اقتربت الخادمة التي عثرت على فُستان مُزيَّن بالفرو إلى جانبي.
وبضعُ لمساتٍ ماهرة فقط كانت كفيلةً بأن يَنزلق الفستانُ المُتّسِخ إلى الأرض.
“هل أُخفِّفُ لكِ المِشدّ قليلًا؟”
“آه، هلّا فعلتِ؟”
“نعم، سأُرخيه قليلًا إذن.”
كان التنفّس قد أصبح صعبًا بعد تناول الطعام، وذلك لأنّ المِشدّ كان مُحكمًا داخل الفستان السميك أصلًا.
‘لو كانت كايا لَما سمحتْ بهذا أبدًا.’
في الحقيقة، ليست كايا وحدها، بل أيُّ سيّدةٍ من عائلات النبلاء في العاصمة ترتدي المِشدّ بإحكامٍ لدرجةٍ لا يكاد المرء يلتقط أنفاسه داخل الفستان.
صحيح أنّ الخصر كلّما بدا أضيق والقفص الصدري أرفع كان المظهرُ أجمل، لكنّ السبب الأكبر يكمن في اعتقاد النبلاء أنّ تلك الهيئة هي النموذجُ الأمثل للرزانة والوقار.
لكن هنا ليس العاصمة، وفوق ذلك فإنّ الأقمشة السميكة تُخفي كلّ شيء، لذا لا حاجة للانشغال بالمِشدّ.
ويبدو أنّ الخادمة أيضًا، التي عاشت طويلًا في الشمال، ليست مُتشدّدة بشأن المشدّ مثل أهل العاصمة.
فقلتُ لها برفق:
“من أين يُحضِرون الزهور؟”
“هناك غابةٌ صغيرة تقع جنوبًا على بُعد مسافةٍ قصيرة، ويقولون إنّهم قطفوها من هناك.”
“أودّ أن أذهب لرؤيتها. وأريدُ من تلك الخادمة أن تُرافقني شخصيًا.”
“نعم؟ مرافقة؟”
شعرتُ بيدَي الخادمة تتوقّفان فجأة خلف ظهري وهما تحلّان عُقدة المِشدّ.
“آنِسَتي، تلك الفتاة….”
“إنّها في الطابق الثالث، أليس كذلك؟ أتحدّث عن الخادمة التي ذكرتِها قبل قليل.”
“ن… نعم، هذا صحيح، ولكن….”
ولأنّها لم تستطع إنكار ما قلتُه، أومأت بخجلٍ خفيف.
فأتبعتُ كلامي وأنا لا أترك لها مجالًا للتملّص:
“إذن أرجو مرافقتها لي. ويُفضَّل الآن.”
***
‘ماذا سأفعل الآن؟’
كانت الخادمة ين تتردّد في الممرّ أمام الباب، متردّدة مضطربة، تُطلق زفرة صغيرة وهي تلتفتُ كلّ مرّةٍ خوفًا من أن تصل أنفاسها إلى داخل الغرفة.
مرّ سبعُ سنواتٍ منذ بدأت ين العمل في قصر الكونت فيديلت. وكانت أعمالُ القصر، مقارنةً بالأماكن التي خَدَمتْ فيها سابقًا، سهلةً للغاية.
حياةٌ يوميّة رتيبة تتكرّر بلا أحداث.
ولا يزور المكان أحد، باستثناء ساعي البريد الذي ينقل أخبار العاصمة بين حينٍ وآخر، أو موظّف البقالة الذي يجلب الموادّ الغذائية.
لم يكن عليها سوى القيام بالتنظيف اليومي وبعض المهمّات البسيطة، ثم ينتهي دورها.
وكان هناك شرطٌ واحدٌ لا بدّ من توفره للعمل هنا:
أن تكون ذات فمٍ مُغلَق.
كلّ ما يُرى أو يُسمَع هنا يجب أن يبقى سرًّا.
ولم يكن مسموحًا لها إخبار أحد، ولا حتى عائلتها، وقد وَضعت بصمتها على تعهّدٍ صريح قبل أن يُسمح لها بدخول القصر.
وكان ذلك سهلًا بالنسبة لها. فالنبلاء شديدو الحساسية تجاه خصوصيّاتهم، وهذا ليس غريبًا.
وخلال سبعة أعوام، لم تُخالف ين قواعد القصر ولو مرة…
إلى هذا اليوم.
حين طلبت الضيفةُ القادمة بعد سبع سنواتٍ من الغياب، ابنةُ ماركيز، أن تُحضِر “تلك الفتاة”، غَشِيَ الضبابُ عينيها من الصدمة.
حتى إنّ يديها، المُتعرّقتين من التوتّر، أخذتا تنزلقان وهي تربط عُقدة الفستان، ولم تعد تعرف كيف أنهت العمل.
‘كان يجب ألّا أسمح لها بالخروج من الغرفة!’
لكن لا فائدة من الندم الآن.
فالضيفةُ النبيلة تنتظر في الغرفة، مُصمّمةً على رؤية وجه “تلك الفتاة” مهما كان الثمن!
والآن… لقد تجاوز الأمرُ حدود قدرتها على الحلّ.
نزلت ين بسرعةٍ عبر الدرج.
وبمجرّد وصولها إلى الطابق الأوّل، رأت الشخص الذي تبحث عنه واقفًا قرب قاعة الطعام.
فتقدّمت نحوه مسرعة وقالت:
“سيّد هايلو!”
“ما الأمر يا ين؟”
ارتسمت الدهشة على وجه كبير الخدم وهو يرى ين تقترب منه بهذه السرعة.
“لقد حدث أمرٌ خطير.”
“أمرٌ خطير؟”
“الآنسة في الطابق الثاني… تطلب إحضار… تلك الفتاة.”
“ماذا؟”
تجعّد جبين كبير الخدم هايلو بشدّة.
وزفر من أعماقه زفرة طويلة، ثم استعاد هدوءه وسأل:
“كيف حدث ذلك؟ لماذا طلبت الآنسة مثل هذا الطلب؟”
وأخذت ين تشرح ما جرى على الدرج بتفصيلٍ كامل.
وبعد أن أنهت حديثها، بقي هايلو صامتًا يُفكّر للحظات.
ثم رفع رأسه وقال:
“انتظري هنا. سأُبلغ السيّد الكونت.”
“نعم، سيّد هايلو.”
وما إن أنهى كلامه حتى توجّه إلى مكتب الكونت.
وسُمِع طَرقٌ خفيف على باب المكتب.
“سيّدي الكونت. أنا هايلو.”
“ادخل.”
دخل هايلو وانحنى لـ دوق كايلوس، ثم اقترب من الكونت وهمَس في أذنه بشيءٍ ما.
وبرزت على وجه كونت فيديلت تعابيرٌ غريبة بعد سماع الهمس.
التعليقات لهذا الفصل " 49"