أنهى الحاكم خطابه على عجل ثم دخل، بينما تفرّق سكان الإقطاعية عائدين إلى أعمالهم وهم يثرثرون.
“يقول دعمًا ومساندة، لكن المعنى الحقيقي ألا نفكر حتى في مخالفة إرادته، أليس كذلك؟”
“لا يستطيع قولها صراحة، لذا لفّها بعباراتٍ ناعمة جدًا. أليس نبيلاً في النهاية؟”
“وماذا بعد؟ هل سيقيمون حفل تنصيبٍ قريبًا مثلًا؟”
“هذا شأنهم فيما بينهم. الأهم، متى سيقيمون الجنازة ومتى الزفاف؟ ظننت أننا سنأكل حتى الشبع بعد طول غياب، لكن لم يأتِ على ذكر ذلك.”
تجهّم أحدهم بشفتيه. فشعرت ديزيريا بمرارة لأن مسألةً تتعلق بالحياة والموت تُعدّ عند بعضهم مجرد يوم للولائم.
لقد خطرت ببالها مرارًا أفكار يسهل اعتبارها خيانة، فكيف بهم هم.
و قد تختلف البلدان، لكن في العادة لم يكن لدى سكان الإقطاعية ما يرونه أو يسمعونه كثيرًا عن شؤون عائلة الحاكم.
حتى لو تغيّر الوريث، فالأمر بالنسبة لهم لا يعدو أن جامع الضرائب تغيّر من هذا إلى ذاك.
***
تعلّق الخادم بلجام حصان فابريس.
“سـ، سيدي الشاب، نحن في فترة حداد، والذهاب إلى مكانٍ كهذا ليس لائقًا….”
فانفجر فابريس في وجه الخادم.
“سواءً ذهبتُ إلى بيت دعارة أو إلى ساحة الصيد، ما شأنكَ أنتَ؟ أأجلدكَ مثلًا؟”
“مستحيل! أنا فقط قلقٌ من أن يُؤخذ عليكَ شيءٌ بلا داعٍ.…”
“أنت تعلم أنني الحاكم القادم، أليس كذلك؟”
“هاه؟ نـ نعم، أعلم بالطبع.”
“إذًا أخرس!”
نفض فابريس يد الخادم وساق حصانه بعنف، فسقط الخادم على الأرض متدحرجًا.
“آه، لم أعد أعرف ماذا أفعل!”
انتحب الخادم. فاقترب لازار الذي كان يراقب بصمتٍ من زاوية الجدار، وأمسك بيد الخادم ليساعده على النهوض. و نهض الخادم وربّت على ثيابه.
“شكرًا لكَ. آه، سيتزوج قريبًا ومع ذلك لا يحسن إمساك نفسه، ويذهب إلى حي اللهو في وضح النهار!”
تمتم الخادم ساخطًا. و راقب لازار الخادم وهو يغادر شاتمًا فابريس بصوتٍ منخفض. وما إن اختفى حتى قفز بودوان إلى جانبه.
“همم، كما توقعت، حياته الخاصة ليست نظيفة. النبلاء كلهم هكذا.”
“اتبعني.”
أشار لازار بيده. كان ينوي التوجه إلى النُزُل لاستعارة خيول. بدا بودوان حائرًا.
بعد أن خرجا من بوابة القلعة على صهوات الخيل، سأل بودوان،
“سنراقبه؟ هدفنا كان الابن الأكبر. لا أظن أن التورط مع الابن الأصغر سيجلب نفعًا.”
“أعرف. مهما رغبتُ في التخلص من ذلك الأحمق، فهذا ليس الوقت المناسب.”
كان لازار يشعر وكأنه يريد الذهاب فورًا ليقطع عنق فابريس.
المعلومات التي جمعها وهو يساعد النساء على حمل الغسيل لم تكن مريحةً أبدًا. فاضطر للتخلي عن لقاء ديزيريا قرب برج الأجراس، والاكتفاء برؤيتها من بعيد.
‘قذر.’
عضّ لازار على أسنانه. و خشي أن يسيء معاملة الحصان الذي يركبه من شدة غضبه على فابريس.
