قادنا رجلٌ مُسنٌّ يبدو أنّه كبيرُ الخدم، وهو يُسنِدُ الكونت، نحو غرفةِ الاستقبال الداخلية.
وأثناء تتبّعنا له، بدا لي أنّ عَرجَ الكونت في خطواته يزدادُ وضوحًا.
‘هل كان صحيحًا ما قيل عن إصابته في أثناء الحرب؟’
إن كان ذلك صحيحًا، فهل غادر العاصمة بسبب تلك الإصابة؟
حاولتُ أن أستحضر آخر صورةٍ رأيتُه بها في طفولتي، لكن ذاكرتي لا تسعفني سوى بذكريات طفلةٍ صغيرة كانت تختبئ خلف رفوف الكتب، ومن الصعب أن أتذكّر حتى طريقةَ مشيته آنذاك.
“كيف كان طريقكم إلى هنا؟ لقد أقلقني أنّ الطريقَ وعرٌ للغاية.”
“كان جيدًا. لم يكن سيئًا.”
بالطبع كان ذلك كذبًا. فكلُّ ما حدث داخل العربة المتمايلة ما زال ماثلًا أمام عيني.
“وأنا أيضًا لم أشتكِ من الطريق.”
قال كايلوس ذلك وهو يلقي عليّ نظرةً سريعة.
“هذا مُطمئن. لقد قلقتُ كثيرًا لئلّا تكون دعوتي سببًا في إزعاجكم.”
نظر إلينا الكونت بابتسامةٍ خفيفة وهو يجلس قبالتنا.
ولوهلةٍ خُيِّل إليّ أنّ نظره يميل إلى البقاء عليّ أكثر مِما يبقى على كايلوس.
ربّما بسبب ما قاله لي والدي مسبقًا، صرتُ أراقب حتى أدقّ تصرفٍ للكونت دون أن أشعر.
“سيدي الكونت، العشاءُ جاهز.”
أعلن كبيرُ الخدم الذي دخل مع طرقٍ خفيف على الباب عن اكتمال إعداد وجبة العشاء المتأخرة.
“لابدّ أنكم جائعون. فلنبدأ بالطعام أولًا.”
‘أخيرًا!’
كان خبرًا سارًا بحق. فمنذ الفجر، ونحن على متن العربة نصعد شمالًا بلا توقّف تقريبًا، ولم نحظَ بوجبةٍ مناسبة طوال الطريق.
مع أنّنا اخترنا المغادرة مبكرًا لنصل سريعًا، إلّا أنّني لم أتوقّع أن تكون الرحلة شاقّة إلى هذا الحد.
“لا يوجد الكثير مِمّا يمكن تقديمه، وهو ليس بتلك الجودة، ولكن آمل أن يجد طريقه إلى ذوقكم.”
جلسنا حول المائدة المغطاة بمفرشٍ أحمر، وقد ابتسم الكونت لنا.
صحيح أنّ عدد الأطباق لم يكن كثيرًا، إلّا أنّه لم يكن قليل الشأن كما وصف.
فقد وُضِع أمامنا حساءُ الدجاج الدافئ، والخبز، والخضار المُخلّلة بالخلّ، وسمكٌ صغير مُتبّل بالملح والتوابل.
وبالنظر إلى قلّة الموارد في الشمال القاسي، فقد كان واضحًا أنّ الكونت بذل جهدًا في إعداد الطعام.
‘إنّه هادئ.’
من الأمور الأخرى التي لاحظتها منذ وصولنا أنّ القصر بأكمله، بما في ذلك غرفة الطعام، كان غريبًا في سكونه.
ليس فقط من ناحية عدم وُجود أصوات، بل حتى رؤية الخدم كانت شبه معدومة.
باستثناء الخادمة التي كانت تملأ كأسي بالخمر، وكبير الخدم الواقف بجوار الكونت، لم يظهر أحدٌ آخر.
“يبدو أنّنا وصلنا متأخرين جدًا. فلا أحد هنا.”
