رفعت ديزيريا نظرها إلى يورغن. بدا أن تجاهل فابريس والمضيّ قدمًا سيكون أفضل.
“لنذهب.”
أشارت ديزيريا بذقنها نحو ميدان الرمي. بينما كان فابريس منشغلًا بتفريغ غضبه في أحد الخدم الذين رفعوا أيديهم، حتى أنه لم يلحظ مغادرتهما.
***
وصلا ديزيريا ويورغن إلى الساحة المفتوحة المستخدمة ميدانًا للرمي. و ناولها يورغن القوس النشّاب.
“أمسكيه للحظة.”
أخذت ديزيريا القوس النشّاب وقدّرت بعينيها المسافة. بدا أنها بحاجةٍ للتقدم نحو خمس خطواتٍ إضافية لإصابة الفزّاعة.
و عاد يورغن بعد تفقد الفزّاعة، ثم توقف بدلًا من أخذ القوس منها، وناولها رافعة قدم الماعز.
“أتودّين التجربة بنفسكِ؟”
شحنت ديزيريا القوس النشّاب ووجّهته نحو الفزّاعة. فانطلق السهم واخترق رأسها المصنوع من القش، ثم سقط بعيدًا بعد برهة.
“قوة الاختراق أقوى مما توقعت.”
أخذت ديزيريا تفحص القوس النشّاب من كل زاوية. و كان مستواه قريبًا جدًا مما سيكون عليه بعد ثلاث سنوات.
“سلاحٌ جيّد. الناس يؤذون أنفسهم به لكثرة العبث، لذا يصفه المعبد بسلاح الشيطان.”
قال يورغن ذلك بلغة فينسترتال. وبما أن هاينتس لا يراقب، وقد علم أن ديزيريا تفهم لغته، قرر التحدث براحة.
“هذا صحيح. ليس كثيرٌ من الفرسان يملكون ما يكفي لارتداء دروعٍ صفائحية كاملة، لذا يُقال أنه يشكّل تهديدًا لهم. وربما لأن أصله يعود إلى البدو أيضًا.”
أومأ يورغن موافقًا، فيما أعادت ديزيريا شحن القوس النشّاب برافعة قدم الماعز.
“ومعدل الإطلاق بطيءٌ بحكم البنية، لكن إن خفّ وزنه أكثر ستضعف قوة الاختراق، أليس كذلك؟”
“من حيث قوة الاختراق وحدها، القوس النشّاب لا يختلف كثيرًا عن القوس. لو كان بلا عيوب، لاستُبدلت الأقواس كلها به منذ زمن.”
هزّت ديزيريا رأسها. كان كلامه صحيحًا. ميزة القوس النشّاب الكبرى هي سهولة استخدامه مقارنةً بالقوس، لكنه مليءٌ بالعيوب: غالٍ، حساس للرطوبة، وبطيء الإطلاق.
وإن كان له فضلٌ آخر، فهو إمكان الرمي من وضعية التخفّي أو الزحف.
“هل نختبر قوة الدرع أيضًا؟”
علّق يورغن درع صدرٍ لم يُعرف من أين أتى به على الفزّاعة.
“لم لا.”
و انطلق سهم من القوس المشحون، فترك أثرًا غائرًا صغيرًا وارتدّ.
لو كان درعًا حلقيًا لاخترقه، أما الدرع الصفائحي فكان فوق طاقته.
“إنه متين.”
“لأنه من صُنع يدي.”
عقد يورغن ذراعيه وارتسم على وجهه تعبيرٌ فخور.
درعْ يصمد أمام قوس نشّاب ممتازٍ كهذا يمكن بيعه بثمنٍ باهظ.
أخرجت ديزيريا قوسها الذي اعتادت حمله. و حتى السهم المنطلق من قوس عادي لم يترك أثرًا يُذكر على الدرع الصفائحي.
“غريب….لماذا جاء أناسٌ بهذه المهارة من فينسترتال البعيدة إلى مكانٍ كهذا؟”
تمتمت ديزيريا وهي تذهب لالتقاط السهام. و راقبها يورغن بصمت.
كانت فتاةً غريبة بحق. لا تتقن لغة فينسترتال فحسب، بل تمتلك معرفةً عميقة بالأسلحة أيضًا.
“لو عرّفتها على يوليا، لربما أحبتها.…”
تذكّر شقيقته يوليا التي بقيت في فينسترتال.
