الوضيع
لكن إسدانتي لم يبقَ ساكنًا.أمسك يد جيريمان، وعلى عكس ما فعله سابقًا، لم يتركها على الفور.
حاول جيريمان أن يفلت يده مستخدمًا القوة، لكن لم يكن ذلك سهلًا.
ظل إسدانتي ممسكًا بيده حتى شعرت أصابع جيريمان بالخدر، ومع أن وجه جيريمان احمرّ غضبًا، لم تهتز نظرة إسدانتي على الإطلاق.
“إسدانتي!”
عند صرخة تياريس، فقط عندها، أرخى قبضته.تحرر جيريمان بصعوبة من يده، ثم استدار نحو تياريس وبدأ بالكلام.
“هل ستبقين هذا الوقح إلى جوارك؟”
“أبي، أرجوك!”
صرخت تياريس وهي ترمق إسدانتي بنظرة إشارة.
ولما فهم إسدانتي مقصدها، أمر الخدم بالتراجع، وغادر بدوره المكان المحاط بأشجار السرو، حيث كانت الطاولة.
لكنه لم يبتعد كثيرًا، بل وقف خلف شجرة قريبة.
وكان المكان محاطًا بأشجار الحديقة مثل جدار، لذلك لم تكن تياريس تعلم أنه لا يزال قريبًا.
عندها توجهت إلى جيريمان وسألته:
“ما سبب مجيئك؟”
“هممم.”
ولما سعل جيريمان تلك السعلة المترددة،
عرفت تياريس فورًا:
جئتَ تطلب المال، أليس كذلك؟
لكن لحسن الحظ، لم يكن قد تبقّى أي مال في دوقية نابارانتي.
فقررت ألا تبادر بالكلام، بل تنتظر جيريمان ليتحدث.ولما رمقته بثبات، بدأ هو أولًا:
“لا أستطيع أن أسمح لدم هذا القائد أن يختلط بدماء دوقية نابارانتي.”
“ماذا… ماذا تعني؟”
“لا يمكن أن نختار ابنًا من دم وضيع كهذا ليكون وريثًا للدوقية.”
“أبي!”
نادت تياريس، وقد ساد الذهول وجهها، لكنه لم يعرها اهتمامًا وتابع كلامه ببرود:
“سأبحث عن شخص بالسر.”
“من؟”
“لو ضمنتُ منصب وريث نابارانتي، سيتهافت نبلاء كثيرون من مختلف الأسر.”
“أبي!”
“ألن يكون ذلك أفضل لكِ؟ إن اختلطتِ بجسد وضيع، ستغدين وضِيعة أنتِ أيضًا.”
هزّت كلمات جيريميان كيان تياريس، فترنحت وهي تمسك بأطراف الطاولة، تتنفس بصعوبة.
لكنه لم يُعرها اهتمامًا.
“تذكّري كلامي جيدًا.”
“أبي، لا يمكنني فعل ذلك.”
أجابت تياريس بحزم.زواجها كان إجباريًا، والآن يُطلب منها أن تتخذ رجلًا آخر لينجب لها؟
بالنسبة لها، هذا يشبه أن يطلب منها اتخاذ عشيق.
هل المشكلة أنني فعلت دائمًا ما يطلبه أبي؟
كانت تذكر كيف كان جيريمان في صغرها، رجلًا عطوفًا، ينظر إليها بحب.أما الآن، فقد تلاشت تلك النظرات.
حلّ مكانها نظرة مشوشة، وكلمات مضطربة.هل يمكن أن يتغير الإنسان هكذا؟
أمام اعتراضها،
رفع جيريمان يده من جديد.فأغلقت تياريس عينيها بإحكام، ثم دوّى صوت صفعة في أرجاء الحديقة.
أمسكت خدها المحمرّ، لكن نظرتها لم تفقد بريقها.
ارتعش كتف جيريمان حين رأى نظرة التحدي في عينيها.لكنها لم تنطق بكلمة.
“لقد أصبحتِ مثله، يبدو أن مخالطتك له أفسدتِك.”
“هذا غير صحيح. أنت مَن قررت أن يكون إلى جانبي، أبي!فلماذا الآن تقول كلامًا آخر؟”
“قلت ذلك قبل أن أعرف أنه من عامة الشعب!”
“ومن الذي أخبرك بذلك؟”
سؤالها حمل غضبًا مكبوتًا. لكن جيريميان لم يُجب.
هل يمكن أن يكون… شيشين؟
إن لم يكن شيشين، فلا أحد يمكنه إخبار جيريمان بهذا.
فمن المستحيل أن يكون أحد رجال إسدانتي هو من كشف الأمر.
فعضّت تياريس شفتها.
“إن كنتِ دوقة، فتصرفي كدوقة. من الأفضل لكِ أن تتبعي كلامي.”
قال ذلك، ثم ركل الطاولة وغادر المكان دون أن ينتظر ردها.ولم يلاحظ وجود إسدانتي خلف الشجرة.
وما إن غادر، حتى انهارت تياريس على الأرض، تغطي وجهها بكفيها.
“إلى أي حدٍّ تنوي إذلالي أكثر…؟”
خرجت الكلمات منها همسًا.
كان زواجها بدون حب كافيًا لأن يجعلها حزينة، لكنها قبلت به.فقد كانت دوقة نابارانتي.
وزواجها كان مخططًا منذ البداية.
صحيح أن الإمبراطور سيبيراهن هو من اختار الزوج، لكن على الأقل كان لها عذر:
أمر إمبراطوري لا يُرد.
لكن الآن، أن يُطلب منها أن تتخذ عشيقًا بعد الزواج؟وأن يُؤخذ وريث الدوقية من غير زوجها؟
أي جنون هذا؟
إن كان يعتبرني ابنته حقًا، فكيف يمكنه أن يقول هذا؟ازدادت أفكارها عمقًا.
