بعد ذلك الحديث الأخير، أوصلني كايلوس إلى غرفتي، ولم أستطع النوم لفترةٍ طويلة وظللت أتقلّب كثيرًا.
وبسبب أنّني لم أنم إلا قُبيل الفجر، لم أنَل سوى بضع ساعات قبل أن أضطر للاستيقاظ.
“إنّها ساعةُ الفطور يا آنسة.”
بمجرد سماعي لكلام الخادمة التي جاءت تُعلن وقت الفطور، تمكنت أخيرًا من رفع جسدي عن السرير.
لكن الخادمة التي دخلت لتساعدني في التجهيز لم تكن خادمة الأمس.
“أين لينزي؟”
“لينزي ليست بحالةٍ جيّدة اليوم، وقد أخذت إجازة للراحة. لذلك سأقوم أنا بخدمة الآنسة اليوم بدلًا منها.”
وما إن أنهت كلامها حتى وقفت خلفي مباشرةً لتبدأ بتمشيط شعري.
‘ليست بحالةٍ جيّدة؟’
حتى البارحة كانت بخيرٍ تمامًا، وفجأة أصبحت مريضة ولا تستطيع القدوم؟ أيًّا كانت الطريقة التي أفكّر بها، فهذا أمرٌ مريب.
أنهَيتُ تجهيزاتي بمساعدتها ونزلت إلى قاعة الطعام.
“هل نِمتِ جيّدًا الليلة الماضية؟”
“نعم، بفضلك.”
أجبتُ تحيّة الكونت وجلستُ في مكاني.
نظرتُ حولي، لكن الخادمة من الأمس لم تكن موجودةً في قاعة الطعام أيضًا. وبدلًا منها، كانت خادمةٌ أخرى لم أرها من قبل تُقدّم الطعام.
‘إنّها ليست موجودةً فعلًا.’
ثم التقت عيناي بعيني كايلوس الجالس أمامي مباشرةً. يبدو أنه لاحظ أيضًا اختفاء خادمة الأمس.
أومأ لي بصمتٍ كأنه يقول: لننتظر قليلًا.
وجّهتُ نظري نحو الخادم هايلو الواقف خلف الكونت. بقي أن نرى كيف سيتصرّف الكونت.
ولم أضطر للانتظار طويلًا. فقد فتح الكونت فمه أولًا وهو ما يزال جالسًا بهدوء.
“وعلى كلّ حال، لقد سمعت أنّ أمرًا غير مرغوبٍ قد حدث البارحة، يا آنسة.”
“أمرٌ غير مرغوب؟”
تظاهرتُ بالجهل وفتحتُ الحديث.
“نعم. بحسب ما أخبرني به هايلو، فقد كانت هناك بعض النواقص في تجهيز الغرفة التي ستُقيم فيها الآنسة بسبب خطأٍ من أحد العاملين.”
“آه، تقصد ذلك الأمر. عندما دخلتُ غرفتي البارحة، وجدتُ آثارًا تدلّ على دخول أحدهم. كان النافذة مفتوحة، كما سقطت المزهرية.”
“يا للأسف. لقد شددتُ على ضرورة الاهتمام بغرفة الضيفة العزيزة. كيف حدث ذلك يا هايلو؟”
قَطّب الكونت جبينه مُحمّلًا الخادم المسؤولية.
“أعتذر، يا سيدي الكونت. كلّه تقصيرٌ منّي. كان عليّ أن أتفقد الأمر بنفسي… إن أمرتُم بمعاقبتي فسأتقبّله بالطبع.”
“وهذا أمرٌ مؤسف…”
بدا الكونت مُتحيّرًا وهو ينظر إليّ. فوضعتُ السكين التي كنت أقطع بها الخبز.
“إذًا، مَن هو الذي دخل غرفتي البارحة؟”
لم يكن الكونت من أجاب، بل الخادم هايلو الذي بدا وكأنه ينتظر هذا السؤال.
“الخادمة التي دخلت الغرفة البارحة هي إحدى الخادمات المسؤولات عن التنظيف. كنتُ قد أوصيتُ بأن تتولى لينزي ترتيب غرفة الآنسة، لكن يبدو أن تلك الفتاة نسيت ذلك. ارتبكت، وخرجت بسرعة دون أن تُرتّب ما أفسدته.”
“وأين هي الآن؟”
“الحقيقة أنها أخذت إجازة لتزور منزل عائلتها.”
‘إجازة؟ لكن قبل قليل قالوا إنها مريضة؟’
هذه التناقضات جعلت شكوكي تتزايد أكثر.
“ومتى ستعود؟”
كان كايلوس هو من تدخّل بعد أن ظل يستمع بصمت.
“ستعود بعد أسبوعٍ على الأرجح. فمسقط رأسها بعيد عن هنا. لو علمتُ أنها ارتكبت مثل هذا الخطأ لما سمحتُ لها بالذهاب… لكنها الآن تجاوزت الغابة بالتأكيد.”
نظر هايلو إلينا بملامح متورّطة، يتنقل ببصره بيني وبين كايلوس.
ثم عاد صوت الكونت الذي ابتعد قليلًا عن الحديث.
“وبما أنها ليست موجودة الآن، فسوف أعاقبها عندما تعود بعد أسبوع. أما أنت يا هايلو، وبسبب تقصيرك في إدارة من هم تحتك، فسوف تُخصم أجرتك لثلاثة أشهر.”
