بعد أن هدأت الفوضى كلّها وعدنا إلى قصر الكونت، أُدخلتُ فورًا إلى الحمّام مع الملابس التي سأبدّل بها.
الخادمة ين، التي كانت قد شدّدت عليّ وعلى ليجينيا مرارًا بأن نكون حذرتين، كادت تُغمى عليها في مكانها عندما رأت حالنا عند مدخل المنزل وقد احمرّ وجهها بالكامل.
رفضتُ بإصرار أن تساعدني في الاستحمام، واتفقنا في النهاية على أن تُعينني فقط في ارتداء الملابس وتصفيف شعري بعد أن أنتهي.
“هوو….”
ما إن غمرتُ جسدي في حوض الاستحمام حتى اجتاحني الدفء وبدأتُ أشعر بالاسترخاء. جسدي المتصلّب من التوتّر أخذ يلين شيئًا فشيئًا.
لقد حدث الكثير في نصف يومٍ فقط. الكونت فيديلت وطفلته غير الشرعية، ليجينيا.
فهل كان الكونت في الشمال طوال هذا الوقت ليخفي وجود الابنة غير الشرعية؟
سمعتُ أنّ زوجة الكونت توفيت بسبب المرض، لكن ربما كان صدمتها من ابنة الكونت غير الشرعية قد عجّلت بوفاتها.
هل كان والدي يعلم؟ ثم ملامح كايلوس قبل قليل….
الأفكار التي بدأت في رأسي اندفعت مثل موجٍ لا يتوقف.
‘لنرتّب الأمور… واحدةً واحدة.’
استنشقتُ نَفَسًا عميقًا من أعماق صدري ثم أخرجته. ومع تكرار التنفّس العميق، شعرت بأن صداع رأسي الذي كان يطنّ بدأ يهدأ.
وقفتُ في الحوض ولففتُ جسدي بالمنشفة الكبيرة التي جهزتها الخادمة. وما إن فتحتُ باب الحمّام وسط البخار الكثيف حتى شعرتُ بالهواء البارد يلسع بشرتي ويعيدني إلى تركيزي.
“آنِستي، هل انتهيتِ من الحمّام؟”
الخادمة التي كانت تنتظر خارج الحمّام مسحت الماء المتساقط من شعري وقادتني إلى طاولة الزينة.
بعدما ارتديتُ الفستان الجديد الذي اختارته مُسبقًا، لم يبقَ إلا تجفيف شعري وترتيبه.
وقفت خلفي وهي تحمل شيئًا ما، ثم هبّت من خلف رأسي دفعةٌ من الهواء الدافئ. وفي لحظاتٍ صار شعري الذي كان مُبتلًا يلمع جافًّا ونظيفًا.
“هل هذا أرتيفكت؟”
حدّقتُ في تلك القطعة الدائرية في يدها.
الأرتيفكت هو أداة تُخزَّن فيها تعاويذ سحرية مفيدة. بعضها يُستخدم مرةً واحدة، وبعضها الآخر يمكن استخدامه عدّة مراتٍ إذا كانت التعويذة بسيطة.
وبطبيعة الحال، وبسبب ثمنها الباهظ، يصعب على معظم النبلاء امتلاكها.
“نعم. إنّه هدية من الكونت لآنسة ليجينيا. استعرته قليلًا فقط. ليس هذا استخدامه الأصلي… لكن آنسة ليجينيا كانت تذهب للغابة أحيانًا وتعود مبتلّةً من المطر، فاستخدمته مرّاتٍ قليلة للضرورة….”
“قلتِ إن اسمكِ ين، صحيح؟”
“نعم، صحيح يا آنِستي.”
“هل كنتِ تعتنين بآنسة ليجينيا منذ كانت صغيرة؟”
“أوه… لا. لقد مرّت سبع سنواتٍ فقط منذ بدأت العمل في قصر الكونت. لم تكن الآنسَة صغيرة تمامًا عندما جئت.”
“لكن لا بدّ أنّ التقرب منها كان سهلًا. فالآنسة مرِحةٌ ونشيطة بطبعها.”
اتّسعت عينا الخادمة بدهشةٍ وهي ترفع رأسها فجأة.
