مؤسف أن تُخدع، ولــــكن…
اتسعت عينا إيسدانتي بدهشة. فهزّت تياريس رأسها نحوه تأكيدًا. شعرها الأشقر بلون العسل كان يتموج مع كل حركة منها،
ينعكس بريقه من ضوء الشموع فيتغير لونه في كل لحظة. كانت تياريس تدرك نظرات إيسدانتي التي تفحصتها بدقة،
لكنها تجاهلت ذلك وهمست كأنها لا تعلم.
“لنعقد الزواج مبكرًا.”
“لم يمضِ وقت طويل منذ طلبتِ أن نؤجله ستة أشهر.”
“الوضع تغيّر.”
“ما الذي تغيّر؟”
“هناك شيء.”
تابعت تياريس حديثها بهدوء:
“والدي بدأ يفكر في أشياء لا طائل منها.”
“تعنين الدوق السابق؟”
“نعم.”
تركت تياريس لإيسدانتي هامشًا من التفكير.
“فكّر جيدًا حتى صباح الغد.”
“مفهوم.”
نهض من مقعده، فأشارت تياريس بيدها إشارة خفيفة وكأنها تخبره ألا يتكلف في إظهار الاحترام.
وقد فهم إيسدانتي الإشارة فخرج دون تردد. نظرت تياريس إلى ظهره وهو يبتعد، وما إن خرج تمامًا حتى تمتمت:
“الآن أدرك، هو دائمًا من يغادر أولًا.”
في صباح اليوم التالي، توجه إيسدانتي إلى مساعده نيرفين. وبينما كان الأخير يتجول بحثًا عنه،
لمح إيسدانتي ظله ولوّح له. فاقترب نيرفين وانحنى. اقترب منه إيسدانتي وهمس عند أذنه:
“سمعت أن بيت دوقية نابارانت سيسحب استثماراته. هل تعرف شيئًا عن هذا؟”
“أسمع بذلك لأول مرة.”
“سرب هذا الخبر للدوق السابق، بشكل غير مباشر.”
“إن حدث ذلك، فلن يبقى للبيت حتى ميزانية تشغيل. وسيتوجب علينا تغطيتها.”
“هل تظن أنني لا أملك هذا القدر من المال؟”
“بل تملكه وأكثر، لكن لماذا تنفق كل هذا على هذه الدوقية؟”
لم يستطع نيرفين أن يفهم تصرفات إيسدانتي. لم يكن بحاجة إلى بيت نابارانت ليُثبت مكانته.
بإمكانه تحقيق ذلك بنفسه بما يملكه من كفاءة وإنجازات. ولكن بيت الدوقية هذا لم يكن له أي فائدة تُذكر.
فبيوت الدوقية التي تحكمها قوى الآلهة لا يمكن لمن لا يحمل دمها أن يرثها. لو أنه استثمر هذه القوة في بيت آخر،
لكان أفضل بكثير.
“هل يجب أن أشرح لك أنا هذا؟”
وجهه الحاد اتجه نحو نيرفين، فالتزم الأخير الصمت فورًا. ولما رأى إيسدانتي ارتباكه، شدد عليه:
“لا تنسَ إيصال الأمر للدوق السابق.”
“مفهوم.”
كان إيسدانتي ينوي استغلال الدوق السابق جيرمان لأقصى حد ممكن.
خطته كانت أن يجعل بيت نابارانت يصل إلى نقطة لا يمكن فيها التعافي من دون دعمه.
كانت نظراته قاتمة وهو يسير في ممرات بيت الدوقية.
كان قلبه مضطربًا.
(هل السبب أنه رأى بنفسه كيف يعامل جيرمان ابنته؟)
ربما لم يكتفِ بالرؤية، بل سمع تفاهاته بأذنه أيضًا. شدّ إيسدانتي من عزيمته، رافضًا أن يضعف.
كان لديه سبب وجيه. عليه أن يسلب تياريس كل سندٍ لها.
(إن امتلكت المال، ستشعر بالأمان.)
إذا ما حصلت على المال، ربما ستتغير نبرتها التي طلبت بها تقديم موعد الزواج.
