“ياأيتها دوقة الجميلة، تعالي إلى هنا لحظة؟”
“هل خسِروا جميعًا؟”
سألت تياريس وهي تشعر بالفراغ يتسلل إليها، بعدما استمعت إلى التقرير الدوري عن فرسان الدوقية من شيشين.
هؤلاء فرسان بيت الدوق، على الأقل. رغم أنهم لم يشاركوا في المعارك الحقيقية، فقد ظنت أنها اختارت رجالًا مدربين جيدًا وذوي كفاءة،
ومع ذلك، لم ينتصر أحدٌ منهم، وخسروا جميعًا.
“نعم، صحيح.”
حتى وجه شيشين لم يكن مرتاحًا أثناء إجابته. لقد أدرك الآن أن نخبة جنود إيسدانتي يمتلكون قدرات فائقة،
لكنه لم يكن يريد الاعتراف بذلك.
إيسدانتي، رغم كونه بطل حرب، كان من المفترض أن يكون مجرد بطل أجوف،
أسطوري في الظاهر فقط. فقط بهذه الطريقة لن يتمكن من التمتع بسلطة حقيقية داخل بيت الدوق.
كان شيشين يعتقد أن إيسدانتي، حتى إن دخل بيت الدوق، لن يحصل على حقوق حقيقية،
لأنه ظن أن شهرته مجرد وهم لذلك، عندما سمع بأن فرسان إيسدانتي سيتبارزون مع فرسان الدوقية، لم يمنعهم.
كان واثقًا من أن فرسان الدوقية سينتصرون بسهولة.
لكن توقعه كان بعيدًا تمامًا عن الواقع، واضطر الآن لتقديم تقريره لتياريس.
“هاه، ولماذا لم تمنعهم؟”
“لم يكن هناك وقت للتدخل.”
انحنى شيشين أمام تياريس. لم يستطع قول الحقيقة، بأنه ترك الأمور تسير عمدًا رغم معرفته بما قد يحدث.
“وأين فرسان إيسدانتي الآن؟”
“لقد طردوا فرسان الدوقية واستولوا على ميدان التدريب.”
“ماذا قلت؟”
رغم أنهم يتبعون إيسدانتي، إلا أنهم ليسوا بعد من رجال الدوقية.
كيف يجرؤون على الاستيلاء على ميدان الفرسان وطرد أصحابه الأصليين؟
كان هذا غير مقبول تمامًا.
تياريس، عندما علمت بأن أفرادًا من الدوقية طُردوا من موقعهم، لم تستطع أن تظل مكتوفة اليدين.
كان من واجبها كدوقة أن تحمي بيتها، وأن تقف إلى جانب رجالها.
لكن، كيف؟
لم تكن تملك أي قوة جسدية.
لم تعرف شيئًا عن السحر، ولا عن المبارزة.
الشيء الوحيد الذي تجيده هو استخدام الخنجر.
هل يمكنها حل هذه المشكلة بخنجرٍ فقط؟
أولًا، يجب أن أواجه الأمر.
“لنذهب.”
“سيدتي، ذلك المكان مليء بأشخاصٍ عنيفين.”
“لن يجرؤوا على التصرف بوقاحة مع دوقة.”
خرجت تياريس من مكتبها، ولحق بها شيشين.
سار شيشين خلف تياريس، محاولًا إخفاء ملامح القلق عن وجهه. لكن تياريس تقدمت بلا تردد.
كانت تمشي في قصر الدوقية كما تفعل دائمًا، لكن بدا لها أن كل شيء تغير اليوم.لقد رأت كيف أن دخول شخصٍ جديد أثّر في أجواء القصر.
لقد غمر النشاط المكان.
“هل كان هذا المكان صاخبًا دائمًا بهذا الشكل؟”
“لم يكن كذلك.”
عبرت تياريس الساحة الخلفية الصاخبة للقصر، وسط ضجيجٍ واضح.حتى الخدم كانوا يتحدثون عن فرسان إيسدانتي الجدد.
كلما مرت تياريس، عمّ الصمت للحظة، ثم عاد
الهمس والثرثرة من جديد.
لكن، يبدو أن هذه الأجواء المزدحمة لم تكن مزعجة لها تمامًا، فقد بدأت ملامحها تتفتح قليلًا.
ثم عادت لتعتم مرة أخرى.
كان السبب في عبوسها مجددًا هو رؤيتها لفرسان الدوقية يقفون خارج ساحة التدريب، مترددين.
