ماتت الطفلة.
أوفيليا مسحت الغرفة بنظرة جافة. لقد تم استبدال الأثاث بالكامل بقطع جديدة ، و كأنّ الطفلة لم تكن موجودة هنا أبدًا منذ البداية.
كان ذلك بأمرٍ من زوجها ، لينور.
‘لينور ، لا تفعل ذلك. لا تفعل ، أرجوك’
على الرغم من أنّ أوفيليا توسّلت إليه حتى و هي راكعة على ركبتيها ، إلا أنّه أصرّ على إزالة كلّ أثرٍ لفيرونيكا.
لم يكن لديها القوّة لتلوم لينور ، فهو شخص على هذه الشاكلة بطبعه.
تذكّرت جسد فيرونيكا الصغير الذي تفحّم بالكامل ، فشعرت بقلبها ينزف ألمًا كأنّه يتمزّق.
كم كانت خائفة و هي محتجزة في الغرفة المشتعلة بالنيران ، عاجزة عن الهرب لأنّ مقبض الباب كان مكسورًا.
لقد توقّف الزمن إلى الأبد عند طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات فقط.
‘يا إلهي … هذه’
كانت مذكّرات فيرونيكا ملقاة على المكتب.
اقتربت أوفيليا على عجل و فتحت المذكّرات التي كانت حوافّها متفحّمة قليلاً.
عندما رأت الخطّ المتعرّج و بقع الحبر المتناثرة ، أصبح تنفّسها صعبًا.
ضغطت على شفتيها بشدّة و هي تشعر بضيق في صدرها و كأنّه يختنق.
سقطت دمعة انحدرت على خدّها فوق صفحات المذكّرات.
[2 مايو ، عام 1816 ، تقويم مملكة كويلتشر
هل ستحبّ أمّي بيبي إذا أصبحتُ طفلةً مطيعة؟
إذا أحبّتني أمّي ، يمكنني فعل عمل صالح كلّ يوم ، مهما كان عدد المرّات]
احتاجت أوفيليا وقتًا طويلاً لقراءة تلك الجملة القصيرة فقط.
لم تستطع الاستمرار في التصفّح لأنّ الوحدة التي شعرت بها الطفلة نزلت بثقل على قلبها.
بيدين مرتعشتين ، ضمّت أوفيليا المذكّرات إلى صدرها و سقطت جالسة على السرير.
لم تعد تجد القوة للوقوف منتصبة.
في طرف نظرها المُنكسِر ، لاحظت صندوقًا مخفيًا تحت السرير.
انحنت و أخرجت الصندوق لتفتحه.
الذي كان بداخله—إكليل من زهور البنفسج الذابلة.
ساعة جيب ظنّت أنّها فقدتها.
دبّوس لؤلؤ أهدتها إيّاه في عيد ميلادها العام الماضي.
كان الصندوق مليئًا بأشياء متعلّقة بها وحدها.
‘اعتقدتُ أنّها لم تعجبها لأنّها لم ترتدِها قطّ’
لماذا احتفظت بالإكليل الثمين الذي كان ملفوفًا بطريقة خرقاء و بسيطة بمهارة ضعيفة؟
لماذا أخذت ساعة الجيب القديمة التي كانت مهترئة لدرجة أنّ عقاربها لم تعد تتحرّك؟ كان يمكنها أن تشتري لها واحدة جديدة متى أرادت.
أرادت أن تسأل ، لكنّها لن تحصل على إجابة.
لم تستطع حتّى تخمين السبب لأنّها لم تكن تعرف شيئًا عن طفلتها.
أرادت أن تذهب و تلتقي بفيرونيكا ، التي كانت وحيدة ، في أسرع وقت ممكن.
كانت أوفيليا تخطّط للموت بهدوء قدر الإمكان دون إحداث ضجة. حتى لا يتمّ العثور عليها متأخّرة و تتمّ إعادتها إلى الحياة.
