الفصل 8 : حفل الخطوبة ⁴
“دو… لا، آنسة هيسيتيا، طالما أنكِ مَن رشّحتِ هَذا الزواج فلا شكّ أنهُ زواجٌ جيد. سأناقش الأمر مع ابنتي. أشكركِ، آنسة.”
بارون دايليا، الذي كان يراقب تيسيوس الواقف بجانبي، غيّر طريقة مخاطبتهِ لي بخفة، ثم بدأ يشكرني بوجهٍ تغمرهُ الابتسامة.
بالمقابل، كان وجه لايزي، التي سمعت كلام والدها، قد شحُب حتى كاد يبدو أنها ستسقط مغشيًا عليها في أية لحظة.
مِن حيث النفوذ والثروة، كانت فرصة الزواج هَذهِ جيدةً بلا شك. حتى أنْ سمعة وشخصية الكونت غارسي لَمْ تكُن سيئة.
لكن مهما بلغت هَذهِ الفرصة مِن جودة، فإنَّ لايزي كانت قد تجاوزت العشرين لتوها، وكانت لا تزال في أول زواجٍ لها.
ورغم أنها مِن أسرةٍ متواضعة، إلا أنْ اقتراح زواجها مِن رجلٍ متزوّجٍ سابقًا، وفي مناسبةٍ عامة كهَذهِ، كان يُعد إهانةً كبرى.
بالنسبة لآنسةٍ نبيلة تعتزُ بشرفها، لَمْ يكُن هُناك عارٌ أكبر مِن هَذا في المجتمع الأرستقراطي.
ولا أعلم إنْ كان البارون مُدركًا لذَلك أم لا، فقد ظل يبتسمُ بخفةٍ وينحني بلا توقف.
أما لايزي الواقفَة بجانبه، فكانت ترتجفُ بوجهٍ شاحب كما لو كانت ستتقيأ في أية لحظة.
لكن ماذا عساها أنْ تفعل مهما كانت النار تشتعل في صدرها؟ لَمْ يكُن بيدها شيء تفعله الآن.
لقد غمرني شعورٌ بالفرح أكثر مِما كنتُ أتوقع. والأهم مِن ذَلك، أنْ منظر لايزي وهي ترتجف بوجهٍ أحمر قانٍ كان مشهدًا ممتعًا للغاية.
وفي الجهة الأخرى، كان تيسيوس لا ينظر نحو لايزي مطلقًا.
بل كان ينظر نحوي بوجهٍ يحملُ ملامح الاهتمام، مِما جعل مِن الصعب عليّ أنْ أخمّن ما يدور في ذهنه.
“أنتِ تُثيرين اهتمامي بطرقٍ عديدة، إلينيا.”
“لقد طلبتُ منكَ في المرة الماضية أنْ تلتزم باستخدام الألقاب الصحيحة، أليس كذلك؟”
“كنتُ أفضّل أنْ تخاطبها بلقبٍ رسمي.”
وفجأةً، قاطعنا دوق كايلوس، الذي اقترب مني دوّن أنْ أشعر.
“كما تعلمين، أنا والآنسة نعرف بعضنا منذُ زمنٍ طويل، لذا ما زلتُ أشعر أنْ إسمها أكثر ألفة.”
قال تيسيوس وهو يوجه نظراتٍ ساخرة نحوي.
“رُبما كان الأمر كذَلك سابقًا، لكنه لَمْ يعُد كذَلك الآن. لذا أعتقد أنْ عليكَ تغيير طريقة مخاطبتك.”
“هممم…”
وفي اللحظة التالية، أدار ظهره ليقف بيني وبين تيسيوس.
“هيا بنا، إلينيا.”
كان في صوتهِ عبقٌ بارد يشبه عبير العشب الطازج.
هل كان تحديًا؟ أم عنادًا؟ رُبما في تلكَ اللحظة، كان يريدُ بشدةٍ أنْ يلقّن تيسيوس درسًا.
لكن أكثر ما لفت انتباهي أنْ نبرة صوته عندما نطق باسمي ونظراته التي كانت تتفقدني، كانت رقيقةً كأنها تلامس شيئًا ثمينًا بحذرٍ شديد.
دوّن أنْ أعي، اقتربتُ وطبعْتُ قبلةً على خده.
