الفصل 48 : الكونت فيديلت
“…اُدخلي بسرعة!”
“قلتُ لكِ إنّي فهمت!”
كان صوتُ خادمةٍ تتوسّل إلى شخصٍ ما بأن يدخل بسرعة.
وصوتُ الإجابة الذي جاءها بنبرةٍ متبرّمة كان صوتَ فتاةٍ صغيرة.
‘إلى مَن تطلبُ أن يدخل؟’
الخادمة كانت تستخدمُ لغةً مهذّبة مع الطرف الآخر. وهذا يعني أنّ المقصود إمّا ذو رتبةٍ أعلى منها أو أكبر سنًّا.
لكنّ صوتَ الفتاة التي ردّت كان صغيرًا جدًّا ليتناسب مع ذلك.
تزايدَ شكي حول ما إذا كان الطابقُ الثالث فعلًا مخصّصًا لسكن الخَدَم.
“أوه، يا آنِسة!”
الخادمة التي كانت تنزل السلالم قابلت نظري فجأةً بجانب الدرابزين. وقد اتّسعت حدقتاها من الصدمة والارتباك، واهتزّتا بقلق حين واجهتاني.
تقدّمتُ خطوةً ونظرتُ إلى أعلى الطابق الثالث.
وراء جسد الخادمة التي كانت تقف في منتصف الدرج، اختفى بسرعةٍ رأسُ شخصٍ ما.
“انسكب ماءُ الشاي….”
رفعتُ طرفَ فستاني الملطّخ عمدًا بماء الشاي الذي سكبتُه قبل أن أخرج من الغرفة.
“لِمَ لَمْ تقرعي الجرس؟”
“شدَدْتُ الحبل لكن لم يأتِ أحد.”
‘مع أنّي اكتفيتُ بالتظاهر بذلك.’
نظرت الخادمة خلفها بطرف عينها، وبعد أن تأكّدت أنّه لا يوجد أحد، تنفّست براحةٍ ونزلت السلالم.
“هيا إلى الغرفة. سأساعدكِ في تبديل ملابسكِ.”
“شكرًا لكِ.”
قلتُ ذلك وأنا أنظر إلى ظهر الخادمة التي كانت تمشي أمامي.
“لا شكرَ على واجبي.”
سمعتُ صوتها اللطيف يردّ على تحيتي.
لكن وحتى عودتي إلى الغرفة، كان المشهدُ الذي رأيتُه قبل قليل يتكرّر في رأسي بلا توقف.
مؤخرة الرأس التي لمحْتُها وراء الخادمة التي منعتني من الصعود. شعرٌ خِلاَلَه يلمع بخُصلاتٍ بُنّية داكنة اختفت بسرعة.
***
‘لا يُعجبني الأمر.’
كانت هذه هي الفكرة الوحيدة التي تملأ رأسَ كايلوس.
منذ لحظة وصوله إلى الشمال، إلى قصر الكونت فيديلت، وحتى الآن… كانت الأمورُ تسير في اتجاه لا يروق له على الإطلاق.
وكان ذلك أحد الأسباب التي أقلقته قبل مجيئه إلى هنا.
عادت إلى ذهنه المحادثة التي جرت بينه وبين كرونو في القصر سابقًا.
-“لقد تحقّقتُ من أمرِ كونت فيديلت.”
-“حسنًا. أيُّ رجلٍ هو؟”
قبل قبول الدعوة بناءً على كلام إلينيا، كان قد طلب من كرونو التحقيق مسبقًا بشأن الكونت فيديلت.
-“الأمر أنّ المعلومات عنه شبه معدومة.”
-“لا معلومات؟”
سلالةٌ حمت الإمبراطورية منذ عهد الإمبراطور السابق، فكيف لا تتوفّر معلوماتٌ عن عائلةٍ كهذه؟ ما معنى هذا الكلام؟
قطّب كايلوس حاجبيه. وحين لاحظ كرونو ذلك، أسرع في متابعة حديثه.
-“بالتحديد… منذ أن غادر العاصمة، اختفت كل آثاره. لا نعرف أين ذهب، ولا كيف استقرّ في الشمال، ولا مَن قابل، ولا ما الذي فعله. لا شيء.”
حتى لو غادر العاصمة وابتعد عن الإمبراطور، فكيف يمكن لرئيس عائلةٍ ذات نفوذٍ كبير كهذا أن يختفي دون أثر؟ دون أن يساعده أحد؟
-“غير أنّ…”
بدت على كرونو علاماتُ التردّد.
-“ما الأمر؟”
-“آخرُ مكانٍ شوهد فيه كان لدى ماركيز هيسيتايا.”
-“هيسيتايا؟ هل أنت متأكد؟”
-“نعم. آخرُ شخصٍ قابله قبل مغادرة العاصمة كان ماركيز هيسيتايا.”
ماركيز هيسيتايا؟ والد إلينيا؟
وتذكّر أنّها قالت إنّ الكونت فيديلت ووالدها صديقان قديمان.
ومن تصرّفات إلينيا، لم يكن يبدو أنّها تعرف الكثير عن الكونت فيديلت هي الأخرى.
‘آخرُ شخصٍ قابله قبل مغادرة العاصمة…؟’
هل كان ذلك مجرد لقاءٍ بين صديقين؟ أم كان هناك سببٌ آخر؟
ثمّ إنّ تكليف الإمبراطور له بحراسة الحدود الشمالية، ووجود كونت فيديلت هناك… كلّ ذلك كان يثير الريبة.
