كانت المرأة داخل اللوحة تبدو وكأنّها ستنبض بالحياة في أيّ لحظة.
ومهما يكن من رسمها، فلا شكّ أنّ الرسّام الذي أبدع هذا العمل قد تلقّى أجرًا كبيرًا.
لا ريب أنّ تلك اللوحة هي لزوجةِ الكونت الراحلة.
كان الخاتم في إصبعها الرابع مألوفًا لديّ.
الخاتم نفسه الذي رأيتُه الليلة في حفل العشاء مُرتديًا في إصبع الكونت.
ويا لها من سخرية.
شخصٌ يعلّق صورة زوجته المتوفاة حتى على جدار مكتب عمله… يذهب لينجب طفلًا غير شرعي مِن امرأةٍ أخرى.
‘أفكان هذا سببًا ليُخفي الأمر أكثر؟’
العالم مليءٌ بأُناسٍ متناقضين.
لا أعرف حقًّا مَن يمكن الوثوق به.
لكن… توجد استثناءات، أو ربما أرغب أنا في الإيمان بذلك فحسب.
هززتُ رأسي لأُطرد من ذهني صورةَ “ذلك الشخص” الذي خطر لي أوّلًا دون داعٍ في هذه اللحظة.
وفي تلك اللحظة تمامًا، دوّى صوت تدوير مقبض الباب، وبانَ طرفُ عصا طويلة قبل أن يظهر صاحبها.
“أعتذرُ لإبقائكِ تنتظرين طويلًا.”
جلس الكونت المُسنُّ على المقعد المقابل لي مُنهكًا، مُسنَدًا على كبير الخدم.
“يبدو أنّه كلما مرّ الوقت… صار الانتقال خطوةً واحدة أمرًا مُرهقًا جدًّا. وخصوصًا في الليل….”
وضع عصاه إلى جواره ثم استدار نحوي وهو يلفظ أنفاسًا متعبة.
“هل نُحضِّرُ لك الشاي؟”
سألني كبير الخدم الواقف بجانب الكونت.
“لا، لابأس. لستُ بحاجةٍ إليه.”
“حسنًا. الوقت متأخر على أي حال، فلنترك الشاي.”
وعند إشارة من الكونت، انحنى كبير الخدم وغادر الغرفة.
ساد جوٌّ مُربِك داخل المكتب بعد أن بقينا وحدنا.
وكان الكونت هو من بَدَأ الحديث.
“تشبهينَ كثيرًا المااركيز والدكِ يا آنسة.”
“أنا؟”
حاولتُ تحليل مقصده من هذا الكلام المفاجئ.
إن كان يعني الشبه من ناحية الشكل فقط… فربما عيناي ذات اللون الأرجواني فحسب؟
“ليس من ناحية الشكل فقط، بل في الطِّباع أيضًا.”
تابع الكونت كلامه بابتسامةٍ باهتة.
“فأنا في النهاية ابنةُ والدي. أليس من الطبيعي أن أشبهه؟ تمامًا كما تُشبه الآنسة ليجينيا الكونت.”
تذكّرتُ من جديد اللحظة التي واجهت فيها ليجينيا الذئب دون تردّد وهي تلوّح بسيفها.
“صحيح. فهي لا تُشبهني شكلًا أبدًا، أمّا ما سوى ذلك… فرُبما.”
تلاشت ابتسامةٌ قصيرة على وجهه.
“ما مقدار الشبه الذي ترينه بينكِ وبين والدكِ يا آنسة؟”
“لا أدري. كما قلت… بصفتي ابنة الماركيز فلا بد أنّني أُشبهه في جوانب كثيرة. لكن…”
‘ما هذا؟ كلما تحدثنا… أشعر وكأنّني أدخل متاهة.’
لكنّي أخفيتُ ارتباكي وأكملتُ ما بدأته.
“… كما أنّني لستُ نسخةً مطابقة من والدي، فلا أستطيع القول إنّني أشبهه في كل شيء. والدي يتمنى لي طريقًا آمنًا وسهلًا دومًا، أمّا أنا… فأرغب في شقّ طريقي بنفسي حتى لو لم يكن الطريق مريحًا.”
على عكس ما أشعر به، بقي على وجهه أثرُ ابتسامةٍ هادئة، لكنه لم يبدُ عازمًا على إيقاف تلك الأسئلة المزعجة.
“حسنًا… ما الذي يُمثّله الدوق كايلوس بالنسبة لكِ يا آنسة؟”
“ماذا؟”
اختفت ابتسامته تمامًا وهو ينظر إليّ بعينين لامعتين بحدّة.
“إن ظهر خطرٌ في الطريق الذي ترغبين في شقّه بنفسكِ… فهل سَتُمسكين بيد الدوق حتى النهاية؟ حتى لو كانت حياتُكِ مهدَّدة؟”
كان ينظر إليّ كما لو أنّه يضع طفلةً على مِحراب الاختبار.