يبدو أنّ كايلوس قد لاحظ ما لاحظته. فقد ألقى نظرةً حوله ثم التفت إلى الكونت.
“لا، الخدم موجودون جميعًا، ولكنّي لم أعد أحبّ الضوضاء الكثيرة مع تقدّم العمر.”
وأضاف أنّ إدارة القصر لا تتطلّب عددًا كبيرًا من الخدم. وبالفعل، من مظهره الخارجي، بدا ذلك منطقيًا.
‘هل يقوم الكونت بنفسه بإدارة القصر من الداخل؟’
عُدتُ بذاكرتي إلى الأشجار التي رأيتها عند المدخل.
ولم يكن ذلك فقط، بل كانت هناك تحفٌ وزينةٌ داخل القصر تعكس ذوقًا دقيقًا للغاية، بحيث يصعب تصديق أنها تعود لمحاربٍ حَسَم عشرات المعارك قبل عقودٍ قليلة فقط.
ذلك الرجل الذي حطّم جيوشًا على أرض المعركة، ولوّح براية الحرب إلى جوار الإمبراطور نفسه… لم أتوقّع أن يكون صاحب ذوقٍ بهذا القدر من الرقة.
لقد فهمتُ الآن ما كان يقصده الإمبراطور حين قال إنّ التجربة وحدها كفيلةٌ بأن تكشف الحقيقة.
“إن واجهكم أي أمرٍ يزعجكم أو يسبّب لكم ضيقًا أثناء إقامتكم، فأخبروني أنا أو هيلو مباشرةً.”
وأشار الكونت إلى كبير الخدم الواقف بجانبه.
“سأفعل.”
وبعد ردّ كايلوس القصير، خيّم صمتٌ كثيف على المائدة.
ولم يُسمَع في المكان سوى رنين السكاكين والشوك وصفير المضغ.
ولم يكن غريبًا عدم وجود الكثير ليتحدث عنه رجال التقوا أول مرةٍ بسبب عملٍ رسمي، ولكن بدا أنّ هذا الهدوء سيستمر حتى نهاية العشاء.
وبينما كان الصمت يضغط على الأجواء، شعرتُ أنّني أنا أيضًا قد أختنق بين الرجلين الجالسين معي.
فقررتُ أن أفتح موضوعًا ما لكسر هذا الجمود.
“أنت صديقٌ مقرّب لوالدي، أليس كذلك؟ أتذكّر أنّني رأيتكَ عدة مراتٍ في طفولتي.”
نظر إليّ الكونت بملامح تُظهر بعض الدهشة.
“هل تتذكّرين ذلك؟ لقد كنتِ صغيرةً جدًا في ذلك الوقت.”
“نعم. بالطبع أتذكّر. فقد كنتَ دائمًا تحمل لي الحلوى عند زيارتنا.”
استرجعتُ بصعوبةٍ أحد ذكريات طفولتي.
فمن بين أسباب قلّة عدد مرّات رؤيتي للكونت، يبقى أبرزها أنّه كان يُحضر معه إلى القصر أنواعًا من الحلويات لا تتوفّر إلّا في البلاط الإمبراطوري، وكان ذلك كفيلًا بأن يترك أثره في ذاكرتي الصغيرة.
كانت تلك الحلوى الملونة البديعة، ذات المذاق الخيالي، كافية لأن تنقش صورته في ذهني.
“وكيف حال الماركيز؟ آخر مرةٍ رأيته كانت قبل مغادرتي للعاصمة.”
قطّب الكونت حاجبيه كمَن يحاول تذكّر حادثةٍ قديمة.
“والدي بخير، وقد أوصاني أن أنقل لك تحيّاته.”
اختلقتُ الإجابة، فلا يمكنني قول: “والدي طلب مني أن أحذر.”
“أرجو أن تنقلي له تحيّاتي…”
دَررر—
توقّف الكونت عن الكلام فجأة. فقد سُمِع صوتُ شيءٍ يسقط من سقف الطابق العلوي.
