“أعلم. ولهذا يستغلني في أعمال التجسس فحسب. لا بأس. شرفه الشخصي يعني له الكثير، وليس من النوع الذي يتهور إلى حد قتلي علنًا.”
أومأ بودوان برأسه.
“حين تضعها هكذا، يبدو الأمر منطقيًا. لن يمانع على الأرجح في سقوط نبيل آخر من تالوريا، بل قد يسرّه الأمر. ثم إن قلعة فاسيديا ليست ذات شأنٍ كبير حتى داخل تالوريا.”
“قلت لكَ، لن أقتله. لا ينبغي أن يتطاير الشرر ليصيب أشخاصًا لا علاقة لهم بالأمر.”
في هذا الوضع، لو قُتل فابريس أيضًا، فقد تُوجَّه الشبهة إلى عائلة ديزيريا.
كان يتوقع أن تدّعي عائلة الحاكم الذهاب إلى المصح هربًا من تهديدات الاغتيال، لكنهم، على غير المتوقع، تظاهروا بالصمود.
خطرت له فكرة التذرّع بأن هدف الاغتيال التالي قد يكون ديزيريا، لكنه لم يستطع أن يأخذها وحدها ويترك عائلة الحاكم القذرة هذه باقية.
نهض لازار أولًا، فنهض بودوان على عجل.
“إلى أين الآن؟”
“أظن أن المراقبة كافيةٌ إلى هذا الحد. لدي شيءٌ أريد طلبه من السوق، يمكنكَ أن تبقى وتتسلى إن شئت.”
“ماذا ستشتري؟”
“هديةٌ مطلوبة بحكم الإجراءات.”
“رشوة؟”
“يمكن اعتبارها رشوة، لكنها على أي حال من المقتنيات الثمينة.”
كان بودوان يهمّ بترتيب المكان، ثم هز كتفيه وجلس مجددًا. بينما راقب لازار العاهرة وهي تُدفَع خارجًا على يد القوّادة العجوز.
ترنّحت المرأة إلى جانب الطريق، وبدت ملامحها شاحبةً من سوء ما لاقته من فابريس.
شعر لازار بأن دمه يغلي. لم يكن ضرب الناس أمرًا يمكن التغاضي عنه، لكن التفكير فيمن أسقط فابريس صورته على هذه المرأة جعله أكثر غضبًا.
دار لازار حول المبنى ومرّ بجانبها.
“إن اضطررتِ يومًا للبحث عن فابريس، فاسألي أولًا عن أليس. خادمةٌ تعمل في القلعة الداخلية.”
التفتت العاهرة بدهشة، وقبل أن تسأل عما يعنيه، كان لازار قد اختفى.
تذكّر لازار ما سمعه من أليس عن عربدة أوفيد. وفابريس على الأغلب لن يفعل أكثر من الدفع وينصرف بلا أي مسؤولية، تمامًا مثل أخيه.
شعر بالأسف لأنه اضطر إلى مشاهدة ما تعرّضت له، لكنه كان يستطيع أن يمنحها فرصةً للانتقام من فابريس.
ويبدو أن أليس نفسها كانت تضمر نية قتل الحاكم أصلًا، فليمت الجميع إذاً بسبب أفعالهم.
***
توجّهت ديزيريا إلى الشارع الذي تصطف فيه ورش الحرفيين.
كانت قد أهملت القوس النشّاب لعدم حاجتها إليه مؤخرًا، فانتهى به الأمر معطّلًا. و كانت بحاجةٍ إلى واحد جديد، كما كان عليها أن توفّر أجر المهمة التي ستدفعها للازار.
“ما هذا؟ لماذا أنتِ هنا؟”
رفعت ديزيريا رأسها. و كان فابريس، يرافقه عددٌ من الخدم.
وعند التأمل، لا بد أنهم إخوة، فأوفيد وفابريس متشابهان في الملامح: شعرٌ أشقر مائل إلى الحمرة، وعيونٌ خضراء بلون الماء الآسن. نظرةٌ مغرورة، وطبعٌ عنيد يبعث على الرغبة في صفعه.
فتمنت لو أن فابريس مات هو أيضًا مع أوفيد.
“وأنتَ، لماذا أنتَ هنا أصلًا؟”
“بما أنني سأخطب قريبًا، جئت لأتفقد الهدايا مسبقًا.”
