كان الماء الذي لم يُمسَح بعدُ يتسرّب إلى أسفل الطاولة الموضوعة مباشرةً أمام النافذة.
يبدو أنّه ماءٌ انسكب من إناء الزهور الموضوع في منتصف الطاولة.
إناءٌ شفّاف من الكريستال، تزيّنه بضع زهرات بريّة مجهولة الاسم، بدا وكأنّ أحدهم أسقطه ثم أعاده إلى وضعه على عجل. وكانت الطاولة مبتلّةٌ بالكامل.
قرعتُ الجرس المعلّق على الباب فورًا. وما إن سمعت الخادمة رنينه حتى هرولت إليّ.
“ما الأمر يا سيدتي؟”
“هل دخل أحدٌ إلى هذه الغرفة اليوم؟”
“نعم؟ لا. لم يدخل أحدٌ هذه الغرفة اليوم.”
“إذًا مَن في الطابق العلوي؟”
“الطابق الثالث… غرف الخدم. لماذا تسألين؟”
تردّدَت الخادمة قليلاً وكأنّها تتحسّس شيئًا ما.
“إذن، هل يوجد بين الخدم مَن يملك هذا اللون من الشعر؟”
أريتها الشعرة التي سحبتها للتو من حافة النافذة.
“لا، على حدّ علمي لا يوجد. ربما تعود للخادمة التي كانت تعمل هنا سابقًا؟”
كانت تكرّر الجملة نفسها بتوتّرٍ ظاهر.
“حسنًا. يمكنكِ الذهاب.”
“حاضر، أتمنّى لكِ ليلة هادئة.”
خرجت الخادمة من الغرفة مرتبكةً وكأنّها لا تعرف كيف تتصرّف.
“شعرةٌ تعود لِمَن كان يعمل هنا سابقًا؟”
حتى لو كان الشعر كذلك، فإنّ آثار سقوط الإناء ليست كذلك. فضلًا عن النافذة المفتوحة.
“لا بدّ أنّ أحدهم دخل غرفتي.”
بدأ قلبي يخفق بعنفٍ خوفًا من هذا المتسلّل المجهول.
يبدو أنّ النوم براحةٍ في هذه الغرفة الليلة أصبح أمرًا مستحيلًا.
في تلك اللحظة…
رنّ الجرس برنينٍ خافت، وترافق معه طرْقٌ خفيفٌ على الباب. أمسكت طرف فستاني وشدَدتُه بيدي وسألتُ بصوتٍ مرتجف:
“مَن هناك؟”
“إنّه كبير الخدم يا آنسة.”
“هيلو؟ ما الأمر؟”
كان الواقف أمام الباب هو كبير الخدم هيلو. وما إن رأى أنّني فتحت له الباب حتى ألقى نظرةً سريعة تتفقّد الغرفة بعينيه.
“يقولون إنّكِ قلقةٌ من دخول أحدٍ إلى غرفتكِ اليوم.”
يبدو أنّ الخادمة لينزي قد نقلت الكلام إليه.
“عندما دخلتُ الغرفة، وجدتُ النافذة مفتوحة، وكذلك آثار الماء المتدفّق من إناء الزهور. ثم هذه الشعرة.”
رفعتُ أمامه الشعرة التي أخذتُها من النافذة. كانت بضع خصلات من شعرٍ بُنيّ داكن يلمع بوهجٍ غريب وهي تتطاير بين أصابعي.
ظلّ هيلو يحدّق بالشعر لحظة، ثم هزّ كتفيه بلا مبالاة.
“لا بدّ أنّها تعود لأحد الخدم.”
“لكن الخادمة قالت إنّه لم يدخل أحدٌ هذه الغرفة اليوم.”
