“ماذا؟”
“قلتَ لي أن آتي إليكَ قبل أن تندلع الحرب، أليس كذلك؟ تزوّجني زواجًا رسميًا وخذني معكَ إلى المكان الذي جئتَ منه.”
“أنا لا أمانع، لكن هل تقولين هذا وأنتِ تعرفين إلى أين سآخذكِ؟”
“أعرف أنكَ جاسوسٌ من أفندل.”
“هممم….”
غطّى لازار فمه بسبابته المنحنية، بينما كان إبهامه يتحرّك ببطءٍ يمينًا ويسارًا تحت ذقنه.
‘لا يُفترض أن تسير الأمور بهذه السهولة.’
كان لازار مرتبكًا، لكنه لم يستطع الرفض.
لو قال أنه لا يريد أو طلب مزيدًا من الوقت، شعر أنه قد يخسر ديزيريا حينها.
“وما الذي تتذكرينه عني غير ذلك؟”
“لا شيء.”
“ومع ذلك تقترحين الزواج؟ لستِ من النوع الذي يمزح، هذا غريب.”
فأطلقت ديزيريا ضحكةً قصيرة خافتة.
“لا هو مزاحٌ ولا اندفاع.”
“على حدّ علمي هناك حديث زواجٍ بينكِ وبين الابن الثاني للحاكم، ومع ذلك تتقدمين لي بطلب الزواج؟”
“إن تجرأ ذلك الرجل على افتعال مشكلةٍ معي لمجرد أنني كلفتُ مرتزقًا بمهمةٍ واحدة، فلن أسكت له، وهو ليس زوجي أصلًا.”
“مهمة؟”
“قلت لكَ أنه ليس زواجاً حقيقياً.”
فضاقت عينا لازار. بينما واصلت ديزيريا الكلام فورًا، كأنها تبرر.
“إن ذهبتُ أنا للبحث عنكَ سألفت الأنظار كثيرًا، فتفهّم الأمر حتى لو بدا وكأنني أقترح لقاءً سريًا. سأفسخ تلك الخطبة السخيفة، وأغادر إلى مكان آخر. أحتاج حقاً إلى مساعدتكَ.”
“إذًا كان هذا هدفكِ؟”
لم تجب ديزيريا. و عندما بدا أنها انكمشت أكثر من اللازم، بادر لازار بالكلام.
“كنتُ أمزح. صحيحٌ أن نسيانكِ لي مؤلم، لكنكِ ذكيةْ وصاحبة عزيمة. ستتذكرين لاحقًا.”
فأدارت ديزيريا نظرها ثم تابعت.
“حسنًا. تعالَ من نافذة غرفتي. ليس من عادات تالوريا، بل من تقاليد فينسترطال، لكنكَ تعرف عادة الرجل الذي يأتي ليلًا، أليس كذلك؟”
“آه، تلك؟”
الرجل الذي يأتي ليلًا. عادةٌ يأتي فيها الرجل إلى غرفة المرأة في الليل.
إذا طرق الرجل نافذة المرأة فتفتح له. يتحادثان على السرير حديثًا وديًا، وإذا نامت المرأة عاد الرجل إلى بيته.
والمقصود بالحديث الودي هنا هو التحدث فعلًا بمتعة.
بطبيعة الحال لا ينعقد اللقاء إلا بين حبيبين، لكن لمس العذراء يُعد تصرفًا غير نبيل وفجًّا، أو هكذا يقولون.
مع أن الإصرار على هذا التوضيح كان كافيًا ليُظهر أنهم ينكرون الحقيقة بعناد.
“في الوقت الحالي سأكتفي بنقل الكلام فقط، وسنفعل الأمر على نحو صحيحٍ لاحقًا. أولًا….”
“يا هذا أيها المجنون!”
فجأة، اندفع بودوان من جهةٍ ليست طريقًا.
فأدارت ديزيريا وجهها إلى الأمام على عجل. وتظاهر لازار وكأن شيئًا لم يحدث.
ثم انفجر بودوان غاضبًا.
“كدتُ أموت وأنا أركض لألحق بكَ!”
“لا تبدو متعباً تحديدًا. يبدو أن الطريق المختصر كان سهلًا؟”
“هل هذا ما يُقال بعد أن تتركني وتمضي.…!”
ظل بودوان يلهث غيظًا ثم جلس على الأرض.
“كفى، لا داعي للكلام. ليست هذه أول مرة تُقدم فيها على أمرٍ من دون أن تخبرني.”
ثم نهض بودوان مستندًا إلى الأرض، وتقدّم وهو يتمتم.
فتجمّد جسد ديزيريا من الحرج الذي ظل عالقًا في الجو.
***
بعد أن تجاوز جيرار بوابة القلعة، التفت إلى الخلف. أراد أن يتأكد من عودة ابنته سالمة، لكنه قوبل بالرفض.
فما إن عثرت ديزيريا على المتأخرين حتى دفعت ظهر والدها قائلةً أنها ستتولى الأمر بنفسها، وطلبت منه أن يسبقها.
