“حسنًا، لنفترض ذلك.”
هزّ بودوان رأسه وكأنه يقول أنه لا حيلة له معه.
كان لازار متكئًا إلى الخلف وقد أرخى جسده، ثم انحنى فجأة ووضع مرفقيه على ركبتيه.
“لكن تلك «الحب الأول العظيم»….هل لديكَ حبٌ أول أيضاً لتصفه هكذا؟ يبدو أن زوجتكَ ليست حبكَ الأول إذًا؟ يجب أن أشي بكَ إلى تيريز.”
“لـ، لا! تيريز هي….هي فعلًا حبي الأول!”
لوّح بودوان بيديه نافيًا. فانفجر لازار ضاحكًا.
و عضّ بودوان على أسنانه بعدما جُرّ مرةً أخرى إلى فخ كلام لازار.
“لكن أحد أبناء الحاكم مخطوبٌ لإبنة كونت، والابن الآخر خطيبته المستقبلية هي تلك الآنسة. لا تنوِ العبث بالنار، أليس كذلك؟”
فغاصت عينا لازار الخضراوان المزرقّتان في برودٍ قاتم.
“الاقتراب منها بحجة جمع المعلومات يبدو غريبًا.
أنتَ عادةً، حتى لو تقدّمت إليكَ فتيات من طبقة النبلاء، تتذرّع بأنكَ نشأت في دير وأنك زاهدٌ ومتقشّف، أليس كذلك؟ وإذا لم يبتعدن، تهدد بأن أخاكَ الأكبر سيقتلهن.
أسلوبكَ هو كسب النقاط بمساعدة النساء الكبيرات في السن.…”
أدرك بودوان متأخرًا الجو العدائي الذي صار عليه لازار، فغيّر الموضوع بسرعة.
“آه، بخصوص المكسرات في فطور الصباح، كلام الخادمة التي تعاملنا معها كان صحيحًا. لقد ظهر تفاعل.”
“تورمت اليد قليلًا فقط وكان بخير. يبدو أننا بحاجة لزيادة الكمية.”
“سيقيمون مأدبةً احتفالًا بنجاح الصيد. ألا يمكننا استغلال ذلك الوقت؟”
المآدب كانت تجذب الانتباه بسهولةٍ مفرطة. كان سيكون أسهل لو مات أوفيد بهدوءٍ في الغابة، لكن الأمور تعقّدت.
شعر لازار بالأسف لأن الهدف لم يكن فابريس بل أوفيد.
لو كان فابريس هو الهدف، لكان بإمكانه أخذ خطيبته المستقبلية ديزيريا مباشرة. لكن من طلبوا الاغتيال أرادوا موت أوفيد.
لم يكن فابريس محبوبًا لديهم أيضًا، لكنهم قالوا أنه ليس إلى حدّ الرغبة في قتله.
“حسنًا….ليكن.”
أطلق لازار زفيرًا طويلًا مشوبًا بالأسف.
لم يكن الاغتيال سوى عمل، وقد فكّر حتى في التظاهر بكونه لصًا وخطفها بحجة الاختطاف.
لكنه استبعد الفكرة لأن تغيير قلب ديزيريا، وهي ذات طبعٍ مستقيم وعنيد، سيستغرق وقتًا طويلًا.
و قرر أن ينظر إلى طلب الزواج المفاجئ الذي تلقّاه منها في الغابة بنظرةٍ إيجابية. رغم أنه كان مؤلمًا قليلًا لأنه بدا كلامًا بلا مشاعر، عابرًا.
كان قد أحبّ ديزيريا من النظرة الأولى بسبب صلابتها واستقامتها، وحتى آنذاك كانت هي من أنقذته.
تلك العينان الذهبيتان، وهما تعكسان ضوء الشمس وتقفان مكانه، لم تتغيرا منذ تسع سنوات.
“لم تتغير أبدًا.”
“ماذا تقصد؟”
سأل بودوان.
“صار هدفي من المجيء إلى هنا أوضح.”
“أي هراءٍ هذا؟”
“سأشرح لكَ عندما يتحقق بعض التقدم.”
إظهار نفسه بمظهر الجريح لم يكن يساعد كثيرًا في الظهور كشخصٍ جذاب يُوقع في الحب.
لكن لازار كان يأمل، على الأقل، أن يثير بعض الشفقة.
***
“يحيا الحاكم!”
أُقيمت مأدبةٌ للاحتفال بنجاح الصيد.
و لم يحضر من العامة أحد، باستثناء الخدم. فلم يكن حدثًا ضخمًا بمستوى زواجٍ أو جنازة.