“لينزي… تلك الفتاة جديدة، ولا تعرف الكثير بعد. يُحتمل أن يكون أحد الخدم قد دخل غرفة حضرتكِ بالخطأ. أعتذر أشدّ الاعتذار على هذا الإزعاج. كان عليّ أن أتأكّد مرّةً أخرى… سأحرص ألّا يتكرّر ذلك.”
عرض هيلو أن يستدعي الخادمة لترتيب الغرفة مجدّدًا، لكن الوقت كان قد تأخر، ولم أرغب بزيادة الإزعاج.
وبعد أن صرفته بصعوبة بعد اعتذاراته المتكرّرة، بدّلت ثيابي وتمدّدت على السرير، أتأمّل مجددًا ما قاله.
“شعرُ أحد الخدم؟”
لكن الخادمة أكّدت أنّه ليس كذلك. واقترحت أنّه قد يعود لمَن كان يعمل هنا سابقًا. وقد بدا الارتباك واضحًا عليها.
ما الأمر إذًا؟
هناك آثار لِمَن دخل الغرفة، لكن لم يُلمس أي شيء. لم تُمسّ أمتعتي، ولا مجوهراتي أو فساتيني القيّمة، ولم يُفقد شيء.
فهل دخل شخصٌ الغرفة ثم خرج بعد أن ألقى نظرةً فقط؟ كلما فكّرتُ، ازداد الأمر غرابة.
-“احذري من الكونت فيديلت.”
تحذير أبي بدأ يرنّ في رأسي.
“لحظة… إن كان أحدهم دخل غرفتي، فماذا عن غرفة كايلوس؟”
الاحتمال واردٌ جدًّا. فالعنصر الأهمّ بين الضيوف اليوم لم أكن أنا، بل هو.
إن كان أحدهم يستهدف أحدنا…
وبمجرّد أن وصلتُ لهذه الفكرة، فتحتُ الباب على عجل وخرجت إلى الممرّ. وتوجّهت إلى غرفة كايلوس المقابلة لغرفتي.
وقفتُ أمام الباب في منتصف الممرّ وطرقتُ بلطف.
“مَن هناك؟”
سمعتُ صوته من الداخل، حذرًا.
“إنّها أنا.”
“إلينيا؟”
فتح الباب وظهر هو أمامي. تنفّستُ الصعداء لرؤيته بخير.
بينما امتلأ وجهه بأسئلةٍ كثيرة حول زيارتي المفاجئة في هذا الوقت من الليل.
“ما الأمر؟”
“هل لاحظتَ أيّ آثار لِمَن دخل غرفتكَ؟”
“غرفتي؟”
“نعم. نافذةٌ مفتوحة، أشياء حُرّكت… أيّ شيء.”
“لا. لم ألاحظ شيئًا من هذا.”
ازدادت شكوكه وهو ينظر إليّ.
“هل حدث شيءٌ في غرفتكِ؟”
“لا شيء كبير… أعتقد فقط أنّ أحدًا دخل خلسة.”
“دخل خلسة؟ إلى غرفتكِ؟”
تحوّلت شكوكه إلى حذرٍ شديد.
“هل يعلم الكونت بذلك؟”
“لا أدري. الخادمة التي رافقتني، وكبير الخدم هيلو فقط. وربما يكون قد أبلغه. لكنه قال إنّ أحد الخدم دخل غرفتي خطأ.”
“وأنتِ تعتقدين أنّ الأمر ليس كذلك؟”
“هممم…”
تردّدتُ قليلًا قبل أن يُزيح جسده من مدخل الباب.
“ادخلي أولًا. وقوفك بهذا اللباس هنا ليس فكرةً جيّدة.”
نظر إلى ملابسي بنظرةٍ خاطفة. عندها فقط أدركتُ أنّني أرتدي قميص النوم تحت الروب.
“آه…!”
كانت الخادمة كايا قد أعطتني هذا الروب الثقيل بسبب برد الشمال، فأنقذني من موقفٍ محرج. لكن التصميم البسيط بدون زينة عند الرقبة والأكمام جعل بعض الجلد مكشوفًا… وكانت الرقبة أعمق جزء.
