إن فكرت بشيء آخر… ستموت
رنين صوت إيستانتي البارد دوّى في أرجاء المكتب.تجمّدت ملامح شيشين، لكن إسدانتي لم يُعره أي اهتمام.
ففي النهاية، لم يكن سوى مساعد بسيط، لا من أقارب تياريس ولا من عائلتها.ولذلك، لم يكن من حقه أن يخاطب إسدانتي بتلك الطريقة.
إسدانتي، الذي كان يدرك هذا جيدًا، لم يكن ليتغاضى عن خطأه.
“وماذا تعتقد أنك ستكسب إن اعترضت على أمر الإمبراطور؟”
“إسدانتي.”
نادت تياريس، لكنه لم يلتفت نحوها.
منذ البداية، لم يكن إيستانتي يطيق شيشين، ذاك الذي لا يعرف مكانه.
ما فعله حين مدّ يده إلى تياريس أثناء مرافقتها، كما تُفعل مع سيدات الطبقة الأرستقراطية، كان مزعجًا.
ونظراته المستهجنة في كل مرة كان إسدانتي يتحدث، لم تكن أقل إزعاجًا.
لم يفهم إسدانتي تمامًا لماذا كان ينزعج بهذا الشكل، لكنه قرّر أن يعتبرها غريزة دفاعية تجاه شخص عديم الكفاءة يتطلع إلى موقعه.
ونظرته الباردة الحادة استقرّت على شيشين.
رغم أن شيشين ارتعد قليلًا أمام الهالة التي انبعثت من إسدانتي، إلا أنه لم يتراجع.
حقير نشأ في الأزقة الخلفية، ليس إلا!
حتى إن حقق بطولات في الحرب، فإن أصله الدنيء لن يتغير.على الأقل، هذا ما كان شيشين يؤمن به.
صحيح أنه أُصيب بخيبة لأن تياريس لا تشاركه الرأي، لكنه اعتقد أن كشف حقيقة أصل إسدانتي سيمنع حتى الإمبراطور من دعمه.
وفكّر أنه إن استطاع مغادرة هذا الموقف الآن، فسوف ينشر الأمر بين النبلاء:
“إسدانتي دمُه وضيع، ويريد الاستيلاء على إحدى دوقيتي إمبراطورية هيبيروس.”
حتى لو لم يكن ذلك لصالح تياريس، فقد عزم على كشفه.
لاحظ إسدانتي شرارة العزم المشتعلة في عيني شيشين، فاقترب منه بابتسامة خفيفة.
وما إن انبعثت منه هالته العنيفة، حتى لم يستطع شيشين،
الذي كان يتمسّك بكبريائه، الصمود أكثر، فتراجع خطوة، ثم جلس أرضًا بشكل مذل.
“أتعتقد أن نبيلًا بسيطًا يستطيع معارضة إرادة جلالته؟”
“أنا لست نبيلًا بسيطًا! أنا تابع لدوقية تحمل دماء المباركين!”
صدى صوته الفارغ تردّد في المكتب أما تياريس، فلم تعرف كيف تتصرّف.
إن وقفت مع شيشين، ستُحرج إسدانتي.
وإن وقفت مع إسدانتي، ستخسر ثقة خادمٍ مخلص.
لذا، قرّرت أن تصمت.
رمق إسدانتي تياريس بطرف عينه، وحين لاحظ أنها تراجعت خطوة وتخلّت عن التدخل، التفت مجددًا نحو شيشين وقال:
“لكنك لست من آل نابارانتي، أليس كذلك؟ أنت مجرد مساعد بسيط.”
“أنا… أنا…”
نظر شيشين من موقعه إلى تياريس برجاء، لكنها أشاحت بنظرها عنه، عاجزة عن مواجهة عينَيه المليئتين بالخذلان.
فحتى دوقية مباركة مثل نابارانتي لا يمكنها تجاهل أمر إمبراطوري، خصوصًا إن اقترن بالمال.
وعندما أشاحت بوجهها، أغلق شيشين عينيه بإحكام ثم فتحهما.
هل هذا هو ثمن ولائي؟ مجرد لا شيء؟
وحين فتح عينيه مجددًا، كان فيهما بريق قاتم مليء بالحقد.
