“أنا خائف، أين أمي؟ أنا خائف!”

فتحت عينا الإمبراطور على طفلٍ غارقٍ في الدموع. وكأنّ لقائهما السابق قد اختفى من على رأس الطفل رمادًا، كان كارلايل يصرخ ويبكي خوفًا. عندما همّ رايموند بلمس الطفل، ازداد ارتجافه وابتعد. كأنّه يخشى أن يُؤذى مجددًا. صُدم رايموند من هذا الفعل، ففقد إرادته لتغيير أي شيء. في النهاية، لم يجد كارلايل السلام إلا عندما وجد نفسه بين أحضان جدّه.

أكّد طبيب القصر أنّ الصبي لم يفقد ذاكرته، بل كان مصدومًا وخائفًا من محيطٍ غير مألوف. كان الرعب الشديد واضحًا في عينيّ الطفل السوداوين المقابلتين. لم يجرؤ رايموند على الوقوف في الغرفة تجنّبًا لمزيدٍ من التعقيدات، وبقي عند المدخل. في هذه اللحظة، استدار كبير المرافقين نحو المخرج وكاد أن يُسقط الإمبراطور نفسه. سقط على وجهه بسرعة.

“جلالتكَ، أرجوك سامحني!”

“اهدأ يا كبير المرافقين.” 

سحب رايموند يده وقال.

من خلال الباب المفتوح، رأى كارلايل مستلقيًا على السرير. اختفى كبير المرافقين، ودخل رايموند الغرفة. وبينما اقترب من السرير، تسارعت أنفاسه المعتادة.

“لقد غفوتَ بالفعل.”

كان كارلايل نائمًا الآن، ممسكًا بالوسادة بإحكام. كانت عينا الطفل منتفختين من كثرة بكائه. بشعور قاسٍ في قلبه، نظر حول عيني كارلايل المحمرتين، ثم وجه نظره إلى الدوق كروفت، الذي كان يقف بجانب السرير.

“دوق. لقد تحسنت إيلي، لا داعي للذعر.”

“شكرًا لكَ يا جلالتكَ.”

“لم أنتهِ بعد منكَ ومن إيلي. أنا قلق فقط على كارلايل.”

“سأقبل أي عقاب بكل سرور.”

“لا أريد الاستماع إلى هذا الهراء.”

رد رايموند بوجه منزعج.

“ابقَ مع كارلايل الآن. الطفل سيذعر بدونكَ.”

“كما تأمر.”

انحنى الدوق برأسه.

ألقى رايموند نظرة وديعة أخرى على كارلايل النائم، ثم استدار نحو الباب.

عاد رايموند إلى غرفة المكتب، وانهار على الأريكة منهكًا. أغمض عينيه، وأمسك بصدغيه. لم يعد رأسه يؤلمه كما كان من قبل، ولكن هذا هو السبب في أن أفكاره لم تهدأ: “من المستحيل إخفاء حقيقة أن كارلايل ابني إلى الأبد. كان حشد رجال الحاشية لا يُحصى. في النهاية، ستكون مسألة وقت قبل أن يُكشف عن وجود كارلايل. وعندها ستنقلب الإمبراطورية رأسًا على عقب في لحظة. شعر أسود وعيون سوداء. الرمز الذي لا يُنازع للعائلة الحاكمة. حينها لن تتمكن إيلي من الاستيلاء على كارلايل والاختباء في البحر. سيصبح كارلايل الأمير الثاني للإمبراطورية. سيبدأ النبلاء في التنازع حول من يراهنون عليه. في غياب كارلايل، كان إدموند الأمير بلا منافس. ومع ذلك، ظهر صبي كان ابن الإمبراطورة السابقة. كان كل شيء واضحًا حتى دون أي شك. وإلى جانب ذلك، تعرضتُ للخيانة من قبل جد إدموند، ماركيز ناسيوس. لكن دفن ذلك ليس بالمهمة السهلة. لقد نمت سلطة ناسيوس بشكل هائل في السنوات الست الماضية. وكان منصب الأمير الأول مفيدًا لذلك. بالإضافة إلى ذلك، كان إدموند يتمتع بشعبية لدى الشعب الإمبراطوري لطفه وطبيعته اللطيفة. إذا أريتهم الأمير الجديد، فسيكون هناك صراع. ماركيز ناسيوس. كان الأمر مؤسفًا لإدموند، ولكن كان يجب التعامل مع جده في أسرع وقت ممكن حتى لا تكون هناك عقبات في طريق كارلايل.”

في تلك اللحظة، استيقظ رايموند من الرعد الذي هزّ النوافذ. ضرب الرعد، ثم ضرب البرق. وسرعان ما بدأت السماء تمطر. نهض من مقعده وتوجه إلى النافذة. بعد أن رأى المطر ينهمر بغزارة، التفت إلى كبير المرافقين.

“هل عاد كارتر بعد؟”

لم يركب معه إلى القصر، بل ذهب فورًا للقبض على القتلة.

“لا.”