كان مجرد علمه بأن حبه الأول الذي وجده بعد رحلةٍ طويلة تُناقش خطبتها مع رجلٍ آخر كافيًا لإشعال غضبه.
لم يكن ليستبعد الانسحاب لو كان الطرف الآخر ذا شروطٍ جيدة أو يحب ديزيريا أكثر من أي أحد، لكن مجرد ذكرها كعروسً لرجل آخر أغضبه، فكيف إذا كان ذلك الرجل قمامة.
“لكن لماذا نلاحقه أصلًا؟ ماذا تنوي أن تفعل؟”
سأل بودوان.
“هناك شيءٌ أريد التأكد منه بعيني.”
أراد لازار أن يتيقن أن فابريس لا يحب ديزيريا.
ولو استطاع، بالمناسبة، أن يكشف مدى فجوره وذوقه في النساء ليسقطه، فسيكون ذلك أفضل.
كان يخطط للتدخل قبل أن يمدّ ذلك الإنسان القذر يده إلى ديزيريا. ولولا أنها هي من تقدمت بالخطبة أولًا، لكان عليه أن يأخذها ويرحل فورًا.
***
في تلك الأثناء، دخل فابريس بيت الدعارة وكأنه المالك. و تعرّفت عليه القوّادة العجوز كزبون دائم واقتربت.
“لوسيا التي اعتدتَ طلبها خارج البلدة الآن-”
“لا أحتاج إلى لوسيا.”
“ماذا؟”
“أريد امرأةً بشَعرٍ بني يميل كثيرًا إلى الأشقر، وعيونٍ صفراء.”
زجر فابريس القوّادة.
“لا أريد شقراء بلاتينية ولا بنيةً تمامًا، أريد بنيةً قريبةً جدًا من الشقراء! ألا تفهمين كلامي؟”
“سـ، سيدي، لا توجد فتاةٌ بهذه المواصفات حاليًا.”
“إذًا اصبغوا شعرها!”
“ما رأيكَ أن تجرّب ذوقًا جديدًا هذه المرة؟”
ارتعشت زاوية فم القوّادة العجوز وهي تشد ابتسامةً مصطنعة.
‘إن كنتَ ستأتي، فأغوِ بعض الفرسان ليأتوا معكَ، أما أن تأتي وحدكَ وتثير هذه الفوضى، فما هذا السلوك؟’
تمتمت متذمرةً في نفسها من بين أسنانها المطبقة.
مهما يكن ابن الحاكم، فهو في النهاية مجرد زبونٍ واحد، والمال الذي يدفعه فردٌ واحد له حد.
ومع ذلك كان يصرّ بعناد على عرض بضاعةٍ خاصة له وحده، ما زاد من سوء مزاجها.
فغيّرت العجوز ملامحها فجأة، وبدأت تلاطف فابريس.
“النساء ذوات الشعر الأشقر الفاتح والعيون الزرقاء كثيرات، لكن لا توجد فتاةٌ بشَعر أشقر داكن وعيونٍ صفراء. إن لم يعجبكَ الأمر، يمكنني إحضار جميع الفتيات-”
“كفى. اختاري واحدةً مناسبةً من عندكِ. سأتغاضى هذه المرة، لكن في المرة القادمة اصبغي شعرها. أما العينان، فيمكن أن أطلب منها إغماضهما، لكن لون الشعر لا حيلة فيه.”
“هل نطلب منها تغطية شعرها بوشاح؟”
“وهل يبقى للمزاج معنى حينها؟ لسنا نتحدث عن فلاحةٍ أو راهبة، ما شأن الوشاح؟”
“نعم، نعم.”
هزّت العجوز رأسها موافقة.
و أسقط فابريس في كفّها مبلغًا إضافيًا مقابل صبغ شعر العاهرة، ثم قادته إلى غرفةٍ لا تحوي سوى سرير.
تمدّد فابريس على السرير وأغمض عينيه. لم يكن لون الشعر وحده هو المهم، فكلما فكّر بالأمر شعر أن لون العينين أهم.
تلك العينان الصفراوان لديزيريا، لونٌ نادر لا يُرى إلا لدى الذئاب أو البوم، كان يبعث القشعريرة في جسده. لونٌ يليق تمامًا بطباعها الوقحة.