ما إن رأوها، حتى انحنوا لها باحترام.
“نتشرف برؤيتك، سيدتي الدوقة.”
وجوههم لم تكن مرتاحة.
كانوا يشعرون بالخجل من إظهار هذا الضعف أمام من تعتبر الآن سيدة البيت.
“انهضوا.”
بأمرٍ منها، وقفوا جميعًا في آنٍ واحد.
لكن وقفتهم كانت غير مستقرة، مترددة، وهذا ما جعل تياريس تسأل بدهشة:
“ماذا حدث؟”
“لا، لا شيء!”
“لا شيء؟”
جاء الرد من خلفهم، لا منهم.
فرسان الدوقية كانوا يحاولون جاهدين إخفاء واقعهم، لكن فرسان إيسدانتي كانوا مختلفين.
لا، بل كانوا أقرب إلى مرتزقة، بتصرفاتهم البذيئة.
حركاتهم المتراخية، ونظراتهم الوقحة التي تمسحها من الأعلى إلى الأسفل.كان سلوكهم تجاهها متغطرسًا، لا يليق إطلاقًا بدوقة.
“من هذا؟”
سألت تياريس شيشين بدلًا من أن تسألهم مباشرة.
“إنه أحد قادة جنود القائد إيسدانتي…”
“آه، إن كنتِ مهتمة باسمي، ستعرفينه لاحقًا. تعالي يا دوقتنا الجميلة، اقتربي قليلا؟”
قال ذلك وهو يهز ساقه ويبصق على الأرض.
ضحكت تياريس بسخرية.
رغم أن المجتمع لم يعد يرى مشكلة في أن تحمل امرأة لقبًا نبيلًا، إلا أن كثيرين كانوا لا يزالون منزعجين من كونها دوقة.
لولا أنها الابنة الوحيدة لجيريميان، لما حصلت على هذا اللقب.
أخرجت خنجرًا من عباءتها، ورمته عليه مباشرة.
طار الخنجر في خط مستقيم نحو منطقة حساسة جدًا، ما جعل الرجل يقفز يمينًا ويسارًا محاولًا النجاة.
فرسان الدوقية، الذين شاهدوا المنظر، انفجروا في الضحك، بينما احمر وجه الرجل من الخجل والغضب.
“أيتها المجنونة…!”
“كلمة واحدة أخرى، وسأرمي هذا أيضًا.”
أخرجت خنجرًا آخر، ولوحت به بمهارة وهي تستعد لرميه من جديد.
“سمعت أن فرسان الدوقية كانوا مدينين لكم بشيء.”
“مدينين؟ نحن؟ بالكاد يصلحون وجبة خفيفة.”
أصرّ على وقاحته، مجيبًا بتفاخر.
كان يتصرف وكأنه مدعوم من شخصية نافذة.
لكن تياريس لم ترغب في الاستمرار في الحديث معه، فاستدعت شيشين:
“نعم، سيدتي الدوقة.”
“اذهب وأحضر القائد إيسدانتي.”
“أمرك.”
حالما نُطق باسم إيسدانتي، تغير تعبير وجه الرجل وقد لاحظت تياريس ذلك على الفور، فتقدّمت بخطًى ثابتة نحو ساحة التدريب ودخلت إلى الداخل.
كان فرسان إيسدانتي جالسين على الأرض داخل الساحة، يتحدثون بصخب وفوضى. لم يُلقِ أيٌّ منهم نظرة واحدة على تياريس عند دخولها.
وكأنها لم تكن موجودة، وكأن الشخص الوحيد الذي يعترفون به هو إيسدانتي وحده.
«أو ربما… إنهم يستعرضون قوتهم.»
هكذا هم الفرسان في العادة؛ جماعةٌ لا يعترفون بشيء سوى القوة.عالمٌ رجولي بالكامل،
لا مكان فيه لامرأة مثل تياريس.
لو لم تكن دوقة، لكان فرسان الدوقية أنفسهم قد عاملوها بالمثل.
ولولا قوة “الشيء المقدّس” الذي تملكه عائلة نابرَانت، لما استطاعت الوقوف فوقهم.
تياريس كانت تدرك هذه الحقيقة جيدًا.
ولهذا السبب كانت تخفي بكل ما أوتيت من جهد حقيقةَ أنها لا تستطيع استخدام “الشيء المقدس”..
