الفصل 50 : الذئب ¹
مرَّت عشرةُ دقائق تقريبًا منذ خروجِ الخادمة.
وكان ذلك وقتًا يكفي للصعودِ والنزولِ طابقًا مرارًا.
وفي انتظارٍ بلا نهاية، كان ذلك في اللحظة التي هممتُ فيها بالنهوضِ، غيرُ قادرةٍ على التحمّل أكثر.
طَقْ– طَقْ–
سمعتُ من خارجِ الباب طرقًا طال انتظاري له.
“يا آنِسَتي، لقد أحضرتُ تلك الفتاة.”
ومن خلف ظهرِ الخادمة التي دخلت متردّدة، ظهرت فتاة ذاتُ ملامح صغيرةٍ يافعة.
تبدو في الرابعةِ عشرة، أو الخامسةِ عشرة بالكثير.
فتاة بشعرٍ بُنّيٍ داكنٍ لامعٍ وعيونٍ سوداء، ترتدي فوق ملابسٍ منزليةٍ هادئةٍ عباءةً سميكة.
“أأنتِ مَن أحضرتِ هذه الزهور إلى غرفتي؟”
“…نعم.”
الفتاةُ التي نظرت إلى الزهورِ ثم إليّ بالتناوب ثبتت بصرها في النهاية عليّ.
وفي عينيها السوداوين كان يسبح فضولٌ كبير.
“سمعتُ أنّك أحضرتِها من غابةٍ تبعد قليلًا من هنا. يبدو أنّك تعرفين المنطقة جيّدًا؟”
“لقد عشتُ هنا طوال حياتي. وليس هذه المنطقة فقط، بل أعرف شمال البلاد كلَّه.”
“يا هذه، ما هذا الكلام أمام الآنسة؟! المعذرة يا آنِسَتي، ما زالت صغيرةً ولا تميّز جيّدًا.”
تدخّلت الخادمةُ المجاورة بلهجةٍ مرتبكة.
“لستُ… لستُ أُبالغ يا ين….”
والفتاة التي كانت على وشكِ الاعتراض، انغلقت شفتاها فجأة وكأنّ فكرةً ما خطرت لها.
وأطلقت الخادمةُ شهقةً خافتةً يملؤها الضيق.
“إذًا، سيكون من السهل عليكِ أن تدلّيني إلى غابة المتاهة.”
“نعم؟ غابةُ المتاهة؟ ذلك المكان خطير جدًّا يا آنستي!”
الخادمةُ التي كانت تصغي احمرّ وجهها من الخوف ولوّحت بيديها نافية، بينما لمعَت عينا الفتاة لسماع كلمة “الغابة”.
“بالطبع! من هنا إلى هناك حوالي ستمئة ياردة، نمشي قليلًا ونصل حالًا. فقط اتبعي خطايَ جيّدًا.”
كانت نبرةُ صوتها مليئةً بالثقة وهي تُقدّر المسافة من القصر إلى الغابة.
“حقًا ستذهبان؟!”
رأيتُ خلف كتف الفتاة الخادمةَ وهي تطأ الأرض بقلقٍ ظاهر، تبدو راغبةً في أن أغيّر رأيي وأتراجع.
غابةُ المتاهة… تلك الغابةُ الممتدّةُ عبر حدود الشمال، والتي تُحيط منطقةَ تيريون بأكملها.
وهي معروفةٌ بأنّ طرقها المتعرّجةٌ كالمتاهة مليئةٌ بأشجار البلوط، حتى إنّ أهلها الأصليين قد يضلّون فيها بسهولة.
ولم يكن من الصعب فهمُ توتّر الخادمة.
ولا أعلم إن كان ذلك قلقًا عليّ… أم رغبةً في منعي من البقاء وحدي مع الصغيرة.
لكنّني لم أُبدِ أيَّ رغبة في تغيير قراري.
“لدينا دليلٌ ماهر، فما الذي سيجعل الأمر خطيرًا؟ ستمئةُ ياردة ليست مسافةً بعيدة.”
“لكن هذه المنطقة شماليّة يا آنِسَتي… مختلفةٌ عن العاصمة التي عشتِ فيها. إن حدث لكِ أيُّ مكروه…”
“إنّها نزهةٌ قصيرة لا أكثر. أشعر بالاختناق من بقائي في الداخل طوال اليوم. لا تقلقي، لن يتأخّر الأمر.”
وبدا أنّ لهجتي كانت حازمةً بما يكفي ليجعل الخادمة تتراجع عن محاولةِ ثنيي.
وضعت عباءةً صوفيةً سميكةً فوق كتفيّ وهي تهمس بتحذيرها الأخير.
“رجاءً… عودي سريعًا. ولا تتوغّلي بعيدًا.”
“لا تقلقي.”
ابتسمتُ لها وخرجتُ خلف الفتاة التي سبقتني.
“رجاءً… احذروا!”
لم أعرف هل كان صياحُ الخادمة موجّهًا لي… أم للفتاة.
***
‘ألم تقل إنّنا سنصل بعد قليل فقط…؟’
يبدو أنّ قلق الخادمة بشأن اختلاف الشمال عن العاصمة لم يكن بلا أساس.
لقد تبعتُ الفتاةَ منذ فترة، لكن الغابة التي قيل إنها في الجنوب لم تظهر بعد.
وفوق ذلك، يبدو أنّ الطرقَ المؤدية إليها ليست طرقًا يكثر استخدامها.
الأرض مليئةٌ بالحجارة والأعشاب البرّية الخشنة.