لكن متعة إخضاعها ستكون بقدر ذلك أعظم.
“أ، مرحباً.…”
تحرّك الغطاء بخفة، ما يعني أن العاهرة دخلت. ففتح فابريس عينيه.
لم تكن المرأة بالطبع ذات الشعر الأشقر الداكن والعيون الصفراء كما طلب. كان شعرها بنيًا وعيناها خضراوين مائلتين للبني، وملامحها لا تشبه ديزيريا كثيرًا.
“استديري.”
أمرها فابريس.
كاد الغضب يشتعل في صدره وكأنهم يسخرون من عمى الألوان لديه، لكنه قدّر أن العجوز لا بد أنها تعبت في البحث إلى هذا الحد.
وكما قالت العجوز، كان كثيرٌ من الرجال مولعين بالنساء ذوات الشعر الأشقر الفاتح والعيون الزرقاء، ومن الطبيعي أن تُكثر من جلبهن لأن ذلك يدرّ المال.
“أطفئي الضوء.”
“نـ نعم؟ حسناً.”
حين أظلمت الغرفة، بدا الشعر البني تحت ضوء القمر قريبًا إلى حدّ ما من لون شعر ديزيريا.
“أفضل بكثير. تعالي.”
بدت العاهرة عديمة الخبرة، تتحرك بارتباكٍ واضح. فانزعج فابريس، لكنه لم يوبّخها.
فديزيريا ستكون عذراء على الأرجح، وهكذا ستكون الليلة الأولى.
“ديزيريا!”
“لكن اسمي، اسمي هو.…”
“اخرسي. أفسدتِ اندماجي.”
صفع فابريس خدّ العاهرة.
“دفعتُ ثمنكِ، لذا افعلي فقط ما أريده.”
***
على سطح المبنى المقابل، كان بودوان الذي يتنصّت مع لازار يقطّب وجهه باشمئزاز.
“أكان علينا حقًا أن نسمع هذا أيضًا؟”
لم يجب لازار. ومن طريقة رميه لأوراق اللعب التي يستخدمها كتمويه، بدا أن مزاجه في أسوأ حالاته.
مهما كان الأمر جزءًا من جمع المعلومات، فإن التجسّس على فابريس وهو يوبّخ عاهرةً كان عذابًا حتى للازار.
لم يكن في عمرٍ أو طبع يهتم بهذه هذا النوع من المشاهد. وكما بودوان، كان لازار يكبح اشمئزازه بصعوبةٍ أمام ميول فابريس المنحرفة.
و بعد أن تأكد من خروج فابريس وهو يرتدي ثيابه، سأل بودوان،
“إذًا، ماذا سنفعل الآن؟”
قلّب لازار قطعةً نقدية فوق ظاهر يده.
“هناك إنسانٌ أود قتله، لكن قتله قد يجرّ أبرياء إلى المشكلة. سأكتفي بابتزازه.”
كان عليه أن يضغط على ذلك المدعو فابريس ليترك عائلة ديزيريا وشأنها.
وبالطبع، لا يمكن توجيه الاتهام صراحة، وإلا لتعرّضت عائلة ديزيريا للتحقيق فورًا، لذا لا بد من الاكتفاء بتلميح كافٍ، تلميحٌ بأن العواقب ستكون وخيمة إن لم يتركهم.
“ألم تكن مهمتنا تنتهي عند القضاء على أخيه؟”
“ولمَ؟ أتظن أن الأخ الأكبر سيعترض؟ بهذا القدر لن يقول شيئًا.”
عند رد لازار اللامبالي، ارتسم على وجه بودوان تعبيرٌ غير مرتاح.
“سمو ولي العهد سيتغاضى بسهولة؟ ذلك الرجل الذي يدبّر كل أنواع المكائد لقتلكَ؟”
________________________
فابريس يبي وحده تشبه ديزيريا؟ وععععع يارب يتعذب ذاه مايكفي ينقتل
المهم يا لازار شف المكان كله على بعضه شين فتكفى عجل بالنحشه مع ديزيريا😔
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 14"