“حتى لو فعلنا ذلك، سأفوز مجددًا، أحقًا تريد أن تزيد عدد هزائمكَ؟”
ضيّق بودوان عينيه وحدّق في لازار، وكانت ابتسامة لازار العابثة التي ملأت وجهه مستفزّةً له حدّ السخط.
فألقى بودوان رأسه على الطاولة،
“نعم، نعم، مبروكٌ لكَ، يا سمو الأمير، افعل ما يحلو لك، فهذا الخادم الأحمق لن يفعل سوى الطاعة.”
“سمو الأمير؟ اشتمْني وقل شيطانًا لعينًا، سيكون أصدق.”
“هذا كثير، لا أريد حتى أنا أن أصفكَ بابن العفريت أو ثمرة الخطيئة.”
فأسند لازار ذقنه وصرف بصره نحو خارج النافذة.
لقد مضت قرابة ثماني سنوات منذ أُقرّ به فعليًا كأمير. وحين قال أنه ذاهبٌ إلى قلعة فاسيديا، نعتَه أخوه غير الشقيق مرةً أخرى بالشيطان.
حتى لو كان لقبًا مهينًا، لم يعد يزعجه كثيرًا الآن. كان ذلك بفضل شخصٍ عزيزٍ علّمه أن كونه ابنًا غير شرعي لا يجعله مجرمًا.
حتى أنه صار قادرًا على تجاوز أي نعتٍ بالشيطان كما لو كان يشاهد أحمقًا يصرّ على أن الطائر سمكة.
فكّ لازار ساقيه المتشابكتين. ثم ظهرت ديزيريا، التي خرجت من القلعة حيث تقيم عائلة الحاكم.
و نهض لازار من مقعده، فسأله بودوان.
“إلى أين؟”
“إلى ساحة الغسيل وبرج الجرس.”
“لجمع المعلومات؟”
“أتأتي معي؟”
“لا، شكرًا، انقل الغسيل وحدكَ.”
ترك لازار بودوان ممددًا واقترب من نساء ساحة الغسيل. و كانت هناك امرأةٌ ممتلئة تتأوّه وهي تحمل سلة الغسيل.
“سأساعدكِ.”
أُزيحت السلة عن مجال رؤيتها، وظهر وجه لازار المبتسم. فارتسمت على وجه المرأة الممتلئة ملامح نشوة.
ضحكت امرأةٌ أخرى ذات فمٍ واسع كانت تراقب المشهد ضحكةً مدوّية.
“يا إلهي، ما هذا؟ أنتَ وسيمٌ وأنيقٌ أيضًا!”
“إلى أين أحملها لكِ؟”
“ألا تثقل عليكَ؟ من مظهركَ تبدو كمرتزق، لستَ ممن يحمل ثم يطالب بالمال، أليس كذلك؟”
“هذا يسير، أما الأجر فليكن مؤانسةً لطيفة.”
حمل لازار غسيل المرأة ذات الفم الواسع أيضًا. فاقتربت المرأة ذات الفم الواسع ووقفت إلى جانبه.
“قوتكَ ممتازة، حبيبتكَ لا بد أن تكون سعيدة، بل إن كنتَ عريسًا بمثل هذه المواصفات فستُختطف سريعًا، هل أنتَ متزوج؟”
“لا، ليس بعد، لكن هناك من أنوي التقدّم لخطبتها قريبًا.”
“يا للخسارة، لدي ثلاثة أبناءٍ داكني البشرة، لو كانت لي ابنةٌ لجعلتكَ صهري في الحال.”
“هاها، لا بأس، زوجكِ محظوظ بزوجةٍ خفيفة الظل مثلكِ.”
“زوجي وإن كان جافًّا، لا ينظر إلا إليّ، وكل ذلك بفضل هذه الروح المرحة!”
و عادت المرأة الممتلئة إلى وعيها أخيرًا وأسرعت نحوهما. فتزاحمت بين لازار والمرأة ذات الفم الواسع.
“ألم تكوني تبكين الشهر الماضي لأن زوجكِ يبدو وكأنه خانكِ؟”
“إيه، أيتها المرأة!”
شدّت المرأة ذات الفم الواسع ذراع المرأة الممتلئة.
هزّت المرأة الممتلئة كتفيها.
“حتى رجال عائلة الحاكم يتسكعون سرًا مع نساءٍ أخريات، فما العمل؟ أستسلم فقط وأقول أن الرجال هكذا بطبعهم.”