رفعتُ رأسي على الفور تجاه مصدر الصوت.
“هل يوجد أحدٌ في الأعلى؟”
“لا، لا أحد. يبدو أنّ شيئًا ما سقط فقط. هيلو، اذهب وتفقّد الأمر.”
“نعم، سيّدي الكونت.”
غادر كبير الخدم القاعة متجهًا للطابق العلوي، بينما تابع الكونت حديثه وكأنّ شيئًا لم يحدث.
“صاحب السمو الدوق، ما رأيك بموعد تقرير أحوال الأراضي؟”
“الوقت متأخّرٌ اليوم. لنؤجّل الأمر للغد بعد طلوع النهار.”
“حسنًا، إذًا…”
كان الكونت وكايلوس يتحدثان عن جدول الغد، ولكنني لم أستمع لكل شيء.
‘كيف تسقط الأشياء فجأةً بينما لا يوجد أحدٌ في الأعلى؟’
أثار كلام الكونت شكّي.
فبحسب ما قاله، لا يوجد أحدٌ غير الخدم والكونت ونحن.
ورغم أنه قد لا يكون أمرًا مهمًا، إلا أنّ شعورًا غير مُريحٍ كان يرافقني منذ قليل.
فالخادمة التي كانت تملأ كأسي بالخمر اختفت فجأة.
وكبير الخدم هيلو همس في أذن الكونت عند بداية العشاء وكأنّه يخبره بأمرٍ ما.
ثم عقد الكونت حاجبيه للحظة كأنه انزعج من شيء، قبل أن يعود لملامحه الطبيعية.
‘هناك شيءٌ بالتأكيد.’
شعرتُ بانقباضٍ مزعج في صدري.
“لنُكمل الحديث غدًا إذًا.”
مسح الكونت فمه بالمنديل، ثم مدّ يده نحو عصاه الموضوعة بجانبه.
“لابدّ أنكم متعبون بسبب السفر. عودوا الآن واستريحوا. هيلو ولينزي سيرافقانكم إلى غرفكم. أراكم غدًا.”
وعند مدخل القاعة، ظهرت الخادمة مجددًا بجوار كبير الخدم، وكأنّها لم تختفِ قط.
اتّبعنا تعليماتهم وتوجّه كلٌّ منّي ومن كايلوس إلى غرفنا.
كانت غرفتي في الطابق الثاني، وغرفة كايلوس تقع في الجهة المقابلة من الممر.
“هذه هي الغرفة التي ستقيمين فيها يا آنسة. إن احتجتِ شيئًا، ما عليكِ سوى شدّ الجرس.”
كان الجرس معلّقًا داخل الباب، بحيث يمكنه إصدار صوت بمجرد فتح الباب قليلًا دون سحبه حتى.
ما إن غادرت الخادمة ودخلتُ الغرفة، حتى شعرت بتيارٍ باردٍ يهبُّ من مكانٍ ما.
“من أين تأتي كل هذه البرودة…؟”
وبعد أن ألقيتُ نظرةً حول الغرفة، اكتشفتُ السبب سريعًا.
كانت هناك نافذة خلف الطاولة مفتوحةٌ قليلًا، يتسرّب منها الهواء البارد.
اقتربتُ منها وأغلقتُها.
ولمّا حاولتُ سحب الستار، لاحت لي ومضةٌ صغيرة في زاوية إطار النافذة.
مددت يدي وسحبتُ الشيء العالق هناك.
كان بضع خيوطٍ من شعرٍ طويلٍ بلونٍ داكنٍ يميل إلى البني، يلمع كحبّات الرمل تحت الضوء.
ولكن الخادمة التي أوصلتني كانت بشعرٍ برتقاليٍّ فاتح…
‘إذًا ليس شعرها.’
“آه! بارد!”
تراجعتُ خطوةً إلى الوراء، وقد لامست ساقي فجأةً برودةٌ حادّة…
التعليقات لهذا الفصل " 45"