الفصل 54 : هناك أشياءٌ يمكنكَ أنْ تفقدها
“أيًّا كان ما تريدينه فقولي فقط. جواهر؟ معادن؟ أو ربما….”
كان يقدّم لي قائمةً طويلة من الخيارات، مترقّبًا ما سيخرج من فمي.
“تلك الأشياء لديَّ منها ما يفيض ويكفيني.”
“إذًا، ماذا تريدين؟”
حدّدت عيناه الرماديتان المتلألئتان نظريهما عليَّ.
“التكتّم على سرّ نسبها ليس أمرًا هيّنًا. وفوق ذلك، إخفاء الأمر وإرسالك لها إلى حفل الظهور الاول يُعدّ مخاطرةً كبرى.”
فرددتُ ظهري وجلست مستقيمة. وكان على وجه الكونت تساؤلٌ واضح: إذًا ماذا تريدين بالضبط؟
“…لهذا، وبالمقدار نفسه من المخاطرة التي تتحمّلها في التكتّم عليَّك، يجب أن تقدّم لي ما يساويه. فهذه هي القاعدة الأساسية في أيّ صفقة.”
حاولت الحفاظ على جلستي المستقيمة وأنا أحدّق بالكونت.
“يا سيدي الكونت.”
“نعم، يا آنسة. تفضّلي بالكلام.”
“أرجو أن تدعم سموّه الدوق كايلوس… وأن تدعمني أنا كذلك. في كل ما سيحدث من الآن فصاعدًا. هذا هو طلبي الوحيد.”
ما إن أنهيت كلامي حتى ظهر على وجه الكونت تعبيرٌ غامض يصعب فهمه.
شفتا الكونت المنفرجتان إلى الأعلى قليلًا جعله يبدو تارة كأنه يبتسم، وتارة كأنه في حيرة من أمره.
“قلتِ… دعم؟ أنا؟”
“نعم. سأبقى صامتةً بشأن ابنتك الآنسة ليجينيا. وسأهتم بتحضير حفلة ظهورٍ أول كاملةً لها. وإن أردت، فسأحضر معها بصفتي مرشدتها.”
“هاه… هذا عرضٌ يصعب رفضه حقًّا.”
حكّ الكونت ذقنه بيده وكأنه في موقفٍ محرج.
“وعندما تقولين: دعم، ما الذي تقصدينه تحديدًا؟”
“ألا تعرف الجواب مُسبقًا؟”
كرّرت عليه الجملة نفسها التي قالها لي سابقًا. ارتسمت ابتسامةٌ خفيفة على شفتيه قبل أن تختفي سريعًا.
ظل الكونت يربّت على رأس عصاه كأنه غارقٌ في التفكير. وكان رأس الذئب الرمادي المنحوت يبدو أكثر بريقًا كلما لامسته أصابعه.
“مقابل هذا… يبدو أن الخطر الواقع عليَّ أيضًا ليس قليلًا. لكن، لا بأس. إن كان بوسعي المساعدة ولو كنتُ رجلًا طاعنًا في السن… فليكن.”
ضرب الكونت برأس عصاه قرب ساقه العرجاء وقال:
“حسنٌ. إذًا فقد تمّت الصفقة.”
“أعتمد عليك إذن، يا سيدي الكونت فيديلت.”
“وأنا كذلك يا آنسة هيسيتايّا.”
مددت يدي نحو الكونت.
فانحنى قليلًا مستندًا إلى عصاه، ثم أمسك يدي برفق لثوانٍ قبل أن يتركها.
***
كانت الغرفة الداخلية الواقعة في أعمق نقطة من جناح الإمبراطورة معزولةً بجدران سميكة وأبواب مبطّنة بمواد عازلة تمنع تسرب الصوت.
ولهذا كانت الإمبراطورة تستخدم تلك الغرفة كلما أرادت التشاور سرًّا مع مقرّبيها أو مناقشة أمورٍ لا يجب أن تُسمع خارج الجدران. واليوم لم يكن مختلفًا.
“بماذا كنت تفكّرين لتقومي بمثل هذا العمل الأهوج!”
صرخت الإمبراطورة ليتيا بصوتٍ يكاد يتمزق، وهي تنهض نصف نهوض من أريكتها الوثيرة المكسوة بالفرو الناعم.
كان وجه ليتيا المحمّر غضبًا أعمق من لون الماء المائي المرسوم على اللوحة المعلّقة خلفها.
وبالمقابل، كان وجه آرياجين التي تجلس أمامها قد شحُب تمامًا بعد أن تلقّت كل ذلك التوبيخ.
“لم أقصد أن….”
“إن لم تكوني تقصدين، فكان عليكِ ألّا تجعلي النتيجة بهذا الشكل!”
“لكنها قالت إنها أحرقت تلك الزهرة! هذا غير معقول…!”
وبينما كانت آرياجين تحاول الدفاع عن نفسها أمام غضب ليتيا، بدا أنها أدركت أن أيّ تبرير لن ينفع، فعضّت شفتيها بقوة.
“هُدِّي من روعكِ الآن… آرياجين، ارفعي رأسكِ. هيا.”
مدّت ليتيا يدها نحو وجه ابنتها، تمسح بهدوء دموعها.