“حتى الشاب فابريس؟”
“بل يُقال أن الشاب فابريس يفعل ذلك كثيرًا، المسكينة الآنسة ديزيريا، تسك تسك، ستتزوج رجلًا عاجزًا لا يعرف كيف يغوي امرأةً دون مال.”
فتلفّتت المرأة الممتلئة حولها. ثم وضعت ظهر يدها قرب فمها وهمست كما لو كانت تفشي سرًا عظيمًا.
“وسمعتُ فابريس يقول أن الآنسة ديزيريا تتعلّق به في الفراش من شدّة المتعة، حتى أنه تباهى بأنهما كادا يفعلاها مرةً في مكتب الحاكم قبل قليل.”
نظرَت المرأة ذات الفم الواسع ولازار إليها بدهشة. ثم أمالت المرأة ذات الفم الواسع رأسها.
“ماذا؟ الآنسة ديزيريا؟ أشعر أن من يقترب منها سيُضرَب، ألهذا لأنها امرأةٌ أكبر قوة؟”
“من يدري؟ لا بد أنها مبالغات الرجال المعتادة!”
انفجرت النساء بالضحك. و ابتسم لازار دون أن يقول شيئًا.
كانت عيناه لا تضحكان، وعلى زاوية فمه المرفوعة قسرًا مسحة نفورٍ ثقيلة.
***
حان الوقت الذي أُعطي فيه المُنادي إشارة إعلان الخبر.
كانت ديزيريا تراقب المُنادي قرب برج الجرس. بينما دخل المُنادي إلى الساحة وهو يحمل الجرس.
ثم تنحنح وبدأ يقرع الجرس.
“نُعلن نبأ وفاة الابن الأكبر للحاكم، السيد أوفيد!”
لم يُبدِ عامة الناس في الشارع سوى نظراتٍ عابرة، ومضوا دون اكتراث. حتى أن بعضهم سدّ أذنيه وفرّ من شدة صوته الجهوري.
بينما ركز المُنادي إعلانه على الطرق الرئيسية.
ثم رنّ صدى الجرس في يده ممتدًا عبر الطرق المتشابكة كخيوط العنكبوت.
“وبعد انتهاء فترة الحداد، سيُقام زفاف الابن الثاني، السيد فابريس!”
لأن الجنازات ليست مناسبةً سعيدة، بقي الشارع هادئًا، لكن ما إن ذُكرت كلمة الزفاف حتى تعالت الهتافات.
فقد سنحت لهم فرصتان للولائم، وما الذي لا يُفرِح في ذلك؟
وأثناء نزولها الدرج، كادت ديزيريا أن تتعثّر.
‘لم آمره بإعلان شيء كهذا؟ هل تلقّى رشوة؟’
أرادت أن تركض فورًا لتأمره بالتوقف، لكنه كان بعيدًا جدًا. وحتى لو أوقفت الإعلان، فلن تنال إلا سخط عائلة الحاكم.
لعل العزاء الوحيد أنه لم يذكر تاريخًا محددًا.
“إينياس!”
أرسلت ديزيريا إينياس في طريقه.
ثم عاد إينياس بعدما نزع خصلةً كاملة من شعر رأس المنادي، وكان ذلك عقابًا بسيطًا على ثرثرته الفارغة المفاجئة.
“لن يكون قد أُصيب بهذا، أليس كذلك؟”
فأطلق إينياس صرخةً قصيرة كأنها إجابة.
كان لا يزال أمامها الكثير من العمل في ذلك اليوم، ومع ذلك شعرت ديزيريا بالإرهاق مسبقًا لمجرد التفكير في الشجار الكلامي الذي ستخوضه مع فابريس.
كان عليها أيضًا أن تذهب لتعاتب الحاكم، متسائلةً ألم يقررا منحها مزيدًا من الوقت.
ثم استوقفتها خادمةٌ كانت تمرّ بها بينما كانت ديزيريا متجهةً إلى مكتب الحاكم.
“آه، آنسة! الحاكم سيلقي خطابًا بعد قليل، ويطلب من الجميع التجمع في الساحة.”
أومأت ديزيريا برأسها، فانحنت الخادمة تحيةً ثم ركضت لتلحق ببقية الخادمات.
وعندما نظرت إلى الأسفل، رأت الناس يتجمعون واحدًا تلو الآخر. فقررت ديزيريا الوقوف قرب نافذة تطل على الشرفة التي سيظهر منها الحاكم.
خرج الحاكم إلى الشرفة وتنحنح، وقد بدا مزينًا بثيابٍ حمراء صارخة ومختلف الحُليّ كي يلفت الأنظار.