“مرِحة؟ آنستنا؟ إطلاقًا! عندما جئت إلى هنا، استغرق الأمر شهورًا كاملة قبل أن أسمع منها كلمةً واحدة!”
وبدا أنّها بعد أن علمت بأني أعرف أمر ليجينيا، لم تعد مضطرةَ لإخفاء شيء فبدأت تتحدث براحةٍ أكبر.
“كانت أجواؤها داكنةٌ جدًا… حتى إني ظننتُ في البداية أنها لا تستطيع الكلام… آه، لا، لم أقصد ذلك! يا إلهي… هلّا تناسيتِ هذا الكلام؟ إن علم كبير الخدم فسأُعاقَب بشدّة.”
لم أستطع إلا أن أومئ بعدما رأيتُ نظرتها المتوسلة.
‘هل كانت ليجينيا هكذا؟’
يصعب تصديق ذلك بعد رؤية الفتاة التي التقيت بها اليوم. كانت مراهقةً مرحة بكل المعاني.
مع أن جرأتها أمام الذئب وكيف لوّحت بالخنجر لا تشبه فتاةً مرحة تمامًا.
‘لم تبدُ قليلة الكلام أبدًا….’
“آنِستي، هل أستخدم هذا الزينة لشعركِ؟ أظن أنها تناسب الفستان الذي ترتدينه الآن.”
القطعة التي أمسكت بها كانت الزينة التي أهداها لي كايلوس. وبالفعل، تلائم الفستان البنفسجي تمامًا.
“حسنًا. استخدميها.”
كانت مائدة الطعام ممتلئة بأطباق فاخرة أكثر من المعتاد.
شرائح لحم العجل الصغيرة وصحن سمك السلمون المشوي كانت تفوح منها رائحة الزبدة الشهية التي تملأ القاعة.
رفع الكونت كأسه عاليًا وهو ينظر إلينا واحدًا تلو الآخر: إليّ، كايلوس، ثم ليجينيا.
“أعددتُ هذا العشاء للاعتذار عمّا حدث اليوم. أمرتُ بفتح مخزن المؤن في القصر، واخترتُ أفضل وألذّ الأطباق لإعداد هذا المأدبة. وأعلم أنّ هذا لا يكفي لمحو خطئي، لكن آمل أن تُخفّف قليلًا من استيائِكما.”
رفع الجميع الكؤوس بخفّة ثم وضعوها مجددًا.
قطعتُ قطعة من الستيك ووضعتها في فمي. كانت تذوب بمجرد لمسها لساني.
بالطبع، لا يمكن أن يتلاشى كل شيء بهذه البساطة.
لكن على الأقل، صِرنا نعرف بوضوح من هي الشخصية التي كانت مخفيةً في هذا القصر.
كما أنني لم آتِ إلى هنا لأحوّله إلى عدوٍّ حقيقي منذ البداية.
رفعتُ الملعقة الصغيرة ونقرتُ بها على طبق المقبّلات.
رنّ صوتٌ صافٍ، فالتُفتت جميع الأنظار إليّ.
“رغم أنّ البداية كانت مرتبكةً بعض الشيء، أعتقد أنّ اجتماعنا هذا يحمل معنى. وآمل أن تتطور علاقتنا بدرجةٍ أخرى من الآن فصاعدًا، يا سيادة الكونت.”
“هاهاها! كلامٌ صحيح يا آنِسة. اجتماعنا نحن الأربعة بهذا الشكل لا بد أن يكون قدرًا.”
ضحك الكونت بحرارةٍ وهو ينظر إليّ وإلى كايلوس.
أما ليجينيا، فهزّت رأسها وكأنها تعترض على سبب الضحك أصلًا.
وبرغم أنني كنت مرتاحةً قليلًا لضحكته، إلا أنّ كلمة “قدر” التي قالها علقت في صدري.
‘قدر…’
ونظرة كايلوس المقابلة لي كانت غريبةً كذلك.
وجهه الخالي من التعابير لم يُظهر شيئًا آخر.
كان يحدّق بصمتٍ في كأس النبيذ، ثم التقت عيناه بعينيّ فجأةً. توقفت نظرته قليلًا عند رأسي.
التعليقات لهذا الفصل " 52"