وحين رفعت وجهها بين كفّي أمها، نظرت إليها ليتيا بقلق قبل أن تعقد حاجبيها.
“يا إلهي. إنك تنزفين.”
تنهدت الإمبراطورة برفق وهي ترى قطرة الدم على شفتَي ابنتها، ثم هدّأت صوتها.
“آرياجين.”
“نعم، يا أمّي.”
“ألم أقل لكِ ألا تتصرّفي باستهانة؟ وألا تتركي أحدًا يمسك عليك خطأ؟”
“كان الأمر بسيطًا….”
“وما كانت النتيجة؟”
“…….”
“إذا كنت ستستخدمين شخصًا، فاختاري واحدًا ذكيًّا على الأقل.”
نقرت ليتيا بلسانها من شدّة الغضب.
أغمضت آرياجين عينيها بإحكام. أجل… لم تكن تستطيع إنكار أن خسارتها هذه المرة كبيرة.
فخادمتها نيلي، التي طالما خدمت بجانبها مع لينيّا، تقبع الآن في زنزانةٍ باردة في السجن السفلي.
وحتى لو كُتب لها الخروج منها، فلن تعود خادمةً لها أبدًا، ولن يكون بوسعها إنقاذ سمعة أسرتها كذلك.
كان من المفترض، حسب الخطة، أن تكون الفتاة الوقحة إلينيا هيسيتايّا هي من تقبع الآن في ذلك السجن… لا نيلّي الساذجة.
ثم كانت ستحمّلها مسؤولية إهمال الحديقة وإتلاف ممتلكات الإمبراطورية، فتبقيها هناك أيامًا باردة، لتُريها أين مكانها الحقيقي.
وحينها… كان من المؤكد أن ماركيز هيسيتايّا سيأتي راكعًا أمامهما، طالبًا الصفح.
كانت فرصةً مثالية لتحطيم أنفها العالي وكبريائها المبالغ فيه. لكن—.
ما إن خرجت من مكتب الإمبراطور وتوجهت مباشرةً إلى الحديقة، حتى وجدت زهرة القمر هناك، كما هي.
أرتجفت ساقاها حين رأت الزهرة واقفةً بلا خدش. وكادت تسقط أرضًا.
كيف يمكن أن تكون الزهرة سليمةً بهذا الشكل؟
كانت تلك الزهرة البائسة التي تتوسط الحديقة أكثر نضارةً من أيّ وقتٍ مضى، وكأنها ارتوت ماءً قبل قليل.
“لكن بالتأكيد…”
كانت نيلّي قد أكدت أنها رأت الخادمة تجتثّ الزهرة، ثم رأت بأمّ عينها أنها أُحرقت.
وكانت نيلّي صادقةً… بلا شك.
“إذًا… لماذا؟”
“آرياجين.”
رفعت آرياجين رأسها عند سماع صوت أمها.
“من الآن فصاعدًا، لا تتصرفي من تلقاء نفسكِ. يجب أن تخبرينني أوّلًا. فهمتِ؟”
“…نعم.”
“كل هذا لأجل حمايتكِ.”
وبعد مغادرة الأميرة آرياجين، بقيت ليتيا وحدها في الغرفة.
“حقًّا… تلك الفتاة طيبةٌ أكثر مِما يجب.”
تمتمت ليتيا بقلق، متذكّرةً كيف كانت ابنتها تخفّض رأسها خجلًا طوال التوبيخ.
لقد خسرت يدها اليمنى. وفي هذا الوقت تحديدًا، لا مجال لخسارة أيِّ تابع… حتى لو كان غبيًّا.
لكن ما فُعل قد فُعل.
لو كانت هي موجودة، لأمكنها على الأقل إنقاذ اسم أسرة الكونت، حتى لو هلكت تلك الخادمة الحمقاء في السجن.
فالاسم هو المهم… الاسم الذي يدعمها ويدعم آرياجين. أما الخادمة نفسها فلا قيمة لها.
“لكن… أيُّ حيلةٍ استخدمتها تلك الفتاة؟”
كانت إلينيا هيسيتايا في الآونة الأخيرة مصدرَ إزعاجٍ واضح لليتيا.
والأمر الذي حصل في الحديقة بدا غريبًا حتى لها. فإلينيا لم تمضِ سوى فترةٍ قصيرة في القصر، وليس لديها أحدٌ لتستند عليه.
كان من المستحيل الهرب من هذا الفخ ما لم يحذّرها أحد….
عندها، لمع في ذهن ليتيا خاطرٌ مفاجئ.
“يبدو أن لدينا… جرذًا في هذا القصر.”
ارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ خبيثة لا تليق بإمبراطورةٍ أنيقة. لكنها اختفت بسرعةٍ خلف وجهها البارد.
استدعت ليتيا أحد الخدم الواقف خارج الغرفة. وما إن دخل حتى انحنى احترامًا.
“بلّغ فورًا منزل الكونت تريجي بالدخول إلى القصر.”
“أمركِ، يا جلالتكِ.”
“و—”
توقّف الخادم عند الباب.
ألقت ليتيا إليه رسالةً مغلقة بختمٍ مشدود.
“سلّم هذه الرسالة سرًّا إلى الدوق تيسيوس.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 54"