبيروسية.”
“لا! الوضع مختلف! هناك قوة في الأثر المقدس!”
“كفى، أرجوك!”
ارتجفت تياريس، بينما كانت هايليان تلتقط أنفاسها. كانت تعلم أن الحديث مع تياريس لن يحل شيئًا بسهولة،
لكن إن لم تحاول، فستنتهي الأمور بزواجها من رجل وُلِد في أزقة الحي الخلفي.
«كيف يمكن أن ينتهي الحال بالفتاة التي ربيتها هكذا؟!»
كان هذا شيئًا لا يمكنها قبوله. لقد بذلت كل ما في وسعها لتُعد تياريس لتكون جديرة بدوقية نافارانت.
لا يمكن أن تدع كل تلك الجهود تنهار بسبب أمر إمبراطوري. بهت بريق عيني هايليان الزرقاوين،
ثم نظرت مباشرة إلى تياريس وتكلمت:
“خذي لكِ عشيقًا.”
“ماذا؟”
“أقول لكِ، خذي لكِ عشيقًا. عيشي كزوجة صورية لذلك القائد أو أياً كان، لكن أدخلي رجلًا مناسبًا إلى حياتك.”
“مربية! كيف تقولين مثل هذا الكلام؟!”
“لأن هذا يصبّ في مصلحتك، يا دوقتي.”
أصبحت نبرة هايليان باردة. رغم أنها مجرد مربية، فإنها كانت من ربتها منذ الصغر. كانت قد اعتنت بها بدلًا من أمها المريضة،
وواصلت رعايتها بعد وفاة الأم، كما لو كانت أمها الحقيقية. لذا، فإن تياريس شعرت بصدمة من كلامها القاسي،
وكأنها لا تفهم ظروفها. خفتت الإشراقة من وجه تياريس. فهكذا كان دائمًا حال من في دوقية نافارانت.
كانوا جميعًا يضعون مصالح الدوقية قبلها. وعندما كانت تياريس على وشك أن تنفجر بالكلام، إذ بشخص ما يتدخل:
“يبدو أن في هذا المكان لا يوجد إلا من يتقيأون الهراء.”
كان إيسدانتي واقفًا عند مدخل المكتب، متكئًا على الباب، وذراعيه متشابكتين.
“مرة أخرى، يبدو أن أحدهم نسي أن يغلق الباب جيدًا.”
تقدم بخطوات واسعة نحو هايليان. وما إن التفتت المربية إلى مصدر الصوت ورأته، حتى تجمدت في مكانها وسقطت على الأرض.
أشارت إليه بأصبع مرتجف، وقد فارقتها القوة من قدميها.
“أ… أنت!”
اهتز صوت هايليان، وارتعش إصبعها أيضًا. وما إن وقعت عيناها عل
ى إيسدانتي، حتى تلاشى اللون من وجهها وأصبح شاحبًا كليا. أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما،
لكن إيسدانتي لم يكن قد اختفى. كانت رؤيتها لعينَيه الحمراوَين وشعره الأحمر كافية لتجعلها تصرخ:
“آآآآااه!”
“مربية!”
صرخة تياريس دوّت في أرجاء المكتب.
التعليقات لهذا الفصل " 19"