شدّت ديزيريا على أسنانها حتى آلَمها فكّها.
لم يعد الأمر استعجالًا، بل أشبه بإخطارٍ مفروض. كانت قد قالت أنها تحتاج إلى وقت، فكم استخفّ بكلامها إذًا.
“حاولتُ منعه من الحضور ليراقب استعدادكِ بنفسه، لكنّه قال أنه إن تأخرتِ فليُحضِروكِ بالقوة.”
عند كلمات الخادمة، تجهم وجه ديزيريا.
أن يُحضِروها بالقوة؟ يا له من اختيارٍ فظّ للألفاظ.
كأنها زوجة فلاحٍ يأمر ابنَه أن يذهب إلى السوق ليجلب بقرة. تعبيرٌ رخيص حقًا، يدل على انعدام الصبر، بل وانعدام الذوق أيضًا.
“سآتي حالًا. سأدرّب الصقر،لذا لن أخصّص وقتًا طويلًا.”
“حسنًا. سأبلغه أن ينتظر قليلًا.”
غادرت الخادمة. و لم تحتج ديزيريا إلى التفكير كثيراً في اختيار ملابسها.
بدّلت ثيابها على عجل. فلم يكن هناك ما ستجنيه من الظهور بمظهر جميل. ورغم أنها ارتدت تنورة، إلا أن هيئتها بدت أقرب إلى بحّارةٍ أو صيّادين.
آخر ما ارتدته كان قفازين سميكين من الجلد.
كان إينياس صغير الحجم، غير ثقيل، لكنّه في النهاية طائرٌ جارح، مخالبه حادّة وقبضته قويّة.
هو طائرٌ ذكي ولن يؤذي صاحبه عمدًا، لكن الحذر لا يضر.
وهي تلاطف إينياس،توجّهت ديزيريا نحو القسم الداخلي حيث يقيم فابريس.
“خرجتِ بسرعة.”
قال فابريس ذلك وهو يعقد ذراعيه.
نظرت ديزيريا إلى الخدم والفرسان المرافقين له. و هزّ أحد الخدم كتفيه بخفّة وكأنه يقول لا حيلة لي.
“ما هذا الزي؟ ألم تسمعي أننا ذاهبون لاختيار هدايا الزواج؟ ولماذا تحملين صقرًا أصلًا؟”
عند كلمة “صقر”،أطلق إينياس،وهو من العوسق*، صرخةً حادّة وكأنه غضب. ولعل السبب الحقيقي لم يكن الكلمة بحد ذاتها، بل النبرة الخبيثة في كلام فابريس.
*العوسق نوع من الصقور صغير ويسمى صقر الجراد او الباشق وفيه اختلافات واضح بينه وبين الصقر عشان كذا عصب اينياس
فاختلقت ديزيريا عذرًا مناسبًا.
“ما زلتُ أدرّبه. لم أخرجه ليستفز أحدًا، ولا حاجة للتزيّن بالحُلي.”
“تفو. لا وقت لتبديل الملابس، انطلقي.”
***
تساءلت ديزيريا إن كان إحضار إينياس فكرةً سيئة، لكن بفضله لم تضطر إلى ركوب العربة نفسها مع فابريس.
كان إينياس هادئًا حتى دون غطاء للعينين، لكنه تبدّل فجأةً عندما همّت ديزيريا بالصعود إلى العربة.
أخذ يصرخ ويرفرف بجناحيه بعنف، فاضطرت ديزيريا إلى ركوب حصانٍ منفصل.
عند وصولهم إلى حيّ الورش، سلّمت ديزيريا لجام الحصان لأحد الفرسان، الذي أخذ الخيول والعربة إلى النُزُل.
جاء الخادم بصندوقٍ لوضع الصقر فيه. و أدخلت ديزيريا إينياس الصندوق، ثم دخلت ورشة الحُلي.
ى كان صاحب الورشة مختلفًا عن صاحب المتجر الذي اشترت منه خاتم لازار، يبدو عليه الهدوء والتمهّل.
“اختاري.”
قال فابريس ذلك بإيماءةٍ من ذقنه.
“ألم تكن تتذمّر من قلة المال؟”
“لا أريد إنفاق الكثير، لكن إن كان رخيصًا فسيتحدث الناس. أنتِ من تتجولين بمظهرٍ بائس، لكنهم سيسبّونني أنا، ويقولون أن الزوج بخيل أو مفلسٌ لأنه لا ينفق على زوجته.”
رغم كلامه، كان فابريس يتعمّد إخفاء القطع الأغلى عن نظر ديزيريا.