“وماذا عن يوليا؟”
ثم ظهر هاينتس فجأةً وضرب يورغن على ظهره.
“هذه السيدة غير عادية. أظنها ستنسجم مع يوليا.”
“أيها الأحمق، هذه ابنة قائد الفرسان، وخطيبة الحاكم المستقبلي! أتظن أنها ستخالط يوليا التي رفضت المجيء معنا إلى تالوريا؟!”
كان هاينتس يوبّخ ابنه حين لمح ديزيريا عائدةً وهي تحمل درع الصدر.
“همم، يبدو أن اختبار السلاح نجح. لكن لماذا تحمل الآنسة كل هذا بنفسها؟”
“لأنها هي من قامت بكل شيء.”
“ماذا؟!”
ألقى هاينتس المنشفة التي كان يمسح بها يديه على الأرض، ثم عاد فالتقطها وحكّ رأسه.
“ظننتها جاءت للمشاهدة فقط.”
“من وقفتها عرفت أنها ليست عادية، فطلبت منها أن تجرّب بنفسها، وكانت بارعة. قالت أنها تريد شراء قوس نشّاب، فقلتُ لها تأخذ هذا.”
“أوه.”
ردّ هاينتس بإعجاب وهو يتأمل ديزيريا، ثم التفت فجأة إلى يورغن.
“إذًا، ماذا كنتَ تفعل أنتَ؟”
فهرب يورغن نحو ديزيريا بوجهٍ مرتبك. و ناولته ديزيريا الدرع دون أن تفهم ما يجري.
“يورغن، قد أحتاج إلى التواصل معكَ لاحقًا، لستُ متأكدةً بعد.”
“ولماذا أنا تحديدًا؟”
“أحتاج إلى شخصٍ ينقل لي أخبار هذا المكان أثناء غيابي.”
إذا تراجع فابريس عن إتمام زواجه منها، فسيتقدم لخطبة امرأةٍ أخرى، وحينها ستحتاج ديزيريا إلى من ينقل لها الأخبار لتفسد الأمر.
“حسنًا….فهمت.”
“شكرًا لكَ. إلى اللقاء.”
ثم اتجهت ديزيريا مجددًا نحو ورش الحُليّ.
لحسن الحظ، بدا أن فابريس قد غادر مبكرًا، فلم يكن في أي مكان. و تسللت بحذرٍ إلى داخل ورشة الحُليّ.
“مرحبًا ب….آه؟ أليست هذه زوجة السيد الثاني؟”
تفاجأ صاحب الورشة حين رآها. لابتسمت ديزيريا ابتسامةً محرجة.
“أمم، في الواقع.…”
“زوجكِ كان هنا قبل قليلٍ وغادر.”
“أعلم. وهو ليس زوجي، مجرد شخصٍ نتبادل معه حديث زواج. بصراحة، لو أُلغي الأمر لما كان ذلك غريبًا.”
“إذًا لماذا….آه! هديةٌ مفاجئة؟”
تلألأت عينا صاحب الورشة. فارتبكت ديزيريا. فلم تكن هديةً لفابريس، ولا مفاجأة من الأساس.
أن يُساء فهمها على أنها تهتم به سرًا بينما تتصرف ببرودٍ أمامه كان أمرًا مزعجًا، لكنها لم تكن تملك وقتًا لشرح التفاصيل.
وضعت ديزيريا إصبعها السبّابة برفق على شفتيها. ففهم صاحب الورشة الإشارة وهزّ رأسه.
“شيءٌ صغير الحجم….لكنه باهظ الثمن.”
“خاتم؟”
“خاتم؟ ذلك مناسبٌ أيضًا.”
فكّرت أن تدفع المال مباشرةً كثمن للصفقة، لكن الخاتم بدا خيارًا جيدًا. صغيرٌ ويسهل إخفاؤه، ويمكن الادّعاء أنها اشترته لتلبسه في الإبهام، أو أنه هديةٌ لوالدها.
فأحضر صاحب الورشة صندوقًا مليئًا بالخواتم.
نظرت ديزيريا إلى يدها. فحين ترث النساء خاتمًا من والدهن أو ما شابه، وغالبًا ما يكنّ خواتم رجالية، يلبسنه في الإبهام.
وعندما تذكّرت يد لازار التي لامستها للحظة أمس، بدا لها أن إصبعه البنصر سيكون أسمك حتى من إبهامها.