‘… هل أقطع معصميّ؟ أم آكل جميع الحبوب المنوّمة المتبقية؟’
في رؤيتها الضبابية التي غشاها البياض ، رأت ظلّ شخصٍ بشعر أسود مربوط بضفيرتين.
عينان بنفسجيّتان كأنّهما زهور البنفسج المتفتّحة بالكامل.
“… فيرونيكا؟”
ارتجف صوتها المبحوح بشدّة.
غمر اليأس العميق الذي يسكن قلبها جسدها بأكمله.
على الرغم من أنّها تعلم أنّه مجرّد هلوسة ، مدّت أوفيليا يدها نحو فيرونيكا.
“… يا صغيرتي”
خرج هذا الصوت ، الذي لا يمكن تمييزه بين بكاء و أنين ، مع بقايا أنفاس كانت عالقة في حلقها.
اختفى شكل فيرونيكا فجأة.
“آه ، آه … آه ، صغيرتي. أين ، ذهبتِ …”
غرقت في حزنها و دفنت وجهها في يدها التي لم تمسك سوى الفراغ بدلاً من طفلتها.
ولدت كأميرة كويلتشر غير الشرعيّة بعد قتل والدتها البيولوجيّة ، و نشأت أوفيليا تحت اضطهاد الملكة أغنيس.
لقد كانت طفولة تعيسة لم تحظَ فيها باهتمام والدها ، الملك ألفونسو ، حتّى.
في سنّ الثامنة عشرة—
تزوّجت من الضابط البحريّ لينور بأمر ملكيّ فور بلوغها سنّ الرشد ، و أنجبت فيرونيكا في نفس العام مباشرةً.
عاشت بعدها حياة مرهقة بسبب خيانة لينور و مضايقات حماتها ، لكنّها …
استطاعت التحمّل بسبب وجود طفلتها.
و لكن—
كانت أوفيليا تغرق دائمًا في الكآبة ولا تستطيع النوم بسهولة دون حبوب منوّمة.
كانت أعصابها حسّاسة للغاية لدرجة أنّ ردود فعلها تجاه الآخرين كانت حادّة.
بسبب ذلك ، لم تقضِ وقتًا طويلاً مع فيرونيكا.
تجنّبتها منذ أن سمعت من المعلّمة الخاصّة يومًا أنّ الطفلة تخاف منها.
اعتقدت أنّ ذلك هو الشيء الأفضل لطفلتها.
كانت حذرة جدًا لدرجة أنّها تجنّبت تناول الطعام معها أو ملاحظة كم نما طولها.
لم تقدّم لها شيئًا أبدًا.
ما كان يجب عليها فعل ذلك.
كان يجب أن تجعلها تجلس في حضنها و تقبّلها على خدّها في كلّ مرّة ينمو طولها ، و تغنّي لها أغنية تهويدة و تبقى بجانبها.
عندما تنظر إلى الوراء ، كلّ ذكرياتها كانت يومًا واحدًا فقط ، عندما صنعت إكليل الزهور.
كانت ذكرى واهية جدًا لتتذكّر طفلتها من خلالها.
صرير—
‘… من هذا؟’
عند سماع صوت فتح الباب ، دخلت أوفيليا لا إراديًا تحت المكتب و أخفت جسدها.
إذا تمّ اكتشاف وجودها هنا ، فقد يتمّ العثور عليها و إعادتها إلى الحياة قبل أن تموت.
“… لا أحد هنا ، يا سموّ ولية العهد”
السيّدة مارغريت.
سمعت صوت المعلّمة الخاصّة التي كانت ترعى فيرونيكا.
“لقد رأيتُ جروحًا على ساق الجثّة. كان يجب عليكِ ضربها باعتدال. ماذا لو لاحظ أحدهم؟”
“سموّها شخص مندفع بطبعها و عادةً ما تتعثّر ، لذا قالت إنّ الجروح كانت بسبب سقوطها ، و لم يشكّوا في شيء. لا تقلقي”
تبعه صوت مألوف ، فتوقّفت أوفيليا عن التنفّس.
وليّة عهد كويلتشر.