لكن إيسدانتي لم يكن يرغب في إعطائها تلك المساحة. يجب ألا تجد أحدًا تعتمد عليه غيره.
هذه كانت طريقته في امتلاك الناس. أن يُمسك بأنفاسهم دون أن يترك لهم متنفسًا.
نظر إلى الخدم من الخادمات والعبيد في بيت الدوقية وهم ينجزون أعمالهم. كانوا مشغولين جدًا حتى أنهم لم يلقوا عليه نظرة،
وكأنهم لا يرونه. ربما كان ذلك من شعورهم بالفخر بانتمائهم للدوقية. يرمقونه من طرف أعينهم لكن دون أن يُلقوا عليه التحية.
لم يكن هذا تصرفًا لائقًا تجاه قائد جيوش الإمبراطورية، لكنهم كانوا متجمدين في كبريائهم.
(لو أن الفرسان كانوا هنا، لكان الوضع مختلفًا.)
ابتسم إيسدانتي بسخرية. في النهاية، هم أيضًا خاضعون للسلطة، وإذا ما استولى هو على هذه الدوقية،
فالوضع سيتغير لا محالة.
من دون أن يقول شيئًا، واصل طريقه نحو المبنى المنفصل حيث كان فرسانه ينتظرونه. لم يعترضه أحد.
وما إن ظهر هناك، حتى استقبله أحدهم:
“وصلت جد، سيدي القائد.”
“هالبات.”
كان هالبات أكثر أتباعه ولاءً، الرجل الذي كان على استعداد للموت لأجل أمرٍ منه. وكان أيضًا أكثر من يثق به.
كان هالبات سابقًا مجرد مرتزق، لكن إيسدانتي أنقذه. دفع عنه مالًا كبيرًا وعلمه فنون السيف. ومنذ ذلك الحين،
كان ولاؤه أعمى له. وضع إيسدانتي يده على كتف هالبات بدلًا من الرد.
“قالت الدوقة إنها تريد تقديم موعد الزواج.”
“الزواج؟ بشكل مبكر؟”
“نعم.”
“هذا يعني أن موعد انضمامنا الرسمي كفرسان للدوقية قد اقترب أيضًا، أليس كذلك؟”
“أنتم بالفعل فرسان الإمبراطورية الفخورون.”
رنّ صوت إيسدانتي العميق في أرجاء المبنى. فأومأ الفرسان المجتمعون برؤوسهم. فمنذ أن تبعوه،
لم يُخيبهم ولو لمرة واحدة. تأكد إيسدانتي من نظراتهم التي ملأها الإخلاص، فقبض على يده بقوة.
“لم يبقَ الكثير.”
“هل ستخبرنا الآن بما تنوي فعله؟”
“قريبًا.”
“لم أكن متشوقًا، لكن بما أنك ستُخبرنا، فسأستمع.”
ابتسم إيسدانتي بخفة عند كلام هالبات. لهذا السبب كان يثق به. لأنه لا يشكك في قراراته مهما فعل.
“أنتم أيضًا، سيتغير حالكم.”
“طالما أنك ستصبح زوج الدوقة، فهذا طبيعي.”
ابتسم إيسدانتي دون أن يُعلق. بعض الفرسان بدت عليهم الحيرة من غموضه، لكن أغلبهم اكتفوا باتباعه دون سؤال.
وهذا ما جعلهم قادرين على النجاة حتى الآن. إنه إيسدانتي، من أنهى حربًا دموية بين الإمبراطوريات بقوة تدبيره.
لولا قطعه لإمدادات إمبراطورية إيرتيمون بنفسه، لكانوا جميعًا قد هلكوا.
“وإن أنجبتِ طفلًا أيضًا، فسيكون الأمر أفضل بكثير!”
“أفضل، هه.”
“ألن يكون أمرًا رائعًا إن أصبح ذلك الطفل هو الدوق القادم؟!”
انطلقت ضحكات مكبوتة هنا وهناك. رمق إيسدانتي فرسانه الذين يتبادلون الأحاديث السوقية بنظرات حادة،
واحدًا تلو الآخر. وما إن التقت أعينهم بعينيه القاسية حتى صمت الجميع على الفور.
“ألا تذكرون من قُتل قبل مدة؟”
“سـ، سنُصلح سلوكنا!”