ولَمْ أدرك ما حدث إلا بعدما انفصلت شفتاي عن خده.
كانت قبلةً قصيرة للغاية بالكاد لامست خده قبل أنْ أبتعد بسرعة، لكنها كانت كافيةً لجذب انتباه كل من كان موجودًا في المكان.
بل وجلبت معها همسات الأرستقراطيين أيضًا.
“يا إلهي، هل رأيتُم ذَلك؟”
“الآن فهمتُ سبب فسخ خطوبتها مِن الدوق تيسيوس.”
“انظروا إلى تصرّفاتها. إنْ لَمْ تكُن تصرّفات امرأةٍ واقعةٍ في الحُب، فماذا تكون إذن؟”
“يا للعجب…”
انشغلت السيدات النبيلات بالتعليق وهمس بعضهن لبعض حول تصرّفي.
ومِن سماع تلكَ الهمسات، أدركتُ أمرًا واحدًا مؤكدًا، وهو أنْ عدد الشائعات التي ستنتشر غدًا في الإمبراطورية قد ازداد.
مثل السبب الحقيقي وراء فسخ خطوبة ابنة ماركيز هيسيتيا مِن دوق تيسيوس، أو أنني وقعتُ فعلًا في الحب، وغير ذَلك مِن الأحاديث.
في جميع الأحوال، لَمْ تكُن أيٌّ مِن تلكَ الشائعات ضمن توقعاتي.
ومع ذَلك، حققتُ هدفًا واحدًا على الأقل: لقد أفسدتُ مزاج تيسيوس إلى حدٍّ ما.
كان ينظر إليّ بوجهٍ باردٍ للغاية، ولَمْ أكُن أفهم لماذا بدا غاضبًا إلى ذَلك الحد.
‘لو رآه أحدهم، لظن أنه قد خسر خطيبتهُ الحبيبة لرجلٍ آخر. يا ترى، هل هَذا أيضًا جزءٌ مِن تمثيلياته؟’
كنتُ غارقةً في هَذهِ الأفكار حين قال:
“إلينيا، حان وقت العودة.”
رفعتُ رأسي لأنظر إلى الرجل الواقف أمامي.
مدّ دوق كايلوس يده نحوي بوجهٍ خالٍ مِن أيِّ انفعال.
ولسببٍ ما، وبينما كنتُ أشعر بالارتباك لرؤية هدوئه ذاك، تسللت إلى نفسي مشاعرٌ مشاكسة لا أعرف لها سببًا.
‘صحيح أنّه لا يحمل لي أيَّ مشاعر، لكن مع ذَلك… أليس هَذا تصرفًا باردًا للغاية؟’
مِن دوّن أنْ أُظهر تلكَ المشاعر، أمسكتُ باليد التي مدّها إليّ، ثم بدأت أسير متوجهةً إلى النبلاء الحاضرين في حفل الخطوبة.
“أتوجه مُجددًا بالشكر لكل الضيوف الكرام الذين حضروا هَذا الحفل. أرجو أنْ تستمتعوا بما تبقى مِن الوقت.”
***
بعد انتهاء حفل الخطوبة، عاد قصر الدوقية إلى هدوئه. وبينما كنتُ أنظر إلى الحديقة التي بدت خاليةً بعدما أنهى الخدم تنظيفها بعناية، انتابني شعورٌ وكأنَّ ما حدث اليوم لَمْ يكُن إلا حلمًا.
أما كايا، فكانت منشغلةً تتنقل بين الطابق الثاني لجمع فستاني وعدة حُلي أخرى.
‘قلتُ لها أنْ تجهز الضروري فقط…’
لقد قامت كايا بجلب جميع الفساتين والأحذية والحُلي الموجودة في منزل الماركيز استعدادًا لحفل الخطوبة.
وبإضافة هدايا النبلاء الذين قدموا التهاني اليوم… تجاوز عدد العربات اللازمة لنقل الأمتعة خمس عربات.
“إلينيـا، هل لي أنْ أتحدث معكِ قليلًا؟”
تجمد جسدي فجأةً حين سمعت الصوت القادم مِن خلفي.