و نظرت ديزيريا إلى الحُلي الذهبية. مهما كانت براقة، فهي في النهاية لا تختلف عن القيود.
ألم يكن يُقال أن بعض الدول القديمة كانت تميّز العبيد بالخواتم أو القلائد؟
قيود من ذهب….هذا مرفوض.
“هل هذا كل شيء؟”
جالت ديزيريا بنظرها البارد في الورشة. فتلعثم صاحب الورشة، وهو الصانع والبائع في آن واحد.
“نـ، نعم. هذا كل ما لدينا. ألا يعجبكِ شيء؟”
“كلها مزخرفةٌ فقط، وتفتقر إلى العملية.”
تعرّق صاحب الورشة بغزارة.
الحُلي تُلبس للزينة،فإن كانت فاخرةً كفى، لماذا تتحدث عن العملية وكأنها أدوات عمل؟
“هناك أنواعٌ تُستخدم للدفاع عن النفس أو للتخدير. الدفاعية لا تكون من ذهبٍ خالص لأنه طري، فنستخدم سبائك. أما التخديرية فهي على هيئة علبة صغيرة تحوي عطرًا،وتتطلب عملاً دقيقًا.…”
شعرت ديزيريا بالأسف لأنها تضايق صاحب الورشة بلا ذنب. ربما كان عليها أن تعود لاحقًا لترى إن كان هناك ما يستحق الشراء، أو لترشّح زبونًا آخر له.
لكن إن كانت تريد منع فابريس من الشراء الآن، فلا بد من بعض القسوة المؤقتة.
“ألا يمكن الجمع بينهما؟ تكون صالحةً للدفاع والتخدير معًا،لكن دون أن تبدو فظة الشكل.”
“سأبحث في الأمر.”
بدا صاحب الورشة على وشك البكاء. عندها انفجر فابريس غضبًا.
“آه، يكفي! اشتري أي شيء!”
أمسك فابريس بقلادةٍ قصيرة جدًا تكاد تكون بطول طوق العنق. فتراجعت ديزيريا بجسدها مانعةً إياه من إلباسها.
كانت تتذكر كيف كادت تُعدم لمجرّد تخيّل طوقٍ حول العنق، ولو وُضع هذا على رقبتها لأصابها تشنّج.
ثم أيّ هدية زواجٍ تبدأ بقلادة خانقة بدل خاتم، وفوق ذلك ليست حتى بمقاس الأميرات؟
“إن كانت هدية زواج وسأرتديها دائمًا، أترى أنه يصح شراؤها باستخفاف فيجلب الشؤم؟”
ردّت ديزيريا بحدّة. وانحاز صاحب الورشة إلى جانبها.
“صحيح. ينبغي شراء ما يُرضي من البداية، وإلا ساء الخاطر واضطررتم للعودة والتعب مرةً أخرى.”
كان صاحب الورشة قد شهد كثيرًا من شجارات الأزواج بسبب هدايا الزواج، وبحكم الخبرة كان الوقوف إلى جانب المرأة هو الخيار الأسلم.
كثيرًا ما كان الرجال يطالبون بالأغلى والأكثر بهرجة بدافع التفاخر. وحين يُقال لهم أن هذا المتوفر، يغادرون فورًا أو يختارون أقرب شيءٍ يرضيهم.
لكن هذه المرة، كان الطلب مختلفًا فعلًا. و شعر صاحب الورشة كأنه التقى زبونةً نادرة تشعل فيه روح التحدي بعد زمنٍ طويل.
“سأصنع لكِ ما تريدينه بالتأكيد، فقط امنحيني بعض الوقت.”
قال صاحب الورشة ذلك.
وقبل أن يتمكن فابريس من الاعتراض، بادرت ديزيريا بالكلام.
“شكرًا لكَ. سأتواصل معكَ لاحقًا. لديّ ما يشغلني، وعليّ الانصراف الآن.”
“ماذا؟ ستغادرين الآن؟”
“قلتُ لكَ أنني لا أملك وقتًا طويلًا. لا يصح أن تبلّغني فجأةً ثم تطلب مني تنسيق جدولي.”
أغلقت ديزيريا باب الورشة وخرجت قبل أن يلحق بها فابريس حتى.
***
وضعت ديزيريا إينياس على مجثمٍ داخل الغرفة، ثم توجهت لتناول العشاء. و جلست عائلة الحاكم وديزيريا بحسب التراتبية.
ما إن جلست ديزيريا في المقعد المقابل حتى افتعل فابريس شجارًا.