ومع أنّ الفتاةَ أمامي كانت تُفسح الطريق وتمنع الأغصان من خدش ساقيّ، فإنّ المسير في طريقٍ جبليٍّ ملتفٍّ لأكثر من عشر دقائق أثقل ساقيّ كثيرًا.
“هل أنتِ بخير؟”
التفتت الفتاةُ إليّ، دون أن تبدو عليها أي علامة تعب.
“لقد تبقّى قليلٌ جدًّا. يجب الالتفاف من هنا لأنّ الجبلَ يُحيط بالمكان.”
اقتربت منّي الفتاةُ ونفضت عن عباءتي بقايا الأعشاب وهي تقول بنبرةٍ مهدّئة.
“شكرًا لك. ما اسمكِ؟”
“اسمي؟”
توقّفت خطواتها لحظةً صغيرة.
“…ليز. نادِني ليز فقط.”
“حسنٌ يا ليز. ما الذي جعلكِ تفكّرين في وضع تلك الزهور في غرفتي؟”
“فقط بدت الغرفةُ باردةً قليلًا. فقلتُ إنّ الزهور قد تُضفي عليها بعض الدفء.”
“إلى أن أعود كلَّ مرة؟ ألن يكون التنقّل بين الغرفة والغابة مرهقًا لكِ؟”
“لا مشكلة، فأنا أمشي هذا الطريق تقريبًا كلّ يوم.”
“كلّ يوم؟”
“نعم. لا يوجد ما أفعله في القصر على أيّ حال… ووالدي طلب مني ألّا أخرج من الغرفة في الأيام الماضية….”
وتوقّفت الفتاةُ فجأةً، وقد بدا عليها أنها أدركت أنها قالت أكثر مِما يجب.
بياضُ شفتيها المقضومتين كان بقدر بياض قبضتها المشدودة.
“والدكِ؟ ومَن والدكِ…؟”
كنتُ في طريقي لمساءلتها حين…
“غَرررر….”
انطلق صوتُ حيوانٍ ما، وظهر من بين الأشجار ذئبٌ هزيلٌ مغطّى بشعرٍ أسود قاتم.
“ما… هذا…!”
لم أستطع حتى صياغة جملةٍ واحدة من شدّة الصدمة. ذئب… هنا؟!
لم أرَ ذئبًا في حياتي، ولا حتى كلبًا ضالًا، فكيف أواجه هذا الآن؟
‘أأركض؟ هل أهرب؟’
ورغم علمي بسخف الفكرة، إلا أن عقلي شُلّ تمامًا.
‘لو أنّي تعلّمتُ دفاعًا عن النفس…!’
لم يخطر في رأسي سوى أفكارٍ غير مفيدة.
حينها سمعتُ صوت الفتاة، هادئًا، ثابتًا.
“لا تتحرّكي.”
“لكن…!”
“هسّ!”
كانت ريز مدهشةً ببرود أعصابها. لم تُظهر فزعًا، بل همست لي مهدّئة.
“هذا الذئب مريض. ولهذا انفصل عن قطيعه.”
تلفّتُّ حولي، وبالفعل لم يكن هناك أيُّ ذئبٍ غيره.
لكن الذئب… يظل ذئبًا. مريضًا كان أم مطرودًا، لن نقدر على مواجهته بسهولة.
‘ماذا أفعل…؟ هل أموت هنا على يد ذئب…؟’
شَقَّ الهواء صوتٌ حاد.
وبلمح البصر انطلق خنجرٌ صغيرٌ ليصيب خاصرة الذئب مباشرة.
“كْياآاااا!”
عوى الذئبُ بألمٍ شديد وهو يترنّح.
لكنّ الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد.
فقد اندفعت ريز نحوه كالسنجاب الطائر، تحمل غصنًا حادًّا.
وغرست الغصن في عين الذئب اليسرى، بينما كان يحاول نزع الخنجر من خاصرته.
ثم سحبت الخنجر بمهارة.
“كْيااانغ! كيين! نَكْ!”
لم يثبت الغصنُ في عين الذئب، بل سقط على الأرض.
لكن الجروحَ كانت كافيةً لجعله يركض هاربًا وهو يصرخ من الألم.
وبينما كان يختفي بين الأشجار، سُمع صوتٌ ينادي.
“يا آنِسَتي!”
كانوا فرسان الحراسة في قصرِ الكونت، يرتدون دروعًا فضيّة تصطكّ مع خطواتهم.
اقتربوا مسرعين، ووجوههم تصطبغ بالصدمة حين رأوا الدماء على ملابسي، ثمّ الدماء التي غطّت ريز من أعلى رأسها حتى قدميها.
“يا إلهي! هل أُصبتم؟! انتظروا، سأجلب مركبة فورًا!”
“لا… بأس….”
حبستُ أنفاسي لأتمكّن من إخراج الكلمات بصعوبة.
“لكن الدم….”
“ليس دمَنا.”
خطت ريز خطوةً إلى الأمام، ونزعت عباءتها الملطّخة بالدم.
ثمّ اقتربت منّي.
“هل أنتِ بخير؟”
خَطَفتُ يدها فجأة.
“ما هذا…؟!”
نظرت إليّ بدهشة، لكنّ اهتمامي كان منصبًا على شيءٍ واحد فقط.
الأمر الذي أردتُ سؤاله منذ اللحظة الأولى التي رأيتها فيها.
“أنتِ… مَن تكونين بالضبط؟”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 50"