“كم من شخصٍ عليّ أن أقتل بعد حتى تستفيقوا؟”
“لا داعي لذلك!”
صرخ الفرسان دفعة واحدة. كان إيسدانتي يحدق ببعضهم بنظرات مسننة، أولئك الذين لم يتخلوا عن طباعهم القديمة منذ أيامهم كمرتزقة.
وقتها لم يكن الأمر مهمًا، لكنهم الآن فرسانٌ رسميون للإمبراطورية، وأتباعه المباشرون. عيوبهم صارت تلصق به وتسيء إلى سمعته شخصيًّا.
كانت هناك بالفعل ما يكفي من الترهات تصدر عن خدم تياريس، وهم أناس سيُطردون عاجلًا أو آجلًا على أي حال.
“إن كنتم لا تزالون تتصرفون كما كنتم في الأزقة الخلفية، فسأعيدكم إلى هناك.”
كان هذا آخر تحذير من إيسدانتي. وقد فهم الفرسان مغزاه،
فانحنوا برؤوسهم تواضعًا. كان على علمٍ بأن بعضهم أحيانًا يتعرضن لخادمات بيت الدوقية بالمضايقات، لكنه لم يُطِل الحديث.
“لا تتسببوا لي بالمزيد من الإزعاج. كما قلت من قبل، أنتم فرسان الإمبراطورية.”
“سنضع ذلك نصب أعيننا!”
هتف فرسانه بصوتٍ واحد. وبعد أن ألقى نظرة باردة عليهم، غادر المبنى المنفصل.
(التحذير كان كافيًا الآن.)
الخطوة التالية كانت مراقبة أوضاع تياريس. منذ دخوله إلى بيت الدوقية، صارت أيام إيسدانتي تمر على جدولٍ واحد لا يتغير.
كان يزورها يوميًا، بحجة التقرب منها، لكن من دون أي نتيجة تُذكر. بات يملّ من هذا الروتين المتكرر.
(لو كان الأمر ساحة معركة، لكان انتهى بمجزرة واحدة.)
المكانة تغيّر الإنسان. فمنذ أن جلس على كرسي القائد، لم يعد من الممكن قتل الناس متى شاء.
لا، تحديدًا منذ أن دخل بيت دوقية نابارانت، أصبح لا يستطيع التركيز بسبب الأصوات التي تناديه.
لم يكن ينام جيدًا بسبب الهلاوس التي يسمعها من حين إلى آخر. في ساحة المعركة كان من المعتاد ألا ينام،
لكنه لم يتوقع أن تمتد هذه الحال إلى هذا المكان أيضًا.
(كيف يحتملون هذا؟)
لم يفهم إيسدانتي ذلك. يُقال إن الدوقيات التي تمتلك قوى “الآلهة” نالت بركة مثلها مثل العائلة الإمبراطورية.
(كلام فارغ.)
إيسدانتي، الذي وصل إلى هذه المكانة بجهده وحده، لم يفهم لماذا يتشبث البشر بقوة “الآلهة”.
كان يظن أن فقط الضعفاء من يسعون إليها. لذا لم يفهم دوقية تعتمد على “قوة مقدسة” وتقدّسها،
لا مكانة الشخص نفسه. لم يكن الاحترام موجهًا لتياريس بصفتها الدوقة، بل لتلك القوة الإلهية التي تمتلكها.
فماذا عن الدوقيات التي لا تمتلك تلك القوى؟ لم يطرح السؤال، لأنه لم يكن يهمه ذلك حقًا.
“أن تطلب تقديم موعد الزواج، وهي لا تعرف حتى من أكون.”
مؤسف أن تُخدع، لكن هذا كل شيء. لم يهتم إيسدانتي. البقاء للأق
وى في عالم مليء بالخداع،
وكان هو أحد الناجين فيه.
عينا تياريس الزرقاوان، الممتلئتان بالكآبة والاستسلام، مرتا في ذهنه لوهلة. نظرات حزينة،
لم تكن موجّهة إليه، بل إلى جيرمان.لكن إيسدانتي سرعان ما محا تلك الصورة من رأسه.
التعليقات لهذا الفصل " 17"