الفصل 51 : الذئب ²
“ماذا تعنين مَن أكون؟ كما تعلمين يا آنسة، أنا أعمل في هذا القصر….”
“منذُ متى صار فرسان قصر الكونت يرتجفون خوفًا على سلامة خادمةٍ تافهة؟”
“يرتجفون؟ إنّهم ليسوا خائفين عليّ، بل يقلقون على سلامة الآنسة فحسب.”
“حقًا؟ إذًا لا بأس لو فعلتُ هذا، أليس كذلك؟”
في اللحظة التالية انتزعتُ الخنجر من يدها ووجّهتُ نَصلَه الحاد إلى جهة معصمي.
“…!”
تشقّق—
وبمجرّد أن رأوا أنّي سلبتُ منها الخنجر، أسرع الفرسان وامتدت أيديهم نحو السيوف على خصورهم.
“انظروا إلى هذا. كلّ هذا الردّ لمجرّد خادمة. يبدو أنّ فرسان قصر الكونت يتحلّون فعلًا بروح الفروسية. إلا إن كان السبب أنّها ليست مجرّد خادمة.”
كان الفرسان، الذين تحرّكوا من دون وعيّ، في حالة ارتباكٍ شديد، لا يعرفون ما يفعلون، وكلّ ما فعلوه هو تبادل النظرات بعضهم مع بعض.
ولكن رغم ذلك، كانت أعينهم كلّها لا تزال مركّزةً عليّ، أنا التي أمسكتُ الخنجر ووجّهتُه نحو ليز.
“العادة حقًّا مخيفة… آخ!”
وبينما كنتُ أتحدث إليهم بهدوء، شعرتُ فجأة بضربة قوية على ذراعي أسقطت الخنجر من يدي.
لقد ضربتني ليز بقوة، ثم دفعت الخنجر بقدمها بعيدًا عن متناول يدي.
“إنّه مؤلم….”
كانت ذراعي اليمنى، التي ضُربت بها، تنبض ألمًا. لم أكن أنوي طعنها أصلًا. كنتُ فقط أريد اختبار ردّة فعل الفرسان.
لكن بفضل ذلك، تأكّد لديّ شيءٌ ما.
رفعتُ رأسي، فرأيتُ ليز وقد تراجعت إلى الخلف مبتعدةً عني بخطوةٍ كاملة.
“أنتِ—”
ولمّا هممتُ بالاقتراب منها سمعتُ صوتًا خلفي يناديني.
“إلِّينيا!”
كان ذلك الصوت الذي اعتدتُ عليه كثيرًا، لكن بنبرة مرتفعة على غير العادة. التفتُّ بسرعةٍ نحوه.
اقترب منّي، ومعه انتشر عطره البارد المعتاد عند أنفي.
“كايلوس.”
“ما هذا الدم؟ لا تقولي إنّكِ مصابة.”
وضع يده على كتفي وبدأ يفتّش جسدي بقلق واضح، وكان ذلك تصرّفًا غير مألوف منه.
“أنا بخير. هذا ليس دمي.”
“حقًا؟”
نظر إليّ غير مصدّق، فهززتُ رأسي مطمئنةً إيّاه.
“إن لم يكن دمكِ، فهذا جيد.”
حينها فقط أسقط يده عن كتفي التي كان يشدّ عليها بقوة. واستعاد فورًا تعبيره البارد المعتاد كأن شيئًا لم يكن.
“ولكن… ما الذي يحدث هنا بالضبط؟”
“ذلك…”
عندها رأيتُ الكونت فيديلت قادمًا وهو يعرج قليلًا من خلف كايلوس. وحين رأى الدم علينا قطّب جبينه.
“ليز! هل أنتِ بخير؟”
“نعم، أنا بخير….”
نظرتْ إليّ بسرعة، ثم التفتَ الكونت إليّ.
“ما الذي يحدث هنا؟ هل أصبتِ في مكان ما؟”
“هذا ما أريد أن أسأله أنا، يا كونت فيديلت.”
ثبتُّ نظري على المكان الذي يقف فيه، وتحديدًا على الخنجر عند قدميه.
“يبدو خنجرًا ثمينًا ليكون ملكًا لخادمة.”
كان الخنجر عند قدمي الكونت مرصّعًا بروبي صغير بحجم ظفر الإبهام، بالإضافة إلى أحجار كريمة صغيرة أخرى.
والضوء المنعكس عن نصل السيف المصقول كان يتلألأ بلون فضّي أبيض.
“صحيح. إنّه ثمين فعلًا لدرجةٍ لا يناسب خادمةً بسيطة.”
قال كايلوس وهو يلتقط الخنجر ويفحصه، مؤكدًا كلامي. أما الكونت فلم يقُل شيئًا، فتابعتُ كلامي وأنا أحدّق فيه.
“لقد قلتَ سابقًا إنّ الخادمة التي دخلت غرفتي عادت إلى مسقط رأسها. أليس هذا ما قلتَه بالضبط؟”
“نعم. قلتُ ذلك.”