ولكي يعرف السبب، كان لا بدّ من لقاء الكونت شخصيًا.
‘لكن ما الذي يدبّره بالضبط؟’
نظر كايلوس إلى الكونت فيديلت الجالس أمامه.
إنه مبالغٌ في التهذيب. فمنذ لحظة وصوله البارحة إلى القصر وحتى الآن، كان أحدُ الأمور التي أثارت انزعاجه هي تلك اللياقة المفرطة.
لم تكن المشكلة في فِعل الكونت ذاته، بل في كون تلك اللياقة موجّهةً إليه هو تحديدًا.
الوريث الأول للعرش. أحدُ دوقَي الإمبراطورية. وبمجرد مكانته هذه، كان يجب على النبلاء احترامه.
لكنّ وصمة “ابنٍ غير شرعي” التي وُلد بها ولازمته طوال حياته سلبته فرصة أن يُعامل كدوقٍ حقيقي.
ابنٌ غير شرعي للإمبراطور، ناقص، يحمل دم العائلة الإمبراطورية ولا يستحق لقب الأمير. تلك كانت الألقاب التي يصفه بها الناس.
النبلاء جميعهم كانوا “يتظاهرون” بالاحترام أمامه، لكن قلّةً قليلة جدًا كانت تعاملُه باحترامٍ حقيقي.
كان الجميع يرتدي قناعًا، ينحنون أمامه، لكن خلف ذلك القناع كانت تلوحُ سخريةُ احتقارهم له.
وحده كونت فيديلت كان مختلفًا. لم يكن متصنّعًا، بل كان صادقًا في احترامه. في نبرة صوته، وفي أفعاله، وحتى في أبسط إيماءاته.
كان يعامله فعلًا كدوقٍ أعلى منه رتبة. وكانَ الكونتُ الوحيد من النبلاء الكبار الذي يفعل ذلك… باستثناء إلينيا فقط.
وهذا ما جعله الأمرَ أكثرَ غموضًا.
فمنذ تناولهم إفطار الصباح، لم يسمع منه سوى تقارير عادية: قلّة المحاصيل بسبب الطقس الوعر، وهجرة السكان، وعدم مجيء وافدين جدد.
أمورٌ يمكن إرسالها في رسالة، ولا تستدعي رحلةً طويلة للحديث عنها وجهًا لوجه.
لكن ما أزعجه منذ البارحة كان أمرًا آخر تمامًا.
آثارُ التسلّل إلى غرفة إلينيا.
سواء كان هو نفسه قد تعرّض لشيء الليلة الماضية أم لا، ما أغضبه حقًا هو أنّ شخصًا مجهولًا دخل غرفة خطيبته سرًا.
إنها خطيبتُه. وهو يكره أن يمسّ أحدٌ شخصًا يخصّه—حتى لو كان ذلك عن طريق الخطأ.
وبالأمس… لم يحمه أحد. بل هي التي جاءت لتحميه. في منتصف الليل. بذلك الثوب الليلي.
‘مَن يحمي مَن؟’
معصمها النحيل الذي ظهر من بين ثنايا قميص النوم بدا ضعيفًا لدرجة أنّه شكّ إن كانت قادرةً حتى على إمساك سيف.
وأمّا جسدُها…
حين تذكّر الليلة الماضية، قطّب وجهه من شدّة الارتباك.
“هل هناك ما يقلقكم يا سموّك؟”
سأل الكونتُ الذي كان يسرد تقاريره بلا فائدة حين لاحظ ملامح كايلوس المتجعّدة.
“هل كانت الخادمةُ التي دخلت تلك الغرفة فعلًا هي الخادمة التي قيل إنّها في إجازة؟”
“نعم، يا مولاي. إنها الخادمة المسؤولة عن تنظيف القصر.”
“أي إنها امرأة.”
أومأ الكونت من غير قصد. بينما خيّم على وجه كايلوس شيءٌ يشبه القتل.
“جيد. فلو كان رجلًا…”
مال الكونتُ قليلًا ليصغي. لكن بقية الجملة كانت خافتة ولم يسمعها.
ما لم يسمعه الكونت كان يتردّد في رأس كايوس فقط.
‘لو كان رجلًا، لاقتلعتُ عينيه قبل كل شيء.’
***
‘لا شكّ في ذلك.’
على الرغم من أنّها لم ترَ سوى لحظةٍ قصيرة، فقد رأت بوضوح خُصلات الشعر البُنّي الداكن التي تلاشت فوق الدرج.
ربما حاولت إقناع نفسها بأنّها اشتبهت بالأمر، لكنّ ردّة فعل الخادمة التي أوقفتها كانت صادقةً إلى حدٍّ يمنع ذلك.
وبهذا، تأكّدَ أيضًا أنّ الكونت كذب عليها.
لكن لماذا؟ مَن تكون تلك المرأة؟
امرأةٌ تستخدم معها الخادمةُ لغةً مهذّبة، ويُخفي وجودَها كلُّ من في القصر.
‘لا بدّ أن أعرف مَن هي.’
ولتحقيق ذلك، يجب أن أبدأ بهذه الخادمة.
كانت تقف أمام حقيبة أمتعتي وتبحث عن فستانٍ لتساعدني على تبديله.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
حسابي ✿ 《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 48"