“حسنًا… فهمت.”
انحنى هايلو مطيعًا لكلمات الكونت التي جرت بسلاسة.
‘بعد أسبوع؟’
حينها سنكون أنا وكايلوس قد عدنا إلى العاصمة بالفعل.
وهذا يعني أنّه لن نتمكن من التأكد من وجود تلك الخادمة حتى.
لقد أنهى الكونت الأمر كله بمجرد قوله إنها في إجازة لزيارة منزل عائلتها البعيد.
بل وزاد بأن حمّل هايلو جزءًا من المسؤولية وعاقبه، وبذلك يكون قد فعل كلّ ما يجب فعله بصفته مسؤولًا عن القصر.
‘لهذا السبب بدأ بالحديث من تلقاء نفسه.’
رأيتُ العيون الرمادية بجانبي تنظر إليّ بهدوء.
ومثل لونها الباهت، لم أستطع توقّع ما الذي يخفيه الكونت في رأسه.
كان كايلوس أيضًا غير مقتنعٍ بكلام الكونت على ما يبدو.
“سأضيفُ تقرير العقوبة المتعلّقة بالخادمة لاحقًا.”
“لا بأس بذلك.”
أومأ الكونت برضا.
***
وفي النهاية، انتهى الفطور دون أي فائدةٍ تُذكر بشأن المتسلّل.
عاد الكونت فيديلت إلى مكتبه ليقدّم تقرير الإقطاعية كما كان مُقررًا، ودخل مع كايلوس.
أما أنا، فعُدتُ إلى غرفتي وجلست أمام الطاولة التي سقطت عليها المزهرية ليلة أمس.
كانت في المزهرية أزهارٌ جديدة تختلف عن البارحة. يبدو أن أحدهم استبدلها خلال فترة الفطور.
الأزهار الجديدة أيضًا كانت من أزهارٍ بريّة صغيرة مجهولة الاسم. وبتلاتها كانت شفافة متلألئة كأنها مقطوفةٌ لتوّها.
‘والآن بعد أن فكرتُ… حتى أزهار الأمس كانت تبدو حديثة القطف.’
نظرتُ نحو النافذة وأنا أتذكر خضرة سيقان أزهار الأمس. من نافذة الطابق الثاني، كان يمكن رؤية ساحة القصر الأمامية بوضوح.
لكن لم يكن هناك أيُّ أثرٍ للأزهار الموجودة في المزهرية.
لِجمع أزهارٍ بريّة نابضة بالحياة يوميًا رغم طقس الشمال القاسي، فلا بد لمن يفعل ذلك أن يكون ملمًّا تمامًا بتضاريس المنطقة.
وبينما كنتُ أفكر، مددتُ يدي وشددت الحبل المتدلّي من الباب لأقرع الجرس. فدوّى صوته العذب في الممر بأكمله.
طق طق–
“تفضّلي.”
دخلت الخادمة نفسها التي ساعدتني في تمشيط شعري.
“هل نادتني الآنسة؟”
“الشاي قد أصبح باردًا.”
أشرتُ إلى فنجان الشاي الذي برد تمامًا.
“هل أحضر شايًا جديدًا؟”
“أجل، سيكون ذلك جيدًا.”
“نعم، حاضر.”
“آه، لحظة.”
ناديتُ الخادمة قبل أن تستدير لتخرج.
“نعم؟”
أشرتُ إلى المزهرية على الطاولة.
“من أين تُقطف هذه الأزهار؟”
“آه… هذا…”
ترددت الخادمة قليلًا وكأنها تفاجأت بالسؤال.
“هناك فتاةٌ تتولى قطف الأزهار، لكنني لا أعرف من أين تحديدًا.”
“هل يمكنكِ سؤالها؟ أنا فضوليّة.”
“حسنًا… أرجو أن تنتظريني قليلًا.”
وبعد ترددٍ قصير، خرجت الخادمة مسرعة.
دق، دق، دق.
سُمعت خطواتها وهي تصعد الدرج.
وبينما خفتت الخطوات تدريجيًا، نهضتُ من مكاني بهدوء واتجهتُ نحو الخارج.
لم أمشِ سوى عشر خطوات في الممر المستقيم حتى رأيت الدرج الحلزوني عند نهايته. يبدأ من الطابق الأول ويصعد حتى الثالث، أعلى طابق في القصر.
وكان ذلك أيضًا إحدى غرائب هذا القصر. فمن الخارج بدا القصر مؤلفًا من ثلاثة طوابق.
لكن منذ وصولنا البارحة لم نستخدم سوى الدرج المؤدي إلى الطابقين الأول والثاني. لم يكن هناك أي درج يصعد أكثر.
في البداية ظننتُ أن هذا بهدف فصل حركة العاملين الذين يقطنون في الطابق الثالث، لكن غرفة الكونت ومكتبه كانا في الطابق الأول.
وكذلك، من أجل ضيوفٍ نادرين، هل سيضعون درجًا منفصلًا هكذا؟ الأمر غير منطقي.
وفوق ذلك، نحن أول ضيوفٍ للقصر منذ سنوات.
‘هل حقًا يقطن الخدم في الطابق الثالث؟’
اقتربتُ أكثر من الدرج.
وفي تلك اللحظة، عاد صوت الخطوات الهابطة من الدرج بصوتٍ مرتفع، يترافق مع صوتٍ خافتٍ داعب أذني…
التعليقات لهذا الفصل " 47"