وكان ذلك كافيًا ليُهينني ويُثير سخطي الذي حاولتُ كتمه منذ وصولي.
“سيدي الكونت… هل تُدرك ما الذي تقوله؟ هذا مُهينٌ جدًّا. لم تهينّني أنا فحسب، بل أهنتُ الدوق أيضًا. إنّه خطيبي الذي اخترتُه بنفسي. الشخص الذي أعلنتُ أمام الشعب بأكمله أنني سأرتبط به!”
لم يعُد لدي أيُّ بقايا صبر.
فوجّهتُ غضبي نحوه دون تردّد.
“لذا إن تجرّأت مرةً أخرى على قول شيءٍ غير لائق يُهينني أو يُهين خطيبي… فلن أتغاضى عنه!”
وبمجرد أن انتهيت من صبّ غضبي، دوّى صوتُ ضحكٍ عالٍ ملأ المكتب كله، فأصابني الذهول.
كان الكونت يهتزّ ضاحكًا بكل سرور كما لو كان ما قلتُه أمرًا مُبهجًا.
“هاهاها… آه، سامحيني يا آنسة. لقد أخطأتُ بحقّكِ حقًّا. لن يتكرر ذلك.”
لقد بلغ الأمر حدّه.
فأخيرًا سألتُ ما كان ينبغي أن أسأله منذ البداية.
“ما سبب طلبكَ رؤيتي أصلًا؟”
اعتدل الكونت في جلسته، ونظر إليّ بعينين لطيفتين لم أرَهما منذ وصولي.
وبصوتٍ رسمي إلى أبعد حد، قال:
“هناك أمرٌ أريد أن أرجوه منكِ يا آنسة.”
“رجاء؟”
‘بعد كل هذا…؟’
كتمتُ ضحكةً ساخرة، وقررتُ على الأقل سماع ما سيقوله.
“نعم. الأمر يتعلق بابنتي. ليجينيا. لقد أتمّت عامها السادس عشر هذا العام.”
‘ستة عشر؟ كنتُ أظنّها بالكاد في الرابعة عشرة.’
فوجئتُ قليلاً بعمرها الحقيقي.
فعمر السادسة عشرة يُعدُّ سنًّا ينبغي فيه معاملة الفتاة كـ سيّدةٍ شابّة.
لكنّ ما رأيته منها كان بعيدًا عن ذلك تمامًا.
“لكن كما رأيتِ… فهي لا تبدو في سنّها أبدًا. وهذا ليس عذرًا، لكن هنا في هذه المنطقة لا توجد فتيات في مثل سنّها لتتعلّم منهنّ أساسيات اللياقة. وما تعرفه هو فقط ما شاهدته من تدريب الفرسان… فصارت تقلّد بعض حركات السيف. إنّها مُستهترةٌ للغاية.”
عندها فهمتُ سبب مهارتها في محاربة الذئب.
فمن الواضح أنّ ممارستها كانت أكثر من مجرّد تقليد.
“حسنًا… فما الذي ترغب أن أفعله بالضبط؟”
“أريد منكِ أخذ ليجينيا إلى العاصمة.”
“إلى العاصمة؟”
“نعم. لقد بلغَت سنّ الظهور الأول. بل تأخرت كثيرًا.”
لم يكن مخطئًا.
عادةً تخوض الفتيات ظهورهنّ الأول في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة.
وليس في السادسة عشرة.
أنا شخصيًا خُضته في السابعة عشرة لأن العائلات العُليا تستطيع إقامة حفلٍ خاص.
لكن ليجينيا ليست من هذا النوع من العائلات.
ولو فاتتها حفلة الظهور الأول الإمبراطورية التي تُقام كل عامين… فستضطر للانتظار عامين آخرين بلا خيار.
“أريد منكِ مساعدتها في حفل الظهور الأول القادم في القصر الإمبراطوري. لتتعلّم أصول وآداب السيّدات على يد سيّدةٍ حقيقية. فقد علّمتُها ما أستطيع، لكن الفرق كبير بين تعليمي وتعليم سيّدةٍ مثلِكِ.”
مساعدة؟
بل أكثر بكثير من مجرد مساعدة.
فحتى لو كانت عائلة الكونت قد خدمت الإمبراطور السابق، يبقى حضورها منفردةً مختلفًا تمامًا عن حضورها برعاية عائلة ماركيز.
وفوق ذلك… ليجينيا…
“لا تقلقي. أمر ولادتها لا يعلمه أحدٌ خارج هذا القصر. وجميع من يعرفون… تحت سلطتي الكاملة.”
سبقني الكونت في التفكير، مطمئنًا إيّاي.
“إذًا… تريد وضْع ابنتك تحت رعايتي؟”
“بالضبط. وإن فعلتِ ذلك، فسأرسل رسالةً خاصة إلى الماركيز أيضًا.”
‘ما الذي عليّ فعله؟ طالما أنّ حقيقة ولادتها مُخفاة… فلن تكون هناك مشكلةٌ كبيرة.’
التعليقات لهذا الفصل " 53"