وبما أن أحدًا لم يوجّه إليها الحديث، وقفت تياريس مائلةً إلى جانب، تراقب ما يحدث بصمت.
رغم أنهم كانوا يتحدثون معًا، فقد كانت عيونهم تراقبها من طرف خفي.
ولم يستطع نيرفين، قائد فرسان إيسدانتي ومساعده الشخصي، أن يتحمّل وقوف تياريس ساكنة بذلك الشكل، فتقدّم نحوها وحيّاها بانحناءة.
“يشرفني لقاؤك للمرة الأولى، سيدتي الدوقة.”
لكن تياريس لم ترد التحية، واكتفت بالحديث بجفاء:
“هذا مطمئن.”
نطقت كلماتها بعظمة، دون أن تلتفت إليه.
“كنت أظن أن لا أحد هنا يعلم أنني دوقة. فلو كانوا يعلمون، لما وقف أحدهم دون أن يُحيّي الدوقة الواقفة أمامه.”
“أعتذر عن تقصيرنا، يا سيدتي الدوقة.”
أشار نيرفين بيده، فنهض جميع الفرسان وحيّوها دفعة واحدة ومع أنها رأت وقاحتهم، لم تُعلّق أكثر.
واكتفت بالمراقبة دون أن تفكّ ذراعيها.
“هل هذا كافٍ؟”
“ما زال الاحترام الموجّه للنبلاء الكبار في الحضيض. هل يعلم القائد إيسدانتي بما حدث؟”
“القائد لا علاقة له بما جرى.”
“إذن، لا علاقة له أيضًا بمن نعتني بـ المجنونة؟”
“… من الذي تجرأ وقال هذا الكلام؟”
جاء صوتٌ من خلفها، لكنها لم تتحرك.
كان إيسدانتي.
“من قال ذلك؟”
كان وجهه متجهمًا بحدة.
حتى حين التقت نظراتهما، لم تتزحزح تياريس.
كان وجهه يبدو وكأنه قناع قاسٍ جامد.
أجابت تياريس بصوت هادئ:
“لو عرفتَ من هو، هل ستتصرف بنفسك؟”
“هل هو هذا؟”
لم يكن أمامها وقت لتوقيفه.ففي اللحظة التالية، أخرج إيسدانتي سيفه وقطع عنق الرجل الواقف إلى جانبه.
تناثر الدم وأصاب وجهها، لكنها لم ترمش حتى.وبينما كانت لا تزال واقفة بلا حركة، واصل إيسدانتي حديثه دون اكتراث.
“أم أنه هذا؟”
مع كل حركةٍ من سيفه، سال دمٌ جديد.
لم يبدو عليه أنه يرى مرؤوسيه الهاربين في رعب، وظل ملامحه خالية من التعبير.
“أم أنه… هذا؟”
“أنا! أنا من قالها!”
دخل الرجل الذي كان قد تفادى خنجر تياريس خارج الساحة مسرعًا إلى الداخل.
لم يستطع تحمّل مشهد موت رفاقه بسبب خطئه، فجثا على ركبتيه أمام إيسدانتي.
أما تياريس، فلم تقل شيئًا.
كانت فقط تراقب ما يحدث بعينيها الباردتين.
“إذًا هو؟”
وبعد تلك الكلمات، انطفأت الحياة من عيني من أهانها.
تياريس لم تحرّك ساكنًا.
طرفت بعينيها أخيرًا، محاولة استيعاب ما جرى.
ثلاثة أرواح أُزهقت أمامها، ومع ذلك لم تشعر بشيء واقعي.
لم يكن قتل الناس حكرًا على ساحات القتال.
لقد كانت تعلم أن قراراتها السابقة قد أدّت لموت الكثيرين، لكنها كانت دائمًا ترى الأمر من بعيد.
أما الآن، فشاهدت شخصًا يموت أمام عينيها.
ورغم ذلك، تحدثت بهدوء:
“هل هذه هي إجابتك، يا
قائد؟”
“من يُهين الدوقة، يجب أن يموت.”
“لكنه رفيق لك في الحرب، نجا معك من المعارك.”
“وما هو الرفيق؟ هذا الرجل أهان نبيلاً رفيعًا. حتى الإعدام الفوري لا يكفي.”
“هاه…”
تنهدت تياريس، فعاد إيسدانتي للحديث:
“أو، هل تفضلين أن أقتل كل من في هذا المكان؟”
التعليقات لهذا الفصل " 10"