الفصل 7 : حفل الخطوبة ³
“الشيء الذي أرغبُ فيه أكثر؟”
ارتسمت على وجه مابيل ملامحٌ مِن الغموض والشك، فابتسمتُ له ابتسامةً صغيرة.
‘نعم. الشيء الذي تريده أكثر مِن أيِّ شيءٍ آخر، حتى في هَذهِ اللحظة.’
مابيل كوينتوس. رجلٌ وصل إلى قمة أكبر نقابةٍ تجارية بجهودهِ وحده، دوّن أنْ يستند إلى رأس مالٍ ضخم أو شخصيةٍ نافذة تدعمه.
ولكن، مهما كان رئيس أكبر نقابة في الإمبراطورية، فإنَّ كونه مِن عامة الشعب وضع حدودًا لا يستطيع تجاوزها أمام طبقة النبلاء. وكان يكفي النظر إلى المعاملة التي يتلقاها ليتضح ذَلك.
فالنبلاء الذين يحصلون على جميع أنواع البضائع عبر نقابة مابيل، كثيرًا ما اعتادوا تجاهله واحتقاره، على عكس تعاملهم مع رؤساء النقابات مِن أصلٍ نبيل الذين جلسوا على الكراسي الفخمة اعتمادًا على الثروة الموروثة فقط.
بالنسبة لهم، كان مابيل كوينتوس مُجرد تاجرٍ يبيع ويشتري تحت أقدامهم.
المكانة الاجتماعية كانت نقطة ضعفه الوحيدة التي تُقيده.
“لدي قريبٌ بعيد، مِن فرع عائلتنا، يعيش بعيدًا عن العاصمة. وقد سمعتُ أنهم فقدوا طفلهم الوحيد منذُ زمنٍ بعيد ولَمْ يتمكنوا مِن العثور عليه. وإذا بقي الأمر على هَذا الحال، فإنَّ نسل تلكَ العائلة سينقرض في هَذا الجيل. إنه لأمرٌ مؤسف، أليس كذلك…؟”
في تلكَ اللحظة، ومضةٌ خفيفة مرت بعيني مابيل.
حدّق بي بهدوء، وأنا أبتسم بارتياح، وكأنني لا أحمل أيِّ أسفٍ حقيقي لما أقول.
‘لابد أنه يُحاول الآن تخمين ما يدور في ذهني.’
مابيل تاجرٌ حتى النخاع. وقد نشأ في خضم معركةٍ تجارية منذُ صغره، لذا لابد أنه تعلم مبكرًا أنْ لا شيء يُمنح مجانًا في هَذهِ الحياة.
كل شيء له ثمن، وهَذهِ قاعدة لا تتغير في عالم التجارة.
“ما الذي تريدينهُ بالمقابل؟”
بدا على وجهه أثرٌ خفيف مِن الحذر.
“حتى الآن، لا شيء. ولكن في يومٍ مِن الأيام، سيكون هُناك شيء يمكنكَ فعله مِن أجلنا.”
“مِن أجلنا…؟”
‘كما توقعتُ، إنه تاجر حذر.’
اعتدلتُ في جلستي، رفعتُ كتفيّ بفخر، ثم أطبقتُ على الأمر حتى لا يتهرب مابيل مِن فهم مقصدي.
“مِن هَذهِ اللحظة، كل مَن اجتمع هُنا اليوم سيضطر لاختيار موقفه. وأنتَ أيضًا. إذا كنتَ ترغبُ في قبول عرضي، فعليكَ أنْ تختار. لا حاجة لأن تُجيبني الآن. لكن تذكر، مدة صلاحية هَذا العرض لَن تكون طويلة.”
أنهَيْتُ حديثي بذَلك التحذير، ثم أدرتُ ظهري وغادرت.
حتى بعدما عدتُ إلى مكاني، ظل مابيل واقفًا هُناك متجمّدًا لبعض الوقت.
***
مر لقائي مع مابيل كما كنتُ آمل. وأرجح أنهُ سيرسل إليّ ردًا إيجابيًا في وقتٍ قريب.
فما يريدُه بشدة، لا يستطيع أحدٌ سواي أنْ يقدّمه له.