لم تعد قادرة على البكاء.
كل ما فعلته ديون جيريمان وعنفه هو أن جعل قلبها يتصلّب.
لكنها لم تكن تتوقع أن تشعر بهذا الألم.
كانت تظن أنه لم يعد هناك مَن يمكنه إيذاؤها، لكنها أخطأت.
“هذا… صعب حقًا.”
همست بكلمات لم تستطع حبسها.
ولم تكن تعلم أن إسدانتي، الواقف خلف الشجرة، سمعها كلها.
في وقت متأخر من تلك الليلة،
توجه إسدانتي إلى غرفة تياريس وطرق الباب بهدوء.
لم يكن يرغب بإزعاج راحتها، لكنه كان بحاجة لأن يقول شيئًا.
“ادخل.”
ظهرت تياريس أمامه برداء نوم خفيف، وقد ارتدت فوقه عباءة منزلية.رغم أن مظهرها لم يكن يليق بدوقة، إلا أنها لم تُبدِ أي اكتراث.
هل تعتبرني شخصًا قريبًا منها؟ أم أنها ببساطة اعتادت أن تكون هكذا؟
جالت عينا إسدانتي على تفاصيل تياريس،
لكنها، وقد كانت تحتسي النبيذ، لم تلاحظ نظراته.
ظلت تحدّق في كأسها وسألته دون أن ترفع عينيها:
“ما الأمر؟”
“أتيت لأحدثكِ في أمر، يا دوقتي.”
“هل كان لابدّ من زيارتي في هذا الوقت المتأخر؟”
“نعم.”
تقدّم إسدانتي نحوها.فأشارت له، وهي تحتسي كأسها، بالجلوس:
“اجلس.”
“إذًا، لن أرفض كرمك.”
وما إن جلس، حتى نهضت تياريس وسحبت كأسًا آخر،ثم وضعته أمامه وسألته:
“لماذا أتيت؟”
“لن يكون هناك مزيد من قلة الاحترام تجاهكِ من قِبل فرسان الفيلق.”
“من الطبيعي أن لا يكون.”
“كنتِ تعرفين مسبقًا؟”
“لقد قتلتَ ثلاثة أشخاص، فمن ذا الذي يجرؤ على مواجهتي بعد الآن؟لكن الأمر ليس احترامًا لي، بل خوفًا منك.”
وفي خضم حديثها الهادئ، أمسك إسدانتي بزجاجة النبيذ وبدأ يملأ كأسه.
وانتشر في الغرفة صوت سكب النبيذ في الكأس، ليكسر الصمت الساكن.
أما تياريس، فلم تُعر ذلك اهتمامًا، وشربت رشفة أخرى.
“أنت شخص قاسٍ.”
“لا أنكر ذلك.”
“لكن يبدو أنك تفرّق بوضوح بين العمل والعاطفة، لذا لا بأس.”
“ولا أنكر ذلك أيضًا.”
عند هذه الكلمات، انتقلت نظرات تياريس من كأسها إلى عينيه مباشرة.وجهها المحمرّ دلّ على كمية النبيذ التي شربتها.
وابتسامتها الخفيفة التي ارتسمت على شفتيها كانت فاتنة بحق.
وحين رآها إسدانتي تبتسم هكذا، شعر وكأن أنفاسه انحبست.
لقد جاء إليها هذا المساء متذرعًا باعتذار عن تصرفات الفيلق،لكنه في الحقيقة أراد اختبارها.
ظل حديثها مع جيريمان يرنّ في أذنه، ولم يستطع النوم بسببه.
لم يستطع أن يطرد من رأسه صوتها الحزين.
كان أقوى من الصوت الذي يناديه أحيانًا، ذلك الصوت الآخر.
حتى أنه نسيه تمامًا في تلك اللحظة.
هكذا بدت له نبرة تياريس، ذات قوة تجذبه وتحكمه.
لكن بقاؤه داخل غرفته جعله يشعر بالضيق، فخرج للقائها.لو كنت أعلم أنها على هذه الحال، لما أتيت.
رغم وجوده أمامها، بدت تياريس وكأنها نسيته تمامًا،فقد كانت تحتسي النبيذ كما لو أنه ماء، كأسًا بعد كأس.
ولمّا أرادت أن تصب كأسًا جديدًا، مدّ إسدانتي يده ليمنعها.
فتوقفت تياريس، ثم نظرت إليه ببطء:
“لماذا؟”
“لقد شربتِ كثيرًا، يا دوقتي.”
“ليس من شأنك.”
“بل هو شأني… لأننا سنصبح زوجين.”
“زواج؟ أي زواج.”
ضحكت تياريس بسخرية،
فتقلصت ملامح إسدانتي، وانعقد حاجباه.
لم يستطع أن يمنع عينيه من التحديق، فرفعت تياريس إصبعها وأشارت إليه:
“أوه، أنت غاضب، أليس كذلك؟”
كانت تضحك بلا مبالاة، لكنه لم يستطع إنكار ذلك.نعم، كان غاضبًا.ولم يُدرك مشاعره إلا حين نبهته.
ولكن… من ماذا؟
هل كان غاضبًا من جير
يمان الذي أساء إليها؟
أم من تياريس التي تتحدث عن زواجهما وكأنه لا يعني شيئًا؟
وبينما ظلّ إسدانتي صامتًا، كانت تياريس تحدّق فيه،ثم شبكت يديها تحت ذقنها وقالت، بعينين نصف مغلقتين:
“أنت تكرهني، أليس كذلك؟”
وسقط قلب إسدانتي دفعة واحدة…
التعليقات لهذا الفصل " 15"