أُمر بجرّ المهاجمين إلى القصر قبل الفجر. قبل أن يصل خبر كارلايل إليهم. 

فكر رايموند: “لنفترض أن صلة الغزاة كانت من خلال الدوق درويت، لكنني أظن أن الخطة من تدبير ناسيوس. كان هو الأكثر تهديدًا بوجود كارلايل.”

في تلك اللحظة، اقترب أحد الخدم بسرعة من كبير المرافقين وهمس في أذنه. أبلغه كبير المرافقين على الفور.

“يا صاحب الجلالة، وصل قائد الفيلق الرابع ومعه الأسرى.”

التفت رايموند من النافذة.

“دعه يجرّهم إلى الزنزانة. سأرتب الاستجواب بنفسي.”

كما لو أن السماء نفسها تسربت، استمر المطر الغزير حتى الفجر. في الصباح الباكر، عبر رجلٌ مسرعًا أبواب العاصمة واندفع إلى عمق المدينة. اقترب صوت حوافر الخيول وهي تحث على الأرض الموحلة بإصرار. عندما توقف الحصان أمام قصر كبير، سُمع صراخ من الداخل.

“سيدي!”

خرج كبير الخدم من القصر وحدق في جيريمي بدهشة..ففي النهاية، ذهب غربًا نيابةً عن سيده، لكنه عاد أبكر مما كان متوقعًا. 

تجاهل جيريمي حرج كبير الخدم وهرع إلى القصر.

“أين الدوق؟”

“لم يستيقظ بعد…”

قبل أن ينتهي كبير الخدم، اندفع جيريمي صاعدًا الدرج. مباشرةً إلى غرفة نوم الدوق.

فكر جيريمي: “سمعتُ أن شيئًا فظيعًا قد حدث لإيلي وكارلايل. وقد أُرسلتُ في مهمة في هذا الوقت تحديدًا. يا لها من مصادفة!”

بعد لقائه بجيد، وعند عودته إلى المنزل، طلب منه الدوق فجأةً التوجه غربًا للتواصل مع أحد النبلاء. قيل إن هذا النبيل سيلعب دورًا مهمًا في تنفيذ الخطة المستقبلية. كان الإرسال المفاجئ غريبًا بعض الشيء، لكن في البداية ظن جيريمي أن الدوق يختبره بهذه الطريقة. ثم خطرت في بال جيريمي فكرةٌ تبدو غبية. تحسبًا لأي طارئ، أبلغ الإمبراطور بكل شيء قبل مغادرته. لكن بينما كان يركض غربًا، أصبح من الصعب التخلص من القلق المُسيطر عليه. كان من الغريب أن يُريه دوقٌ مُصابٌ بجنون العظمة، دون تردد، شخصيةً رئيسيةً في مؤامرتهم. الدوق نفسه الذي لم يتدخل في شؤون المنزل، وكان يتحقق من الجميع عشرات المرات ليتأكد من أنه جدير بالثقة حقًا. لكن الآن كل شيء مختلف. وتحولت مخاوفه إلى قناعة بأن هناك خطبًا ما عندما ضبط في طريقه رجلاً يراقبه سرًا. مات الرجل قبل استجوابه. لكن جيريمي خمن غريزيًا أين تكمن المشكلة. في الآونة الأخيرة، لم يكن هناك سوى شخص واحد يبحث عنه. ريجينا ناسيوس، امرأة خطيرة وشريرة. لقد اكتشفت وجود كارلايل، وفي النهاية تولت المهمة بنفسها. في طريقه غربًا، اتجه جيريمي نحو العاصمة. 

في حالة من الهياج، وبدون رشفة ماء، ركض جيريمي إلى القصر، ولكن عند وصوله لم يجد إليشا. ما أخبره به لومونت، الذي كان ينظف القصر، كان خبرًا سيئًا، لأن العملية برمتها قد بدأت بالفعل. بينما كان يركض غربًا بناءً على تعليمات والده، زوّرت ريجينا رسالته لإغراء إليشا بالفخ. قال أيضًا إن الإمبراطور نفسه أنقذهم بأعجوبة، لكن لومونت لم يكن يعلم مدى معاناة إليشا وكارلايل. قُتل جميع الفرسان الذين رافقوهم تقريبًا، والناجي الوحيد كان فاقدًا للوعي، وكذلك جيد. دقّت نظرة لومونت اليائسة قلبه بقوة أكبر. أراد أن يهرع إلى القصر ويطمئن على إليشا على الفور، لكن كان هناك المزيد الذي يجب القيام به قبل ذلك. 

“هذه ليست فكرة الدوق درويت نفسه بأي حال من الأحوال. قامت ريجينا ناسيوس بكل العمل، وسيكون الدوق درويت كبش فداء.”

لا يزال جيريمي يتذكر بوضوح السم الكامن في عيني ريجينا.

“يا إلهي! دوق!”

ركض بأقصى سرعة، لكن جيريمي كان لا يزال متأخرًا. باب غرفة النوم مفتوح على مصراعيه. وكان جسد الدوق درويت يرتعش على الحبل مثل الدمية.