جلس الحاكم وزوجته في المقعد الرئيسي عند رأس الطاولة، وجلس الابنان عند الزوايا القريبة من المقعد الرئيسي.
امتدت الطاولة الطويلة محمّلةً بلحوم الصيد، وكؤوس النبيذ، والخبز، والفواكه.
“هيا، لنشرب نخبًا!”
ألقى الحاكم كلمات نخب مطوّلة. صم رفعت ديزيريا كأسها بوجهٍ جامد.
كان مقعد ديزيريا إلى جوار فابريس. كانت تتمنى لو جلست في الطرف المقابل من الطاولة، لكنها لم تستطع.
و ربما كان من حسن الحظ أنه لم يكن وقحًا معها. فقد كان فابريس مشغولًا بأحاديث تافهة مع زوجة الحاكم.
تناثر لعابه وفتات الخبز، فعبست ديزيريا.
“آنسة، هل تريدين المزيد من الجبن؟”
سألتها إحدى الخادمات. فهزّت ديزيريا رأسها نفيًا.
بسبب طريقة فابريس الصاخبة في الأكل، شعرت ديزيريا بثقل في معدتها. و لم يكن من اللائق أن تسند ذقنها بيدها، فاكتفت بالعبث بالطعام.
‘ليس لدي وقتٌ لأضيّعه هكذا.’
تمتمت ديزيريا لنفسها.
لم تكن المأدبة مجرد وجبةٍ سريعة، بل امتدت طويلًا. كان البقاء في المقعد مضيعةً للوقت.
“متى ستُقدَّم الحلوى؟”
سأل فابريس الحاكم . غأجابت زوجته بدلًا عنه.
“هل نطلبها مسبقًا؟”
“نعم.”
أجاب فابريس فورًا. وقد اقتربت خادمة.
“أنتِ هناك، اسمكِ أليس، أليسَ كذلك؟”
“نعم، سيدتي.”
“أحضري أي نوعٍ من الحلويات.”
خرجت الخادمة بخطواتٍ سريعة من قاعة المأدبة. و بدت الخادمة التي دُعيت أليس وكأنها تتعمّد عدم النظر نحو أوفيد.
كان مظهرها القلق لافتًا، فراقبتها ديزيريا.
من خلال بابٍ موارب، سمعت أليس تقول لشخص ما.
“وصلتَ بسرعة. شكرًا لك.َ”
و ناولها الشخص الواقف خارج الباب قطعة تارت.
كان بودوان. فتوقفت ديزيريا لحظة، تتساءل إن كانت قد رأت خطأ.
ربما بدّل ملابسه. فمن غير اللائق أن يحضر إلى المأدبة بثياب متّسخة بالتراب والدم.
لكنها لم تفهم لماذا يرتدي مرتزقٌ زيّ الخدم ويتصرّف كأحدهم. فلم يكن بودوان يبدو كخادم للازار.
وبينما كانت ديزيريا تحاول فهم العلاقة بينهما، توقفت أفكارها عند هذا الحد.
“حلقي عطشان! أعطوني مزيدًا من النبيذ!”
أخذ أوفيد يسعل بخشونةٍ وهو ينادي الخادم. فاقترب الخادم بسرعة وهو يحمل زجاجة النبيذ.
“كح—!”
ثم هوى أوفيد من فوره على الطاولة. و أسقط الخادم المذعور زجاجة النبيذ.
ومع صوت تحطم الزجاجة، تحولت قاعة المأدبة إلى فوضى عارمة.
“اغتيال، اغتيال!”
“أحدهم دسّ السم في الطعام!”
“اهربوا!”
تعالت الصرخات فيما اندفع الناس خارج القاعة. و قفز الحاكم واقفًا.
“أوفيد، ما بكَ؟”
نهضت زوجة الحاكم أيضًا وهزّت كتفي ابنها.
“يا بني، أفق!”
و نهضت ديزيريا من مكانها.
كانت قد منعت موته في ساحة الصيد. ومنعت فابريس من انتزاع هيبة الوريث. لكن يبدو أنه أكل شيئًا خاطئًا، وها هو يموت فجأةً في قاعة المأدبة.
إذا أرادت تغيير المستقبل، فلا يمكنها ترك الأمر هكذا.
“سأجلب الطبيب!”
ثم اندفعت ديزيريا تاركةً قاعة المأدبة الغارقة في الفوضى.
***
“مات.”
هزّ الطبيب رأسه. فلم يكن أوفيد يتنفس، ولا كان قلبه ينبض.
فوضعت ديزيريا يدها على جبينها.
و انفجرت زوجة الحاكم بالبكاء. وكان الحاكم شاحب الوجه. أما فابريس فكان يرمش بعينيه بلا تعبير.