قال فابريس ذلك بزهو. و لم تمدحه ديزيريا أبداً.
كان كاذبًا. فابريس لم يمنح ديزيريا حتى هدية ميلادٍ واحدة، بينما كان الآخرون يغدقون الهدايا على من يسعون لخطبتهم.
“غريب.”
قالت ديزيريا ذلك بصوتٍ منخفض من دون أن تنظر إليه. و وحده الخادم الواقف إلى جانبه بدا مضطربًا.
“سـ، سيدي، مثل هذه الأمور من الأفضل إبقاؤها سرًا إلى حين.…”
همس الخادم لفابريس. و لم تكن ديزيريا تتوقع مفاجآت من هذا النوع أصلًا.
رجلٌ يتشاجر معها إن أنفقت مالها على نفسها، لن يشتري لها شيئًا كهذا. بل إن القول أنه جاء ليشتري هديةً لعشيقة سرية كان أقرب إلى التصديق.
كانت تنوي المرور على ورشة الحُليّ بعد الحداد، لكنها لم تشأ أن تخبره. فلو قالت أنها جاءت لشراء خاتمٍ رجالي، لظنّ أنه له وراح يبالغ في الفرح، ولم تكن تريد رؤية ذلك.
“على أي حال، أنجز عملكَ واذهب.”
قالت ديزيريا ببرود. فتصلّب وجه فابريس وكأن الغضب صعد إليه.
“إذًا لماذا أتيتِ أنتِ؟”
“لشراء سلاحٍ جديد.”
“بطولة الصيد انتهت، أي سلاحٍ هذا؟”
و تذكّرت ديزيريا كيف فرّ فابريس هاربًا وقت الحرب، فنقرت بلسانها.
“هل أحتفظ بالمكسور إذاً؟ ما فائدة شيءٍ يشغل المكان فقط؟ هذا ليس ترفًا، بل حاجة. اذهب واعتنِ بأموركَ.”
فقطّب فابريس حاجبيه.
لو كانت ديزيريا القديمة، لقالت أنه لا بأس، وإنهما سيتزوجان قريبًا، فليتجولا معًا. لكنها الآن كانت تحاول إبعاده عنها بوضوح.
دخلت ديزيريا الزقاق الذي تقع فيه الحدادّة قبل أن يلحق بها. ولم تتبعها خطوات فابريس ولا خدمه.
وحين اطمأنت واستدارت، و كادت تصطدم بمجموعة من الأطفال.
“يورغن غبي!”
“مرّت ثلاث سنواتٍ تقريبًا منذ هاجر إلى تالوريا، ومع ذلك لا يتكلم لغة تالوريا إطلاقًا!”
توقفت ديزيريا عند سماع اسم يورغن. فقد كان أحد القادة السبعة في حصار القلعة.
كان فرسان النخبة قد أُرسلوا مع والدها إلى مكانٍ آخر أو خرجوا لحراسة فابريس، لذا اضطرت إلى اختيار ستة أشخاص على عجل.
معها، كانوا سبعة: أربعة رجال وثلاث نساء، خليطًا غريبًا من النبلاء والأحرار والأقنان، ومع ذلك صمدوا في الحصار.
و على الجانب الآخر من الطريق، كان هاينتس الحداد، والد يورغن، يصرخ.
“يورغن!”
“ماذا، يا أبي؟”
أجاب يورغن بلهجةٍ غريبة لا تخلو من لكنة.
“كفّ عن اللعب مع الأطفال وتعال إلى هنا لتطرق الحديد!”
“هذا ليس لعبًا.…”
عجز يورغن عن الكلام، فهزّ رأسه بقوة.
لم يجد ردًا مناسبًا بسبب محدودية مفرداته. فأخذ الأطفال الذين كانوا يلاحقونه يثرثرون.
“يورغن أحمق لا يعرف حتى كيف يتكلم!”
“أحمق!”
“أحمق؟ أيها الصغار!”
“قال صغار، هذا مضحكٌ فعلًا!”
أطلق يورغن شتيمةً بلغة فينسترتال. فانفجر الأطفال ضاحكين وفرّوا هاربين.
و عندما اختفوا تمامًا بعد أن وجدوا تسليةً أخرى، دخل يورغن إلى الحدادّة. و تبعته ديزيريا. و لفح وجهها هواءٌ ساخن اندفع من نار صهر الحديد.