أما ردود فعل النبلاء الذين حضروا الحفل فلًمْ تختلف كثيرًا عن توقعاتي. كل شيءٍ كان يسيرُ حسب الخطة.
على الأقل حتى تلكَ اللحظة.
“إلينيـا.”
رنّ صوتٌ منخفض ومُكتئب في أذني.
حين التفتُّ، أول ما وقعت عيني عليه كان شعرهُ الفضي اللامع وعيناهُ الزرقاوان العميقتان تحدقان بي.
عيناه المُتجمدتان كانتا كبحيرةٍ متجمدة في عز الشتاء.
“دوق تيسيوس. لَمْ أكُن أعلم أنكً ستحضُر.”
“حين تتلقين دعوة، مِن الأدب أنْ تحضري. أليس كذَلك؟”
لوّح بالدعوة التي في يدهِ أمامي مُستعرضًا إياها. كان الظرف الصلب المختوم بختم العائلة يتأرجح قليلًا قبل أنْ يسقط بلا حول ولا قوة على الأرض.
ثم داس على الظرف بخطواتهِ وتقدم نحوي، مرسومًا على شفتيهِ ابتسامة إغراء.
‘صحيح. كنتُ أحبُ هَذا الوجه.’
تلكَ الابتسامة، وتلكَ العينان…
كان هُناك وقتٌ كنتُ أتمنى فيه أنْ تتجه كل مشاعرهِ نحوي فقط.
دوّن أنْ أدرك أنْ حتى شفرة سيفه ستُوجَّه إليّ ذات يوم.
‘حين أنظرُ إليك، أشعرُ برغبةٍ في قتلكَ وألمٍ يائس يدعوني للموت.’
حينما كان يهمس لي بأنهُ يحبني، وحينما كان يغرس سيفهُ في قلبي…
في الحقيقة، حتى الآن كنتُ أرغبُ في أنْ أسأله.
خلال كل ذلك الوقت الذي قضيناه معًا، أما أحببتني حقًا ولو مرةً واحدة؟ ولو للحظة؟
حبستُ تلكَ المشاعر في أعماقي، ونظرتُ إليه بهدوء.
“إذًا، ما رأيكِ؟”
“أتسأليني عن رأيي الآن؟ عن خطيبتي السابقة التي خُطبت لرجلٍ آخر؟”
انفجر ضاحكًا بسخريةٍ لا تُصدق.
“خطيبتُكَ السابقة.”
شدَّدتُ على الكلمات التي أسقطها في كلامه، فنطقتُه بوضوح، غير أنَّه تابع حديثه متجاهلًا ذَلك.
“ما زلتُ حتى الآن أعاني مِن ألمٍ كبير بسبب فسخ خطوبتنا. لقد تركتِ جرحًا عميقًا في قلبي.”
‘جُرح؟ لا بد أنَّه غاضبٌ لأنه خسر طريقًا أسهل ليُصبح إمبراطورًا.’
في تلكَ اللحظة، اجتذب نظري رجلٌ قصير القامة يقفُ خلف كتف تيسيوس. أو بالأحرى، كانت المرأة التي تقف بجانبه هي مَن لفتت انتباهي.
كانت المرأة ذات الشعر البني المرافقة للرجل تراقب هَذا الاتجاه بخوفٍ واضح، تلتفت باستمرارٍ وهي تترقبُ ردود الفعل.
بعكس الصورة الباهرة التي أحملها لها في آخر ذكرياتي، كانت ترتدي ملابس متواضعةً إلى درجة البساطة المُفرطة، وكانت فساتينها وحُليها قديمة الطراز، مِما يدل على أنها لَمْ تكُن تواكب آخر صيحات الموضة في العاصمة.
يبدو أنَّها حضرت مثل هَذا التجمع الضخم للمرة الأولى، إذ كانت تلتفت يمينًا ويسارًا بتوترٍ ظاهر.
بمظهرها البسيط وانكماشها في نفسها، كانت بعيدةً كل البعد عن أنْ تشبه الزهرة.
ورؤية حالها تلكَ خففت قليلًا مِن المزاج السيئ الذي كان يغمرني.