كانت كاساندرا ، الابنة الوحيدة للملكة أغنيس و الأخت غير الشقيقة لأوفيليا.
دخلتا نحو الشرفة و بدأتا تتبادلان الهمسات.
“انتبهي ، اجعلي أوفيليا عقيمًا في الوقت المناسب. سيكون الأمر مزعجًا إذا حملت مرة أخرى بعد كلّ ما فعلناه لقتل فيرونيكا ، تلك الطفلة”
ماذا يعني هذا الآن؟
قتلت فيرونيكا؟
لماذا؟
“لن يحدث ذلك ؛ فالعلاقة ليست جيّدة مع سيادة الماركيز. إنّهما لا ينامان في نفس الغرفة حتّى”
“من المفيد أنّنا زيّفنا الرسائل لتبدو و كأنّ الماركيز لينور يخونها”
“على الرغم من أنّها ابنته البيولوجيّة ، إلا أنّ سيادة الماركيز غافلٌ حقًا. لم أتوقّع ألا يحزن”
“إنّه لا يكنّ أيّ عاطفة لأوفيليا. لذا، ليس من المرجّح أن يهتمّ بفيرونيكا أيضًا. انظري ، فيرونيكا ماتت ، و هو لم يذرف دمعة واحدة”
ضحكة كاساندرا و السيّدة مارغريت الماكرة اخترقت أذنيها.
كان داخل طبلة أذنها يطنّ بصوت عالٍ.
أختها التي وثقت بها قتلت فيرونيكا.
سلّمت طفلتها لامرأة كهذه.
لم يكن بالإمكان أن تكون أكثر بؤسًا من ذلك. ضغطت أوفيليا على جلدها بأظافرها غير المرتبة بسبب الاشمئزاز.
اندفع ألم التمزّق في أعماق صدرها.
شعرت و كأنّ النيران الساخنة التي مرّت بها فيرونيكا تحرق جلدها. كان الألم قويًا لدرجة أنّها لم تستطع التنفّس بشكل صحيح.
ارتجفت يداها بالكامل ، إذ كانت حقيقة عدم معرفتها بأيّ شيء حتى الآن مقزّزة جدًا.
تجمد جسدها بالكامل و كأنّها مقيّدة بالسلاسل ، لكنّ أوفيليا عضّت جلدها الداخليّ بشدّة.
‘سأقتلها ، بأيّ طريقة ، هذا الألم الذي شعرت به فيرونيكا … نفسه …’
ملفوفة في مشاعر الغضب ، نهضت ببطء من تحت المكتب و اتّجهت نحو الشرفة.
“ماذا ، كياااااا!”
صرخت السيّدة مارغريت و هي تستدير و تنظر إليها في رعب.
اندفعت أوفيليا نحو كاساندرا دون تردّد.
“كان يجب أن تقتليني أنا! ما ذنب طفلتي!”
مع صرخة مدوّية ، أمسكت برقبة كاساندرا.
“آخ ، آخ ، أ ، أوفيليا—”
تشابكت أجسادهما و تمايلتا ذهابًا و إيابًا في المساحة أمام الدرابزين مباشرةً.
اندفعت السيّدة مارغريت في عجلة و دفعت أوفيليا بعيدًا.
عندها ، شعرت أوفيليا بأنّ قدميها تطفوان في الهواء. فقدت توازنها تمامًا.
في نفس اللحظة التي انحنى فيها الجزء العلويّ من جسدها للخلف ، لامس خصرها درابزين الشرفة.
سقط جسد أوفيليا إلى الأسفل بسرعة.
وخزها الهواء البارد. مدّت ذراعيها و عركت الهواء ، لكنّها لم تمسك بأيّ شيء.
دارت السماء و كأنّ العالم قد انقلب رأسًا على عقب.
ثمّ—
دويّ—!
“… آه”
تدفّق الدم الأحمر لزجًا من مؤخّرة رأسها. اخترق الألم الذي اهتزّت له عظامها جسدها بالكامل.