لاحظ إسدانتي ذلك، فمدّ يده نحو شيشين.
ظنّ شيشين أنها بادرة اعتذار، فأمسك بها ونهض واقفًا.
لكن إسدانتي، وهو يرفق مساعدته لهمسة خافتة لا تسمعها تياريس، قال:
“إن فكرتَ بشيء آخر… ستموت.”
ثم نفض الغبار عن ملابس شيشين بخفة، وطرق بخفة بإصبعه على وجنته الشاحبة.
ابتسم إسدانتي وقال:
“ابقَ فقط خادمًا مخلصًا للدوقة.”
“… سأضع ذلك في الحسبان.”
رغم تغير ملامح شيشين، اكتفى إسدانتي بالابتسام.
لقد حذّره، ولن تكون هناك فرصة ثانية.
وإن تجرأ على تكرار الأمر، فلن يتردد في قطع رأسه.
انحنى شيشين أمام تياريس وخرج من المكتب.وما إن تلاشى صدى خطواته، حتى أغلق إسدانتي باب المكتب بإحكام، ليمنع أي أحد من الدخول.
“تملكين خادمًا ممتعًا، على ما يبدو.”
“العثور على مَن يخلص لدوقية نابارانتي لم يعد سهلًا. شيشين، على الأقل، يمكن الوثوق به.”
“ولِم؟ ألا يوجد أحد في الدوقية؟”
“لأننا لا نملك مالًا.”
أجابت تياريس بمرارة، وكأنها تشكو همّها.
لم تحاول تجميل الحقيقة، ولم تجد فائدة من الكذب.
فقد كانت تعرف أن إسدانتي على دراية كاملة بالوضع.
كيف تمكّنت من قول ذلك بصفتها الدوقة دون اعتبار للهيبة؟
ربما بسبب تلك الهالة التي تحيط به.
كان إسدانتي قوة غريبة.حين تكون بقربه، تشعر بأنه سيحميها مهما حدث، وتشعر برغبة في اتباعه.
لكن تياريس كانت ترفض تصديق ذلك، وتنسبه إلى مشاعر مؤقتة سببها أنقاذه لها من الديون.
“لكن على الأقل، تمكّنا من إخماد أسوأ حريق، أليس كذلك؟”
“أوقفنا سندات الدين الملكية، نعم. لكن…”
“هل هناك ما يُقلقك؟”
“والدي لم يعد بعد. طالما هو غائب، فالدوقية ستغرق في ديون جديدة.”
“هكذا إذًا.”
رغم صدق تياريس، لم يبدُ إسدانتي متفاجئًا.
لكن حين جاء الحديث عن جيريمان، بدا أن مزاجه تغيّر.
رغم ثبات ملامحه، تغيّرت الهالة المحيطة به.
فتساءلت تياريس:
“هل تناولتَ الغداء؟”
“أكلتُ شيئًا خفيفًا…”
“إذن، لِنتمشَّ قليلًا.”
“… إن كان هذا ما ترغبين به، يا دوقتي.”
رغم أن تياريس لم تكن قد تناولت الغداء بعد، فإنها لم تستطع تحمّل الصمت الخانق، فنطقت بعرضٍ للخروج في نزهة.
وحين مدّ إسدانتي يده نحوها، وضعت يدها فوق يده.
كان بستان دوقية نابارانتي يُعد من أجمل البساتين في إمبراطورية هيبيروس.كاد أن يُباع ذات مرة بأمر من الدوق السابق،
جيريمان، لكن البستاني الذي عمل فيه لأجيال، ومعارضة تياريس المستميتة، أوقفا ذلك القرار.
فقد كان هذا المكان مليئًا بذكريات والدتها، ولم تكن تريد بيعه بأي حال.
“كيف كان الدوق السابق؟”
سألها إسدانتي، وهما يجلسان على طاولة الشاي في الحديقة، يستمتعان بشمس الظهيرة الهادئة.
فأخذت تياريس وقتًا للتفكير قبل أن تجيب.
“والدي… قلبه مكسور.”
“قلبه؟”
“لم يكن مقامرًا منذ البداية. لكنه فقد والدتي، ولم يجد مأوىً لقلبه، فغرق في القمار.”