في الحقيقة، لَمْ أتحدث مع دوق كايوس منذُ تلكَ القُبلة التي حدثت قبل قليل. بل الأصح أنني كنتُ أتفاداه متعمدة.
فقبل أنْ يسبقني بالكلام، بادرتُ بالتحدث كمَن يشعر بالذنب.
“أمـمم، ما حدث قبل قليل كان مُجرد خطأ! لقد تصرّفتُ بلا وعي…”
“آه، كنتُ أود الحديث عن السيف فقط.”
“ماذا؟ آه…!”
شعرتُ بنظراتهِ الثابتة تتجه نحوي.
بدأ وجهي يسخُن مِن الخجل، حتى أنْ خديّ احمرّا بشدةٍ. وددت لو تنشق الأرض وتبتلعني.
يبدو أنني وحدي مَن ظل يُفكر بتلكَ القُبلة طوال اليوم. وإزاء شعوري بأنهُ قرأ أفكاري، لَمْ أستطع النظر مباشرةً إلى وجهه.
“يبدو أنني اخترتُ التوقيت الخاطئ.”
قالها بنبرةٍ مازحة، تلاها ضحكةٌ خافتة.
“لـ-لا تضحك! كنتُ شاردة الذهن فحسب…!”
“أفهم… مثل التفكير بتلكَ القُبلة مثلًا؟”
“…..”
“لقد كانت مؤثرةً حتى بالنسبة لي، وإنْ لَمْ تكُن بمقدار تأثيرها عليكِ.”
مؤثرة؟! بدا وكأنه عقد العزم على السخرية مني. وإلا لما كان يبتسم بتلكَ الطريقة الصغيرة عند زاوية شفتيه.
“على أيِّ حال، بخصوص ما كنتُ أود قوله…”
في اللحظة التي همّ فيها بالكلام، ظهرت كايا وهي تلهث، حاملةً حزمةً ضخمة مِن الأمتعة أثناء نزولها مِن الطابق الثاني.
“آنستي، جهزتُ كل الأغراض. هيا بنا!”
تظاهرتُ بأنني لَمْ أسمع ما كان سيقوله، وغادرتُ المنزل برفقة كايا.
“لنتحدث لاحقًا، مِن الأفضل أنْ أعود الآن بما أنْ الوقت قد تأخر.”
“إلينيـا…”
سمعتُ صوت دوق كايلوس يناديني مِن الخلف، لكنني سارعتُ إلى إغلاق باب العربة.
“آنستي، ألَمْ يكُن صاحب السمو الدوق يناديكِ؟”
“لا، لننطلق بسرعة!”
أوقفتُ كايا عن فتح الباب، ثم أسرعتُ بطرق جدار العربة إشارةً للانطلاق. وعندما جذب السائق اللجام، تحركت الخيول محدثةً صهيلها، وبدأت العربة بالتحرك.
أما الأمور اللاحقة… فهي شأنٌ آخر. المهم الآن هو الهروب مِن هَذا المكان.
‘بالمناسبة، ما الذي كان الدوق يريد قوله؟ لا أدري… سأفكر بذَلك لاحقًا.’
ما كنتُ بحاجةٍ إليه الآن هو بعض الوقت كي أمحو مِن ذاكرتي هَذا الموقف المُخجل.
***
حتى بعد وصولي إلى المنزل، لَمْ أتمكن مِن نسيان ما حدث مع دوق كايلوس بسهولة.
أحسستُ أنني سأحتاج إلى وقتٍ طويل كي أتمكن مِن نسيان ذَلك، وبدأتُ أفكر كيف سأتمكن مِن مواجهة الدوق كايلوس في المرة القادمة.
“إلينيـا، تعالي لنتحدث قليلًا.”
بمُجرد أنْ دخلتُ البهو، سمعتُ صوت والدي يناديني مِن أمام مكتبهِ في الطابق الثاني.
لاحظت أنْ صوته بدا أكثر توترًا مِن المُعتاد.
تركتُ أمر ترتيب الأمتعة لكايا، وأسرعتُ إلى المكتبة.
وقف أبي يتأملني بصمتٍ حين دخلتُ الغرفة.
وقد خيّم جوٌ ثقيل مختلف عن المعتاد، حتى خُيّل إلي أنْ شيئًا ضاغطًا يكتم أنفاسي.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 8"