ثم اقتربت زوجة الحاكم من الطبيب، وفجأة أمسكت بياقته.
“لماذا تأخرتَ هكذا؟ أنقذه، قلتُ أنقذه! أليس هذا عملكَ؟”
“سيدتي، أنا طبيبٌ أمارس الطب، لستُ صانع معجزات.”
لمع العرق البارد على جبين الطبيب وهو يتعرض لوابلها من التوبيخ.
رغم أن ديزيريا عرفت الطبيب والحاكم وزوجته منذ زمن، شعرت الآن أن الطبيب هو الأجدر بالشفقة.
“تعيش تحت فضل زوجي، ولا تستطيع حتى أن تفعل ما يُطلب منكَ؟ افعل أي شيء!”
حتى الطبيب، أمام الموت، لا يستطيع أن يكون متماسكًا تمامًا، فبدت ملامحه متعبة.
فاقتربت ديزيريا لتهدئة زوجة الحاكم.
“اهدئي من فضلكِ.”
“وكيف أهدأ؟ وأنتِ، ماذا كنتِ تفعلين حتى لم تُحضري الطبيب إلا الآن؟”
مسحت ديزيريا شعرها وقد ازدحمت الأفكار في رأسها.
الأمر كارثي. هكذا سيصبح فابريس لوردًا من جديد.
وفوق الفوضى كلها، يُقال أن حتى مبادرتها الوحيدة، وهي استدعاء الطبيب، جاءت متأخرةً ولا طائل منها.
فتنهدت ديزيريا طويلًا.
“سأخرج قليلًا.”
لم يجب أحدٌ من عائلة الحاكم المنشغلة بالفوضى. بينما أبعد اللورد زوجته الصارخة عن الطبيب.
و نقلت ديزيريا رسالة إلى أحد الخدم وخرجت إلى الحديقة.
“ألم نتفق على أن ننهي الأمر بالتارت؟ لماذا سقط قبل أن يلمسها أصلًا؟”
همس صوتٌ من خلف سياج الشجيرات الكثيفة في عمق الحديقة.
كان صوت بودوان.
“أنتم من لم تُنهوا الأمر في ساحة الصيد.”
و جاء الرد حادًا. كانت أليس.
“تعقّد الأمر قليلًا هناك.…!”
“حين أفكر في أختي التي قُتلت، لا أريد أن أؤجل يومًا واحدًا، بل ولا ساعة.”
“حسنًا. أعتذر عن التأخير.”
“لا بأس. في النهاية، ذلك الرجل مات. وعلى الأقل، لن نُجبر بعد الآن على خدمة قاتل كهذا بوصفه الحاكم القادم، أليس كذلك؟”
تحركت ديزيريا بهدوءٍ إلى الجهة الأخرى من السياج.
“وهل تعتقدين أن فابريس سيكون لوردًا صالحًا؟”
فتجمدا أليس وبودوان عند ظهور ديزيريا.
“إذًا، تآمرتما معًا وسممتما أوفيد؟”
لم تُجب أليس، بل خفضت رأسها بقوة. و كانت شفتاها المطبقتان تدلان على أنها لا تشعر بالندم.
لو كانت خادمة تعمل في القصر، فالوصول إلى وريث الحاكم ليس بالأمر الصعب.
لكن لماذا كان لا بد من القتل؟
فسأل بودوان ديزيريا.
“أليس هذا في صالحكِ؟ إذا تغيّر الوريث، ستتزوجين وتصبحين زوجة الحاكم. قد تكون الأمور فوضويةً قليلًا في البداية، لكن.…”
تصلّبت ملامح ديزيريا. كما قال بودوان، إذا عُيّن فابريس حاكماً تالياً، فستصبح ديزيريا زوجة الحاكم يومًا ما.
بل وأكثر من ذلك، لم يبقَ من السلالة المباشرة سواه، ما يعني أن الحاكم وزوجته سيضغطان عليها لتُنجب سريعًا.
لم تكن ديزيريا تريد أن تُعامَل كدجاجة للتفريخ.
وإن كان مصيرها الموت بعد ثلاث سنوات، فالأمر أسوأ.
ثم رفعت أليس رأسها بعدما أدركت أن بودوان أثار غضب ديزيريا بدلًا من طمأنتها.
“آنسة، سأعترف بنفسي.”
______________________
قالت قاتل اختها؟ ها عسا فيه
وديزيريا يختي خلاص خليه ماعليه حسوفة طقي مع لازار وخلوص😘
المهم ابوها وامها بعد ليتهم يطقون مع بنتهم 😔
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"