لم يكن عدم ثقته بابنته، لكن تركها مع رجلين غريبين لم يكن مريحًا له.
وخاصةً عندما رأى أحدهما يلتصق خلف ديزيريا، كاد يُغمى عليه. وقد قيل له أنه مصاب، فلم يستطع الاعتراض.
“أُرسل المصابون إلى الطبيب، والصيد انتهى فعليًا منذ مدة، فليذهب كلٌ في طريقه. سنلتقي في المأدبة.”
ما إن أعلن الحاكم ذلك على عجل حتى تبادل أوفيد وفابريس، ومعهما بضعة شبّان من نفس العمر، بعض الكلمات، ثم انفصلوا عن المجموعة.
ودأبلغ جيرار الحاكم بالأمر، لكن ردّ الخامم كان فاترًا.
“دعهم. أليسوا شبّانًا في فوران دمهم؟ واضحٌ إلى أين سيذهبون.”
فتصلّبت ملامح جيرار.
كما قال الحاكم، كانت وجهتهم واضحة، إما دار قمار أو بيت دعارة.
يُروَّج لذلك كبديل يمنع انحرافًا أكبر، لكن جيرار لم يستطع تقبّله.
أن يهدروا المال الذي جُمع بالعرق والدم على اللهو، وأن يُسمح بالبغاء الذي لم يكن يمارسه إلا المتوحشون من القدماء!
“تسك.”
نقر جيرار بلسانه بصوتٍ خافت لا يكاد يصل إلى الحاكم.
رغم أن الخطوبة الرسمية لم تتم بعد، كانت ابنته ديزيريا مُعيّنة كزوجةٍ مستقبلية لفابريس.
مجرد تخيّل أن رجلًا يتدحرج مع العاهرات سيتزوج ابنته يومًا ما، جعل الغضب يشتعل في صدره.
كان بإمكانه أن يجد لابنته زواجًا أفضل بكثير، لكن لسببٍ ما، كأن أحدهم شوّه سمعتها، فلم يتقدّم لها خاطبون آخرون.
وبينما كان جيرار يدير الأمر في رأسه، تحدّث معترضًا.
“أليس بين هؤلاء متزوجون؟”
“وما المشكلة في ذلك؟”
سأل الحاكم مستفهمًا، فطرح جيرار مبرراته بهدوء.
“ترك زوجةٍ ارتبط بها المرء بعلاقةٍ مقدسة، والذهاب عمدًا إلى عاهرة، أمرٌ لا يليق فعله لا أمام الزوجة ولا أمام الناس. والسيد أوفيد أيضًا مقبلٌ قريبًا على الزواج من السيدة النبيلة.…”
“ما المشكلة إن لم يُكشف الأمر؟ الجميع يفعل ذلك.”
لم يكن جيرار ينظر إلى أوفيد بعين الرضا أصلًا.
قيل أن أوفيد يعبث بخدم القصر بلا تمييز، لدرجة أن ذريعة الدعارة بوصفها وسيلةً لمنع الانحراف بدت فارغة المعنى.
منذ النظرة التي ألقاها على ديزيريا أثناء وضع خطة الصيد، كانت عيناه وقحتين.
رجلٌ يُفترض أنه متزوج، أو على الأقل ليس بعيدًا عن ذلك، لم يكن من اللائق أن ينظر إلى فتاةٍ صغيرة ستصبح زوجة أخيه بتلك الطريقة.
وبسماع مثل هذا الكلام من الحاكم، اتضح تمامًا من أين جاءت تلك الوقاحة.
فانعقد لسان جيرار.
“لو كنت أصغر ببضع سنوات لكنت ذهبت معهم، آه.”
تلمّظ الحاكم بذلك. بينما أطبق جيرار فمه بإحكام.
تساءل في نفسه إن كان من الصواب أن يُطلب منه التفاني في خدمة بيتٍ كهذا بحجة مستقبل العائلة.
و راوده شعورٌ بأنه يريد أن يأخذ عائلته ويفر ليلًا، غير آبه بعقده مع الحاكم من أساسه.
***
ما إن ظهر بيت الطبيب للعيان حتى أشرقت ملامح ديزيريا.
نزلت ديزيريا أولًا وساعدت لازار على النزول. و لم يكن لازار يريد الابتعاد عنها بعد، فاتكأ عليها متشبثًا، لكنها أبعدته وأشارت بذقنها نحو الباب.
“ادخل. هذا الرجل جديرٌ بالثقة.”
حاول لازار الوقوف مستقيمًا، لكن العرق البارد سال منه فعاد ينحني.
وعندما همّت ديزيريا باعتلاء الحصان، أمسك لازار باللجام.
“انتظري واذهبي معي.”
“لماذا؟”
“يبدو أنني سأحتاج لركوب الحصان مرةً أخرى. لا يمكنني المشي إلى القلعة بهذا الحال، أليس كذلك؟”
“حسنًا. سأنتظر هنا.”