“حضرتِ في الوقت المناسب؟ هل نجح تدريب الصقر؟”
و أجابت دون أن تلتفت إليه.
“كان ناجحًا بما فيه الكفاية.”
ثم تدخّل الحاكم الجالس في صدر المجلس.
“خفّفي من هواياتكِ مثل الصيد بالصقور، واهتمي بدروس إعداد العروس.”
فتكلّفت ديزيريا ابتسامةً خفيفة، تحاول إخفاء انزعاجها وألا يبدو كلامها ساخرًا.
“لا يمكنني قضاء اليوم كله في الخياطة أو إدارة الأراضي، أليس كذلك؟ لا بد من بعض الهوايات.”
هذه المرة أضافت زوجة الحاكم،
“يمكنكِ ترك ذلك للخدم. إن أرهقتِ نفسكِ نهارًا، فلن يبقى لديكِ وقتٌ لزوجكِ ليلًا.”
لم تكن تقصد سوى شيء واحد: لا حاجة لشيءٍ سوى أن تلتزم الصمت وتنجب الأطفال.
وحين ذُكر الحديث عن الليل، أظلم بريق نظرة فابريس.
و تجاهلت ديزيريا الأمر قدر استطاعتها، لكن النظرة اللزجة جعلت معدتها تنقبض.
“حين تحملين، سيزول عنكِ التعب من تلقاء نفسه على ما يبدو-”
“كُلْ طعامكَ فقط.”
ردّت ديزيريا بحدّة.
و ربما سيوبّخونها ويأمرونها بالجلوس، لكنها رغبت في النهوض فورًا.
حتى قبل عودتها إلى الماضي، لم تنم مع فابريس قط، لكن الإهانات بسببه لم تكن مرةً ولا اثنتين.
“هل أصبتِ بالهذيان؟ لم أنظر إليكِ لأنكِ جميلة.”
رغم هذا الكلام، كان يتفاخر أمام الآخرين بحياته الليلية وكأنه بطلٌ لا يُجارى. و كانت فكرة أن تصبح مادةً لاستعراض رجولته مقززة للغاية بالنسبة لديزيريا.
هل يظن نفسه ملكاً؟ لا وسامة، ولا مكانة، ولا لطف.
وحين فكّرت في الأمر،وجدت أن السبب يشبه تمامًا ما جعلها تستحي من وصف زواجها من لازار بزواج مصلحة.
مهما بلغ بها القلق من أن تُنبذ، لماذا تعلّقت إلى هذا الحد بشخصٍ لا يملك ما يُذكر؟
أجابت ديزيريا بفتور أنها فهمت. فلم يكن لديها أي نية لحياة زوجية مع فابريس.
ومع ذلك، لم يزُل الاشمئزاز، فشبكت أصابعها فوق ركبتيها.
“ديزيريا، ما هذا السلوك؟ إخفاء اليدين تحت الطاولة أثناء الطعام ينافي الآداب.”
وبّخها الحاكم. وفي الوقت نفسه، كان يداعب زوجته بقدمه تحت الطاولة. لم يكن من الصعب تخمين ما يحدث.
أخذت ديزيريا نفسًا عميقًا، وأمسكت بالسكين، ثم توقفت. و حاولت منع نفسها من شدّ قبضتها، فسقط السكين على الأرض.
“سأحضر لكِ واحدًا جديدًا.…”
تقدّم أحد الخدم الذين قدّموا الطعام، لكن قبل أن يخطو خطوة ثانية، رفعت ديزيريا يدها معتذرة.
“لا، لا بأس.”
فالتفتت الأنظار إليها باستغراب. و انحنت ديزيريا لتلتقط السكين من الأرض. و عاد الحاكم يسأل بحدّة،
“ماذا تفعلين؟”
استقامت ديزيريا مجددًا بهدوء. و كان وجهها خاليًا من التعابير، تلفّه برودةٌ واضحة.
“هل وُضعت هذه القواعد التي تسمونها آدابًا خشية أن يعبث الطرف الآخر تحت الطاولة. أم تخشون أن أستخرج سلاحًا فجأةً وألقيه عليكم؟”
_____________________
والله يبي لها طلعي لهم شدقن وسوي حفلاااااااااااه
يوم راحت تطلع مع فابريس حسبت درا انها شرت خاتم بس نسيت انه خيخه هااهاهت
بعدين لازار وينه؟ حسبته بيتبعها😔
والحمير ليه غصب ااكل معهم مب زوحك ولدكم ترا
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 19"