“ارتدي هذا.”
ناولني كايلوس عباءةً داكنة اللون.
“شكرًا لك.”
ارتديتُ العباءة فوق روب النوم، محاوِلة إخفاء ارتباكي. ولحسن الحظّ فقد غطّت فتحة الصدر تمامًا.
بعد أن تأكّد من أنّني ارتديتها، واصل الحديث.
“إذن أنتِ تعتقدين أنّ مَن دخل الغرفة شخصٌ غير الذي ذكره كبير الخدم؟ ما دليلُك؟”
“الخادمة قالت إنّه لم يدخل أحدٌ الغرفة. وبعدها جاء كبير الخدم ليقول إنّها لا تعرف الكثير بعد.”
“قد يكون كلامه صحيحًا.”
“صحيح. لكن أيّ خادمٍ يدخل غرفة، يفتح النافذة، ويُسقط إناء الزهور ولا يمسح الماء… ثم يغادر؟ الأمر يبدو كأنَّ…”
“كأنَّ أحدًا دخل خلسة ثم خرج على عجل؟”
أكمل هو كلامي.
“…نعم.”
“مفهوم.”
نظر إلى الفراغ وكأنّه يجمع الأفكار.
“ربما يجب أن يبقى هذا الأمر بيننا في الوقت الحالي. فما زلنا لا نعرف ما نوع الرجل الذي هو عليه الكونت. التهويل ليس فكرةً جيّدة.”
“هذا رأيي أيضًا. لكن ماذا لو أبلغه كبير الخدم؟”
“عندها سنراقب ردّ فعله. إن لم يكن الأمر مقصودًا، فسيبحث بنفسه عن الفاعل. أما إن كان مقصودًا…”
“سيتجنّب الحديث عنه.”
“بالضبط. وسيحاول دفنه.”
وهكذا، كل شيء يعتمد على موقف الكونت غدًا.
“غدًا سيقدّم الكونت تقريره عن الإقليم. سأحاول ملاحظة أيّ شيءٍ مريب أثناء التحدّث معه.”
“حسنًا.”
“إذن، ننهي حديثنا هنا…”
قطَع كلامه فجأةً وهو يحدّق بي.
“هل جئتِ إليّ في هذا الوقت… لأنّك خِفتِ أن يتسلّل أحدٌ إلى غرفتي ليؤذيني؟”
كان صوته المنخفض يلامس أذني كهمسة. وفي ضوء شمعةٍ واحدة فقط، التقت عينانا في الظلام.
كان أكثر جاذبيةً في الظلمة. حاولتُ أن أشيح بنظري عن وجهه، لكنّ الأمر كان صعبًا.
“بالطبع، يا صاحب السمو… فأنتَ خطيبي.”
وأنت الشخص الأهمّ بالنسبة لي.
الشخص الذي يجب أن يصبح إمبراطورًا… ليكتمل انتقامي. الشخص الذي سيُسقط تيسيوس إلى قاع الهلاك.
‘لهذا السبب بالضبط… أحتاج إلى حمايتك.’
وبمجرّد ترتيب الأفكار في عقلي، هدأ اضطراب قلبي.
“صحيح، أنا خطيبُكِ. وأنتِ خطيبتي.”
اقترب منّي خطوةً واحدة.
“لذا، هذا النوع من التصرّف…”
وصل نَفَسه إلى مسافة تلامس جبيني. مدّ يده نحو صدري.
“…!”
كانت يده تتجه نحو رباط العباءة التي ارتديتها فوق روب النوم.
كان الرباط قد ارتخى، وانفتحت مقدّمة العباءة قليلًا.
أعاد ربطه بإحكام، ونظر مباشرةً في عينيّ. ثم تحرّكت شفتاه ببطء.
التعليقات لهذا الفصل " 46"