“…… تقصدين زوجة الدوق السابقة؟”
“كانت ضعيفة البنية.”
ومرّت ومضة حزن في عيني إسدانتي، لكن تياريس، التي كانت تنظر إلى الطاولة، لم تلحظها.
وتابعت حديثها بصوت هادئ:
“منذ البداية كانت حالتها الصحية سيئة، واضطرت لتناول الأدوية باستمرار.ثم حملت بطفل آخر، لكنها توفّت هي والجنين معًا.”
رغم نبرة صوتها الهادئة، كان الحزن ظاهرًا على وجهها.
كانت تياريس كثيرًا ما تتساءل:
ماذا لو لم تمت والدتها؟ هل كان مسار حياتها سيتغيّر؟
لا أحد يمكنه الجزم، لكنها كانت تؤمن أن حالها كان ليكون أفضل مما هي عليه الآن.
كانت والدتها ذكية، قوية، رحيمة.
“أنا آسف.”
“لا داعي لأن تعتذر. فالناس في المجالس الأرستقراطية يرددون هذا الكلام عن دوقية نابارانتي على أي حال.”
رغم أنها تحدثت بلا مشاعر، إلا أن داخلها كان مضطربًا.
لماذا كانت تُفصح عن كل هذا بسهولة؟
إسدانتي لم يكن زوجها بعد، ولا حتى أحد أفراد دوقيتها.
هل هو بسبب شعره الأحمر وعينيه؟
كان شعر إسدانتي الأحمر وعيناه الحمراء لونًا مميزًا للدوقية.
رغم أن هذا اللون شائع في إمبراطورية هيبيروس، إذ يمتلكه أكثر من نصف السكان، إلا أن هذا التدرّج الحاد منه كان نادرًا.
ذات مرة تساءلت: لماذا لم أُولد بهذا اللون؟
لكنها أدركت فيما بعد أن لا فائدة من مثل هذه الأفكار.
بل كانت ممتنة لأنها ورثت شعر والدتها بلون العسل.
ربما لو رأى والدي شعري، لكان تغيّر.
بينما كانت غارقة في أفكارها، بقي إسدانتي صامتًا.
ومع توقف الحديث بينهما، مرّ نسيم خفيف مزّق سكون الجو بينهما.وبينما كانت تياريس تهمّ بالاستماع إلى صوت أوراق الأشجار المتراقصة مع الريح،
دوّى صوت كبير الخدم من بعيد:
“دوقتي! هناك أمر طارئ…!”
“تراجع!”
ودفع جيريمان كتف الخادم وظهر فجأة.
فوجئت تياريس، واتسعت عيناها، فما كان منه إلا أن رفع يده في محاولة لضربها.
وفي اللحظة التي هبطت فيها يده نحو وجهها، أمسكها إسدانتي.
فتح جيريمان عينيه بدهشة عندما رأى من منعه، ثم ضاق بهما وهو يحدق في إسدانتي وكأنه يقيّمه.
ولما بدا وكأن إسدانتي ضاق بذلك النظر، كان جيريمان هو من تكلّم أولًا:
“أأنت ذاك الرجل؟ من دفع به جلالته نحو ابنتي؟”
“أنا إسدانتي. تشرفت بلقائك للمرة الأولى.”
“تافه من أبناء الحضيض يحصل على لقب نبيل، فيرمي بالآداب خلف ظهره؟ لا عجب، فأنت من رُعاة ساحات الحرب!”
“…… حديثك فيه تجاوز.”
“كونك من الحثالة هو ما أعتبره تجاوزًا!
أن يتسرّب دم الحضيض إلى دوقية نابارانتي!
أي جنو
ن أصاب الإمبراطور ليرتكب هذا؟”
“إذًا، لِم كنت تتردّد على نوادي القمار؟”
“ما الذي قلته؟”
“لأنك تراكضت مديونًا في كل مكان، تدخّلت العائلة الإمبراطورية في النهاية، أليس كذلك؟”
“أيها الوغد الحقير!”
وهوت يد جيريمان نحو إسدانتي
التعليقات لهذا الفصل " 14"