في الأعلى على الشرفة ، كانت كاساندرا تمسح رقبتها المحمرّة و تحدّق في أوفيليا.
“تشه ، لم أتوقّع أن تكون في الغرفة”
“بل … هذا أفضل. سيعتقدون أنّها انتحرت. بما أنّها كانت تعاني من الاكتئاب بالفعل ، فلن يشكّ أحد في الأمر على أيّ حال”
نظرت أوفيليا إلى السماء بعينيها الملطّختين بالدماء.
في تلك اللحظة—
اقترب منها وجود دافئ.
شعور بحرارة جسد نزلت عليها و كأنّها تتغلغل فيها.
إحساس بذراعين صغيرتين و ناعمتين تحتضنها بحذر.
كانت فيرونيكا تبتسم بهدوء.
“… صغيرتي ، أنا آسفة …”
تذكّرت اليوم الذي ولدت فيه فيرونيكا.
اليوم الذي نظرت فيه عيناها البنفسجيّتان ، المشابهتان لخاصّتها ، إليها و كأنّها قد عرفتها.
“أمّكِ … أخطأت ، حقًا”
تلك اللحظة التي لم تستطع فيها سوى أن تحبّها.
أصبحت أنفاسها المؤلمة أقصر تدريجيًا ، و شعر جسدها بثقل لا نهاية له.
‘على الأقل … انتهى الأمر على خير’
كان الموت القادم إليها مرحّبًا به.
بعد ذلك ، غرق وعي أوفيليا في ظلمة عميقة.
***
“… هاه”
فتحت أوفيليا جفنيها بالكاد.
ارتفع جسدها و كأنّها قفزت. أخذت نفسًا و نظرت حولها لتجد نفسها داخل غرفة النوم.
‘هل عثر عليّ أحد في الحديقة و نقلني إلى هنا …؟’
شعرت بضيق في التنفّس عندما تأكّدت من أنّها لم تمت و نجت. تجمّع العرق البارد على جبهتها مع شعور بارد.
نهضت أوفيليا بسرعة من السرير و حاولت التحرّك.
لم تشعر بأيّ ألم.
ما انعكس في المرآة عندما أدارت رأسها بسبب غرابة الأمر كان مظهرها السليم تمامًا.
‘… لا يمكن أن يكون’
لم تصدّق ، فمدّت يدها لتتلمّس شعرها. كان خاليًا من أيّ ندوب.
كيف يمكن أن يحدث هذا؟
عندما سمعت صوت خطوات عند الباب و استدارت لا إراديًا ، رأت—
“يا صاحبة السموّ الأميرة. الطقس جميل اليوم ، لم لا تذهبين في نزهة؟”
وجه مألوف.
امرأة ذات شعر و عينين بنيّتين. على وجنتيها الكثير من النمش.
“… ميريل؟”
كانت الخادمة ميريل ، التي كانت معها منذ أن كانت في القصر الملكيّ و أحضرتها إلى قصر ماركيز فيلهلمير.
من المفترض أنّها ماتت محتجزة في الغرفة المشتعلة بالنيران و هي تحاول إنقاذ فيرونيكا.
‘… كيف تكون ميريل هنا؟’
هل هي هلوسة صنعها الاشتياق؟
“سموّ الأميرة فيرونيكا طلبت أن تتناول الشاي معكِ ، ماذا تقولين؟”
“… ماذا قلتِ الآن؟”
“ماذا؟”
“فيرونيكا ماتت. لا ، ميريل ، أنتِ أيضًا …”
أمسكت أوفيليا بكتف ميريل بسرعة. لماذا تتكلّم و كأنّ فيرونيكا لا تزال على قيد الحياة؟
ابتسمت ميريل بحرج و ميّلت رأسها.
“يا سموّكِ ، هل حلمتِ بكابوس؟”
“….”
“سموّ الأميرة فيرونيكا في غرفة الطعام الآن. سمعت أنّها تتناول فطورها الآن لأنّها استيقظت متأخّرة اليوم”
التعليقات لهذا الفصل " 1"