“لا بد أنكم سمعتم الخبر قبل قليل، لكنني لم أستطع الامتناع عن الخروج والتحدث بنفسي.”
مع علمها أن ذلك مستبعد، تمنت ديزيريا في سرّها أن يصحح الحاكم ما قيل بشأن زواج فابريس.
ثم نظر الحاكم نحو الشمال الغربي وتابع،
“ملكنا كاليست، المقيم في العاصمة في ذلك الاتجاه، لم يبخل يومًا بالثناء على ابني البكر أوفيد. وقال أنه، وبما يتلاءم مع طبيعة تالوريا القريبة من اتحاد المدن-الدول، فإن أوفيد حين يصبح لوردًا سيقود فاسيديا بانسجامٍ تام مع معتقداتكم الموجودة في العاصمة.”
وكما توقعت، لم يكن افتتاح الخطاب سوى استرجاعٍ ممل للحديث عن أوفيد، حديثًا فضفاضًا بلا مضمونٍ واضح.
إلى جواره، كانت الكونتيسة تمسح دموعها.
عندها فكرت ديزيريا فيما إذا كان كاليست قد ساعد فاسيديا فعلًا أثناء الحرب قبل العودة بالزمن.
بل لعلّه لم يحرّك ساكنًا أصلًا. ربما خطر له فقط أنه ينبغي فرض بعض الانضباط على اللوردات.
“لا يكون المرء ملكًا إلا عند مراعاة الأصول، فهناك زعيم فنستيرتال الأكبر الذي لا يزال أقرب إلى رئيس اتحاد قبائل، وولي عهد آفندل الذي لم يتسلم العرش رسميًا بعد، ومع ذلك يتصرف وكأنه إمبراطور. بالمقارنة معهما، تالوريا دولةٌ مباركة. عاش الملك كاليست!”
تساءلت ديزيريا إن كان ينبغي لها فعلًا الإصغاء إلى هذا الكلام. فقد كان الخطاب فوضويًا لا رابط له.
صحيحٌ أن أوفيد ابنه الحقيقي، لكن لم يبدُ أن اللورد أحبه إلى هذا الحد. كان واضحًا أنه يعصر أي كلام يبدو رنانًا ليملأ به الخطاب.
“وكما قال البابا، فإن الأسرة هي أساس الدولة، والملك الذي اختاره العالم، واللورد بوصفه الوكيل الذي عيّنه الملك بنفسه، وصولًا إلى آباء كل أسرة…”
استمعت ديزيريا شاردة وهي تستحضر صورة فابريس. فمهما قال، لم يكن الأمر سوى مطالبةٍ بالولاء له في النهاية.
هو نفسه الذي، متظاهرًا بأنه حاكم، أمر فرسانه بالدفاع عن القلعة ثم سلّمها للعدو دون تردد. وكما أن هناك لوردات عاجزين مثل فابريس، فحتى الملوك يختلفون في مستواهم.
إن لم تكن العلاقة علاقة أبوّة حقيقية، فهي في النهاية علاقة تبادل. ما يُؤخذ لا بد أن يُقابله عطاء.
التفت الحاكم بخفة إلى الخلف. عندها لاحظ أن فابريس غير موجودٍ في أي مكان. فأشار بعينيه إلى كبير الخدم ليقترب، وما إن دنا حتى همس له،
“أين فابريس؟”
“أظنني رأيته يتجه إلى الإسطبل.…”
“إسطبل؟ وأنا على وشك إعلان أمرٍ مهم؟ هل ينوي امتطاء حصان والذهاب إلى مكان ما؟!”
بدأ سكان الإقطاعية الذين كانوا يشاهدون من الأسفل بالهمهمة.
“حسنًا، لا بأس. سأتولى الأمر بنفسي.”
صرف الحاكم كبير الخدم، ثم استدار مجددًا نحو الساحة.
“أهمم، كان لدي أمرٌ أود التشاور بشأنه. أين توقفت؟ أردت إحضار فابريس، لكن بما أن أخاه العزيز لم يعد موجودًا، فيبدو أن الصدمة لا تزال كبيرةً عليه. وبما أن ابني الثاني، فابريس، سيكون اللورد القادم، فأرجوكم أن تساعدوه ليتمالك نفسه ويُحسن إدارة الإقطاعية.”
_____________________
صدمة اجل؟ معليه يالوصخين
المهم لازار خلاص واضحه اخطف ديزيريا اليوم تكفىى
ديزيريا صدق يامصبرها😭 يعني بلا قطعت شعر المنادي وللحين ماسكه نفسها؟ لو مكانها انفجرت وطقيت بنفس الوقت
Dana
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 13"