‘لا بد أنَّها لَمْ تتوقع أنْ تتلقى دعوة. ورغم ذًلك، جاءت إلى هُنا…’
انتقلت نظراتي تلقائيًا إلى الرجل القصير القامة الواقف بجانبها.
بارون ديليا، والدها، كان يتحرك بجسدهِ الصغير السمين بعصبيةٍ محاولًا أنْ يجذب انتباه النبلاء الآخرين.
يبدو أنَّه كان يسعى بكُل جهده لاستغلال هَذهِ المناسبة لصنع علاقاتٍ مع الحاضرين مِن أصحاب المراتب الرفيعة.
‘ما أجمل أنْ يجتمع في مكانٍ واحد خصومٌ أود إذلالهم.’
لَمْ يكُن بالإمكان أنْ أفوّت هَذهِ الفرصة الثمينة.
“بارون ديليا.”
رفعتُ يدي بهدوء وأنا لا أزال واقفة.
وما إنْ لمح البارون إشارتي، حتى هرول بأقصى سرعتهِ مصطحبًا ابنته إلى حيث أقف.
“إنه لشرفٌ عظيم أنْ أتشرف بلقاء خطيبة الدوق! أهنئكِ مِن أعماق قلبي على هَذهِ الخطبة السعيدة… آه!”
كان يفرغ عبارات المجاملة بحماسٍ مُبالغِ فيه، لكنه ما إنْ وقعت عيناه على تيسيوس حتى شحُب وجهه مِن الذعر.
ولولا أنني بادرتُ بالحديث إليّه، لرُبما ظل واقفًا هُناك متسمّرًا مِن الرعب.
“بارون ديليا، هَذهِ التي بجانبك، هل هي ابنتكَ؟”
“آه… نعم! هَذهِ ابنتي. ماذا تفعلين؟ أسرعي وقدمي التحية!”
“يشرفني لقاء خطيبة الدوق. اسمي ليزي ديليا.”
مِن خلال خصلات شعرها المنسدلة، شممتُ رائحة عطرٍ مألوف.
أخذتُ أحدق بها وأنا أشد عنقي بفخر، ثم رفعتُ صوتي بحيث يسمعني النبلاء مِن حولي.
“يبدو أنْ ابنتكَ قد بلغت سن الزواج. ألَمْ تجدوا لها زوجًا مُناسبًا بعد؟”
“آه… نعم، للأسف لَمْ نجد بعد الشخص المُناسب. هاها…”
“يا للأسف…”
تظاهرت بالدهشة بينما كان البارون يبتسم ابتسامةً خجولة تخفي طمعه، غير مكترثٍ بالحرج الشديد الذي كسى وجه ابنتهِ حتى احمرّ كحبّة طماطم.
“حسنًا، يبدو أنَّها فرصةٌ مناسبة. إذا رغبت، يُمكنني أنْ أتوسط لها في زواجٍ جيد.”
“زواجٍ جيد؟ عن أيُّ نوعٍ مِن الزيجات تتحدثين؟”
انتفخ وجه البارون الضخم حماسةً وترقبًا.
“بعد وفاة زوجة الكونت غارشي، ظل منزلهُ بلا سيدةٍ تديره لفترةٍ طويلة. وقد سمعتُ أنه بدأ يتهيأ لاستقبال زوجةٍ جديدة… أظن أنْ الآنسة ديليا قد تكون شريكةً مناسبةً له.”
“الكونت غارشي… تقولين؟”
“بالمناسبة، لقد سمعت أنَّ عائدات الأراضي التي ورثها عن والده تتزايد كل عام. أعتقد أنَّ زوجةً جميلة مثلكِ ستكون كنزًا لا يُقدَّر بثمن بالنسبة له. أليس كذلك؟”
ما إنْ سمع البارون كلامي حتى ارتسمت على وجههِ ملامحُ طمعٍ واضحة.
بدا وكأنَّ رأسهُ كان مشغولًا بالكامل بحساب الأرباح التي قد يجنيها مِن زواج ابنته، أكثر مِن انشغاله بفكرة أنْ يزوّجها لرجلٍ يكبرها بكثير وقد قارب الأربعين مِن عمره.
《 الفصول متقدمة على قناة التيلجرام المثبتة في التعليقات 》
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 7"