‘بأي مقاسٍ تأتي الخواتم الرجالية؟’
وحين ظلت ة ديزيريا صامتة تفكّر، أسدى صاحب الورشة نصيحته.
“إن لم تكوني متأكدة، اختاري الكبير أولًا. يمكن تصغيره لاحقًا.”
“حسنًا.”
اختارت ديزيريا خاتمًا بسيطًا إلى حدٍ قد يجعله يبدو خشنًا لو أسيء وصفه، أنيقًا بلا أي زخارف. و هناك كان حجرٌ كريم واحد ينسجم بسلاسة مع المعدن، كأنه مخبوءٌ في سطحه الأملس.
“لنأخذ هذا.”
مدّت ديزيريا المال، فوضع صاحب الورشة الخاتم في علبته ودفعها نحوها.
لم يمنحها لازار جوابًا حاسمًا حين قالت أنها تريد تكليفه بمهمة. و لم تكن تعرف ما الذي يريده منها، لكنه في النهاية مرتزق، وربما إن عرضت عليه المال سيوافق.
لم يكن ما أبداه من رغبةٍ في إنقاذها مجرد إحساس سطحي بالعدالة، فهذا لا يفسّر تصرّفه. لكنها لم تشأ أيضًا أن تتعلّق بأمل فارغ وتظنه نابعًا من مشاعر.
هذا الخاتم هو ثمن الصفقة مقابل مساعدتها على الهرب من فابريس بذريعة الارتباط برجلٍ آخر.
و حملت ديزيريا علبة الخاتم، راجيةً أن تتمكن، ولو بهذا، من استمالة لازار.
***
دخل لازار الحانة التي يديرها صاحب النُزل إلى جانب عمله.
“كنتُ أتساءل أين اختفيتَ، لكن يبدو أنكَ حضرت أمر التجمع كما ينبغي؟ وهل أعددتَ الرشوة جيدًا؟ ماذا اشتريتَ؟”
ما إن جلس لازار حتى أمطره بودوان بالأسئلة. و شعر لازار فجأةً بأن كل شيءٍ بات مرهقًا، فأجاب دون أن يلتفت إليه.
“قالوا أن الطلبات متراكمة، فلم أستطع الشراء. ستضطر للذهاب أنت لاحقًا لاستلامها.”
“ماذا؟ حتى مثل هذه المهمات التافهة ستكلّفني بها؟”
“إنه غرضٌ مهم، ولهذا أوكلته إليكَ.”
كاد بودوان يتذمّر أكثر، لكن خادم الحاكم طرق الباب. فخرج قائد المرتزقة، الذي كان قد جمعهم في الحانة، لمقابلة الخادم قليلًا.
بعد أن أنهى حديثه وأعاد الخادم، التفت القائد إليهم.
“الحاكم يطلب لقاءً رسميًا. ألا يوجد من يرافقني؟”
تجنّب المرتزقة جميعًا النظر. ثم رفع أحدهم يده.
“و المساعد.…؟”
“لقد هرب.”
فأنزل المرتزق يده. و فرك القائد رأسه بعصبية.
“سأختار أي شخصٍ طويل القامة ومخيف المظهر، أو وسيمًا، لذا كنتُ أفضل أن يتطوّع أحدكم قبل ذلك.”
كان واضحًا أنه يريد من لا يُهزم في صراع الهيبة.
وقد بقي لازار ساكنًا في زاويةٍ لا تلفت الانتباه.
“قائد الفرسان يمكن التفاهم معه، لكن ذلك الحاكم غريب الأطوار حقًا. صحيحٌ أنه سيحضر، لكن قائد الفرسان ليس من النوع الذي يستطيع السيطرة على الحاكم.”
عند ذكر قائد الفرسان، نهض لازار من مكانه.
أراد أن يلتقي جيرار، والد ديزيريا، مرةً واحدة على الأقل. وبعد انتهاء اللقاء الرسمي، قد يجد فرصةً لحديثٍ قصير.
“سأذهب أنا.”
فأشرق وجه قائد المرتزقة حين رآه.
“أوه، ممتاز!”
________________________
اكيد ممتاز فيه كل المواصفات😂
وذاه يورغن تحمست لأخته يارب صدق ديزيريا تشوفها ابيهم يجتمعون
المهم بسرعه ابي اشوف ردة فعل لازار لاشاف الخاتم😂🤏🏻
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 16"