ابتعدت ديزيريا وهي تقود الحصان. و دخل بودوان مع لازار إلى بيت الطبيب وهو يسنده.
وكما يليق ببيت طبيب، كان هناك تمساحٌ محنّط معلّق في السقف.
تفحّص الطبيب جراح لازار. و كانت هناك جروحٌ كبيرة وعميقة، وأخرى صغيرة مخدوشة.
“يا إلهي، لنقل أن الساق التي عُضّت يمكن تجاوزها، لكن لو ساء الأمر قليلًا لكنتَ فقدت القدرة على استخدام ذراعكَ اليمنى بالكامل.”
سأله الطبيب، إذ لم يظهر عليه ألمٌ شديد.
“ألا تشعر بالألم؟”
“أنا متينٌ بعض الشيء.”
قال لازار ذلك ببرود. فمال الطبيب برأسه متعجبًا وتحدث إلى نفسه.
“لديكَ الكثير من الندوب، هل لأنكَ اعتدت الإصابة فلا تشعر بالألم؟ لا، ليس هذا. هممم، نزف الدم كثيرًا، لكنه ليس خطيرًا كما يبدو.”
و لم يقل لازار شيئًا.
كان قد تناول مسكناتٍ بكثرة، ولا داعي لاستعراض معرفته بعلم العقاقير أمام الطبيب.
الأطباء، والكهنة، والعشّابون، والقابلات….كانت مجالاتهم تتداخل أحيانًا، وبعضهم يجمع أكثر من مهنة، بينما يتهم آخرون أهل المجالات الأخرى بالسحر.
لم يبدُ هذا الطبيب من أولئك المحرّضين الخطرين، لكن لازار آثر الصمت.
ثم سأل لازار بودوان.
“على ذكر ذلك، ماذا عن فطور الصباح؟”
فتفحّص بودوان ملامح الطبيب. و كان الطبيب منشغلًا تمامًا بلف الضمادات.
فصاح بودوان في لازار.
“لا أدري. أنتَ من تخلفتِ بعدما قررت فجأة أن تتشاجر مع دب.”
“وماذا كنتَ تريدني أن أفعل وهو يهاجم؟”
اتسعت عينا الطبيب عند سماعه كلمة دب. بينما فسّر لازار الأمر.
“صحيحٌ أن دبًا هاجمني، لكنه كان دبًا فتيًا في مرحلة ما بعد الاستقلال، فطردته.”
عندما انتهى العلاج، نهض لازار من مكانه.
و رغم أن مفعول الدواء كان يوشك على الزوال، لم يعد يشعر بألم يُذكر. و خرج إلى الخارج، لكن ديزيريا لم تكن هناك.
“ديزيريا؟ إلى أين ذهبتِ؟”
ارتبك لازار للحظة، لكنه رأى أن الحصان ما زال مربوطًا في مكانه، فاستنتج أنها لم تبتعد كثيرًا.
***
لم تشك ديزيريا يومًا في ضعف عقلها. كانت ذاكرتها قويةً بما يكفي لتراكم الضغائن تجاه فابريس بسبب حوادث صغيرة تافهة.
ومع ذلك، عجزها عن تذكّر أمرٍ مهم يربطها بلازار جعلها تشعر وكأنها أصبحت حمقاء تُثير الشفقة.
إذا كانت تريد تغيير المستقبل، فعليها أن تبدأ بتغيير الحاضر، ولم يكن لديها وقتٌ للتشبث بذكريات الماضي.
و لعدة أيام، لم تنم جيدًا وهي تصارع الذكريات المرعبة التي أحاطت بالحرب.
“أشعر وكأنني أغفل عن شيءٍ ما.…”
لم تكن غرابة لازار مقتصرةً على أمرٍ واحد.
رغم أن الأمور سارت بسلاسةٍ بحكم الموقف، راودها شكٌ في أن اقتراحها الزواج فجأة لم يكن تصرفًا طائشًا.
صحيحٌ أنه كان خيارًا لتجنب أسوأ اختيارٍ ممكن، وهو فابريس، وتبعاته، لكنها شعرت وكأنها تزج بنفسها في أمرٍ خطير دون معرفةٍ كافية.
وفي مجال رؤية ديزيريا، التي كانت تسند ذقنها بيدها، ظهر طرف تنورةٍ وزوجٌ من الأقدام.
كانت تلك الخطوات المتمايلة تبدو غير مستقرةٍ على نحو مقلق.
_________________
طيب وش صار عالزواج؟ ماقال ايه او لا😂
يضحك قاعدين يتكلمون عن الدب والفطور طلع شفرات بينهم واضح
واوفيد ذاه طلع تبن؟ وجع صدق ابو ديزيريا وش جابهم مع ذولا وع
المهم شكل شعر ديزيريا صدق بني زي الغلاف ولا صبغته؟ لأن حسبتها بتطق مع لازار وتصبغ بس اذا كان رسمي ليه تطق؟
بتأكد من ترجمة لون شعرها واعلمكم
كح
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 6"