لم يعر هاينتس ولا يورغن وجود ديزيريا اهتمامًا. وقد كان هاينتس يطرق كتلة الحديد فوق السندان وهو يصرخ بأعلى صوته.
“أيها الوغد، ألم أقل لكَ أن تدرس اللغة هنا في أوقات الفراغ؟ ألم أقل؟!”
وبّخ هاينتس ابنه وهو يناوله القوس النشّاب.
“كفى، خذ هذا واذهب لاختبار أدائه!”
“إلى أين؟”
“تصرّف بنفسكَ!”
سمعت ديزيريا يورغن يسبّ والده بصوتٍ خافت، واصفًا إياه بالعجوز العنيد. و بدا أن هاينتس لم يسمع شيئًا وسط ضجيج المطارق.
فاستوقفت ديزيريا يورغن وهو يهمّ بالخروج حاملاً القوس النشّاب بإهمال.
“أتريد مساعدة؟”
“من أنتِ؟”
“ابنة قائد الفرسان.”
أخرجت ديزيريا خنجر القتال القريب، و مسحته مرةً ثم أعادته إلى غمده.
كان يورغن على وشك أن يقول شيئًا، لكنه حكّ مؤخرة رأسه.
“اتبعيني.”
وصل التلميح بأنها تفهم في السلاح. وربما كان السبب أيضًا أن مفرداته لم تسعفه لاختلاق أعذار للرفض.
و ما إن خرجت ديزيريا من الحدادّة حتى صادفت فابريس مجددًا. و راح يتفحّصها من رأسها حتى قدميها.
“ما الأمر؟ لم تغادري بعد؟ ماذا تفعلين؟”
“وأنتَ، لماذا لم تغادر بعد؟”
“أنا سألتُ أولًا. فأجيبي.”
“لاختبار أداء سلاح.”
رمق فابريس يورغن بازدراء.
“أليس هذا الأحمق يورغن؟ ولماذا تفعلين هذا معه؟ أمتأكدةٌ أنكِ ذاهبةٌ لاختبار سلاح؟ ستذهبين إلى الغابة وحدكِ مع رجلٍ غريب؟”
فنقرت ديزيريا بلسانها.
“وماذا إذاً؟ سنذهب إلى ميدان الرمي؟ أم تظن أننا سنفعل شيئًا مريبًا في أرضٍ مفتوحة؟ هل هذا كل ما يدور في رأسكَ؟”
فاحمرّ وجه فابريس.
“بوصفي خطيبكِ، يحق لي أن أقلق!”
“قلق؟ لا يبدو كذلك.”
تمتم يورغن بلغة فينسترتال، لغةٌ أقصى شمال القارة، بعدما سمع كلام فابريس.
“أظن أن رأيكَ صحيح.”
و ردّت ديزيريا ليورغن بلغة فينسترتال. فاتسعت عينا يورغن دهشة.
“أتعرفين لغة فينسترتال؟”
“إلى حدّ ما.”
فانفجر فابريس غضبًا.
“ما الذي تتمتمون به بينكم؟!”
لم يجرؤ فرسان فابريس ولا خدمه على قول شيء، واكتفوا بهز أكتافهم. ثم رفع أحد الخدم يده.
“يبدو أنها لغة فينسترتال.”
“هذا أعرفه! إنها لغةٌ تُستعمل في فينسترتال، فمن الطبيعي أن تكون كذلك! أسأل: ماذا يقولون؟!”
“نحن لا نعرف أيضًا.”
“وماذا كنتم تفعلون من دون أن تتعلموا؟ عديمو الفائدة!”
فهزّت ديزيريا رأسها على كلام فابريس.
“لو استغليت وقتكَ في التعلّم بدل التجوال للهو، لما صرت تصرخ في الناس وأنت لا تفهم شيئًا.”
_______________________
حسيت يورغن ورع طلع رجال بس الورعان يتنمرون عليه ياضعيف الشخصيه😭
وناسه لو يصير خوي ديزيريا ويسبون فابريس قدامه وهو مايفهم
المهم وين لازار مفروض انت معها ياخي توك تقول بروح السوق حسبتهم بيشوفون بعض غشششش
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 15"