“فمن هذه إذًا؟ ولماذا يحاول الجميع في القصر جاهدين إخفاء أمرها؟”
“…….”
“ألن يجيبني أحد؟”
وسط الصمت المطبق، كان أوّل من كسره هو الكونت فيديلت الذي كان يراقب بصمتٍ طوال الوقت.
“يا للأسف….”
ابتسمتْ عيناه على شكل نصف قمر وهو ينظر إليّ.
ولكن خلف ذلك الانحناء الهادئ، كانت عيناه تتلألآن بنظرةٍ مختلفة تمامًا.
تمامًا مثل اليوم الأول الذي دخلتُ فيه قصره.
كانت عيناه تشبهان عيني ذئب مفترس وهو يُحدّق بي.
“أنتِ تعلمين الإجابة مُسبقًا، أليس كذلك؟”
تجمّد الهواء بيننا في لحظة، وصار الجوّ باردًا كالجليد.
وهبت نسمةٌ باردة على عنقي المكشوف فشعرتُ بقشعريرة.
“إذًا… كان حدسي صحيحًا؟”
“ذلك يعتمد على ما الذي فكرتِ به.”
“كفاك مراوغة.”
صدر صوت كايلوس، منخفضًا وثقيلاً، وهو يضيق بعينَيه على الكونت.
بدا أنّ تلك النبرة المزعجة أثارت استياء الكونت، فحوّل نظره إلى ما خلفي.
“لا داعي لإضاعة المشاعر بلا طائل. ليز، تعالي.”
خرجت ليز من بين الفرسان الذين كانوا يحيطون بها واقتربت منا بخطواتٍ هادئة وثقيلة، حتى بدا مشهدها دراميًا.
حين وصلت أمامه وضع الكونت يده على كتفها.
“اسمحا لي أن أقدّمها رسميًا. اسمها الحقيقي هو ليجينيا. ليجينيا….”
“…فيديلت.”
تمتمتُ بصوتٍ منخفض، فأومأ الكونت برأسه.
“نعم. كما خمنتِ، هذه الفتاة هي ابنتي. إحدى الشخصين الوحيدين الذين يحملون اسم فيديلت في هذا المكان… وعائلتي الوحيدة.”
عائلته الوحيدة.
كان في صوته مسحةُ حزنٍّ خفيفة.
لكن لا يزال السؤال الحقيقي بلا جواب.
“إذًا لماذا أخفيتَ ابنتكَ الوحيدة؟”
“كنتُ سأخبركما قبل الرحيل. أردتُ فقط إخفاءها أطول وقتٍ مُمكن… لكنكما كنتما يقظين أكثر مِما ظننت.”
التفت نحوي.
إخفاؤها أطول وقتٍ مُمكن؟
ازدادت حيرتي.
“ولماذا ذلك؟”
نظر الكونت إلى ليجينيا للحظة.
“لأن ليجينيا ليست ابنة زوجتي.”
ليست من زوجته؟ إذًا…
“…إنّها ابنةٌ غير شرعية.”
تمتم كايلوس بصوتٍ منخفض.
ارتعشت كتفاي بلا وعيّ حين سمعتُ تلك الكلمة.
ولم ينكر الكونت شيئًا. ظلّ واقفًا صامتًا كالصخر.
لم يتكلم أحد، لكن كان واضحًا للجميع ما يعنيه ذلك الصمت.
كنتُ قد لاحظتُ أنّها لا تشبه الكونت مطلقًا…
شعرها البنيّ الداكن المتلألئ تحت الشمس كالرمال الشفافة، وعيناها السوداوان.
وخصلات شعرها بالذات كانت تُظهر تدرّجات لونية غير اعتيادية عندما يسطع الضوء عليها.
كنت أظنّ أنّ السبب هو انعكاس الضوء داخل الغرفة أو قرب النافذة… لكن اتضح أنّه لونها الحقيقي.
كما أنّ ملامحها لم تكن تشبه الكونت، فظننتها تشبه زوجته… لكنها ليست ابنتها.
إذًا فقد ورثت ملامحها وشعرها من والدتها الحقيقية.
“وماذا عن والدتها؟”
تذكّرتُ عبارته: عائلتي الوحيدة.
“والدتها ماتت فور ولادتها. كانت ولادتُها عسيرةً جدًا.”
قال ذلك دون أيّ تعبيرٍ في وجهه.
توجّه نظري تلقائيًا إلى ليجينيا، التي استمعت لكل شيء بهدوء.
“لا بأس. سمعتُ كل هذا وأنا صغيرة.”
قالت ذلك وهي ترفع كتفيها بخفة. وقد بدت مختلفة حقًا عن أيّ آنسةٍ نبيلة.
“والآن بعد أن عرفتما من تكون، فلتقدّمي تحيّتكِ رسميًا.”
تقدّمت ليجينيا بخطوة، ثم أمسكت بطرف تنورتها الداخلية الملطخة بالدم.
“أعتذر على هيئتي، لكن اسمحا لي أن أعرّف بنفسي رسميًا. أنا ليجينيا فيديلت.”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 51"